أحمد ذو النورين
بعد وضع اللمسات الأخيرة على آخر فصول لعبتها الديمقراطية بتعيين حكومة مبالَغ في ضعفها وانعدام تجربتها حسب خبراء السياسة عاشت موريتانيا أزمة أمنية متفاقمة، حين تفجرت قضية المخدرات، التي قلَّ أن تشهد دولة في العالم مثلها حجماً ووسائل (طائرتان وباخرة وزهاء مليون يورو ومئات ملايين الأوقية وعشرات السيارات وعبوات كبيرة من وسائل الاتصال ... ) ، والأدهى والأمرُّ من ذلك ما كُشف عنه من خيوط تبين ضلوع شخصيات نافذة على مستوى الهرم السياسي بشكل مباشر في هذه المشكلة.. في الوقت الذي تتالت فيه أسابيع من العطش المهلك والظلام الدامس على مدينة انواكشوط عاصمة موريتانيا إثر انقطاع المياه والكهرباء، حتى كادت أن تتحول إلى مدينة أشباح. ناهيك عن جملة كبيرة أخرى من القضايا التي ظلت البلاد تعاني منها منذ عهد ولد الطايع، ولم تعرف حلاً خلال الفترة الانتقالية.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيدُ
في خضم هذا الليل المدلهم والأفق الحالك لم يكن من الحكومة الجديدة إلا البحث عن بديلٍ جديد يصرف اهتمام الرأي العام عن كبريات الأزمات خاصة قضية المخدرات، التي تعد اختباراً حقيقياً لقدرة هذه الحكومة وكفاءتها، ومعياراً دقيقاً لقياس قوتها على تجاوز المعضلات ـ بديلٍ يحظى بالاهتمام نفسه وتقل مزالق الخوض فيه.
فوقع الاختيار على قضية بالغة الأهمية بالنسبة للشارع الموريتاني ... إنها قضية سجن العلماء الذين قبعوا في السجن تعسفاً منذ وقت طويل، دون أن يعرفوا محاكمة أو إنصافاً أو إنسانية بعد أن استُثنوا من العفو الرئاسي الصادر بُعَيْدَ انقلاب أغسطس 2005م.
وظلت السلطات الانتقالية خلال حكمها تماطل في تقديمهم للمحاكمة، فتعرضوا خلال ذلك لأبشع أنواع التنكيل وأفظع صنوف التعذيب من استخدام المناشير الحديدية وإطفاء السجائر في أماكن حساسة من الأجسام، إلى الاغتصاب والازدراء وسوء المعاملة ... {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] . يقدَّم اليوم هؤلاء للمحاكمة لا رغبة في إنصافهم، ولا سعياً إلى معاملتهم بعدل، بدليل شكاواهم المتطابقة من ضباط شرطة صرحوا بأسمائهم خلال المحاكمة ساموهم سوء العذاب أثناء التحقيق، ورغم الآهات والصيحات ومطالبة المحامين وذوي السجناء بالانتصاف من الظالمين، فإن هؤلاء الضباط لا زالوا مبجلين في عز وظائفهم، دون أن تستدعيهم العدالة لتبرئة ساحتهم، ولو من خلال التلفيق والكذب الذي عهدوه، كما تشهد عليهم محاضرهم بذلك.
لقد قُدِّم العلماء للمحاكمة بوصفهم كبش فداء لمافيا المخدرات في عهد الحكومة المنتخبة، كما سُجنوا من قبل قرباناً لمتصهيني البيت الأبيض في عهد ولد الطايع والحكومة الانتقالية.
لم تشمئز عدالة موريتانيا من الصور المروعة للتعذيب الذي تعرض له العلماء، ولكن لما تناولت بعض وسائل الإعلام الفرنسية موضوع محاكمتهم وشككت في جديته، وذكرت أن الأحكام في حقهم معروفة مسبقاً، وأن محاكمتهم ستطول ولن تكون نتائجها عادلة، ثارت لذلك ثائرة عدالة موريتانيا الميمونة، ورأت أن هذه المحاكمة باتت محفوفة بالمخاطر، ما دامت وسائل إعلام أجنبية تناولتها، فإما العدل والشفافية، أو الفضيحة والعار البوار.
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
خرقاء تنفر من صفير الصافرِ
كان هذا الرأي السائد أثناء سير المحاكمة، غير أن النتائج جاءت عكس هذا التصور، بفضل من الله تعالى، ثم بجهود مشتركة من محامي الدفاع الذين كان لهم دور بارز في الذود عن هؤلاء، إضافة إلى بعض القضاة المنصفين الذين تحلّوا بالمسؤولية والنزوع إلى العدل، والذين من بينهم من ذكر أن الانتماء للعقيدة السلفية ليس تهمة يجرم عليها القانون الموريتاني..، وأن الدولة الموريتانية تعتنق النهج السلفي، وأن ذلك يعكسه نشيدها الوطني. إن تبرئة العلماء وإخراجهم من سجن ظالم جائر قبعوا فيه طيلة سنوات عجاف؛ بلا شك سيضفي مصداقية على الحكومة الجديدة بقيادة رئيسها (سيدي ولد الشيخ عبد الله) وسيمنحها بُعْداً شعبياً له تأثيره.