محمد مصطفى المقرئ
لا ينازع أحد في حتمية ترتيب أولوياتنا وفق معطيات الواقع وباعتبار تقدير المآلات؛ فالاستطاعة وتحقيق مقاصد الشريعة (مصالحها) حدّان ضابطان للواجب كيفما كان، ومعياران ملزمان للمكلف على كل حال، وعلى أساس من ذلك تتحدد قائمة أعمالنا وسلسلة أولوياتنا.
والذي أريد أن أنوِّه عليه هنا: كون ترتيب هذه الأولويات لا يقتضي إهمال المتأخر منها؛ فبعضها ـ وإن كان مطلوباً على التراخي ـ غير أنه لا يُنتظَر له أن يتحقق في حينه الموائم هكذا من فراغ، أو أن تُختَزَل مسافات تكوّنه واكتماله في لحظة حلول دوره (ضربة لازب) ، وبلا أصول يتطور عنها ومراحل نمو يتدرج خلالها، فذلك كله مخالف لسنن الوجود، وسبحان الذي: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [فصلت: 9 - 12] .
ألم ترَ أنك إن رغبت في ولد صالح يدعو لك حين ينقطع عملك، وتتوكأ عليه عند ضعفك وكبرك.. توجَّب عليك ـ لا ريب ـ أن تستنبت بَذرته الآن وإن لم تجنِ ثمرتها من تَوِّك؟
ستختار له المنبت: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] ، وستبذر وتحرث وتسقي، فإذا ما نبت واليْتَه بالعناية، وكفلته بالرعاية، ونقيت له محيطه من كل فساد ودغل، وحميته من كل شر وخطر، وحطته بالحذر من جهاته الأربع، حتى إذا بلغ أشده واستوى ـ وقد آن أوان جنيك ثمرة التعب ـ وجدته قد وافاك وأنت في أمس الحاجة إليه.
أتراك فاعلاً كل هذا جملة واحدة، دفعة واحدة، حينما تحل لحظة حاجتك تلك؟!
وكذلك الحاذق من الناس؛ يرصد قمح الصيف للشتاء، ولكنه لا يؤخر حرثه ليوم حصاده، ولا يتواكل على أنه قد كُفِيَ يومَه أو سنتَه، ولا يُسوِّف أنه الآن في غنى عن مشقات الفلاحة، أو أن ما يلزم إنجازه على الفور مقدم على ما لا حاجة لنا فيه الساعة.
إن مراداتنا كأمة قد تستغرق جيلاً أو أكثر، أو بعض جيل، وكثير من هذه المرادات لا يحتمل التأجيل، لا من جهة الانتهاء ولكن من جهة الابتداء.
فقد نتفق ـ مثلاً ـ على إرجاء إنفاذ تصور ما، غير أن هذا الإرجاء مقدر بوقت ـ قصر أو طال ـ أو هو مؤجل التقدير بحسبه وبحسب ما يلفه من معطيات وتقويمات، ولكن تبقى هناك بدايات لا بد من الشروع فيها، والتدرج من نقطتها، والتحرك من خط انطلاقها شيئاً فشيئاً، إلى أن تجتمع لنا عناصر الاكتمال، ناهيك عما يتصل بذلك التصور من تصورات داعمة مهيئة لأنْ تنجز، ومن غير أن يتصل بإنجازها ضرر أو مفسدة، أو تأخير لما هو أولى.
خذ مثلاً:
يرصد المتابع نضجاً ملحوظاً يتجه بجماعاتنا الإسلامية ـ أو بقطاعات منها ـ إلى التسليم بضرورة تحركنا كأمة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، ما من شأنه تكريس القناعات بأنه لا خروج من التنازع والفشل إلا من خلال مرجعية موحدة؛ وإن تعددت أطيافها، وهذا أمل عريض لا يتم بضغطة (زر) ، ولا ينشئه مجرد قرار أو بيان، ومن جهة أخرى: لسنا نقدر له عمر إنجاز قصيرٍ، كي ننظر في مناسبته للمرحلة الراهنة من عدمها.
إن لهذا الإنجاز متطلبات تربوية هي أعمق في أبعادها من الهيكلة التنظيمية واللوائح الداخلية وسائر آليات التكتل والاجتماع.
والمطلوب أن نوافي لحظة الإنجاز النهائية ـ في حينها المناسب المختار ـ وقد استوفت مناهجنا التربوية مقاصدها، وبلغت من إعدادها لنفوس المجتمعين ما يؤهلهم لمشروعها. مطلوب أن ترتقي تربوياتنا بوعي جيلنا الناشئ فوق ما قصَّر عنه جيلنا والأجيال قبله؛ كي نكون أكفاء لهذا الانصهار الكبير في الجسد الكبير.
ألا فلنرفع القواعد، بانتظار أن يحل الموسم لنؤذِّن في الناس: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] «وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله» (1) .. فيلبوا.
وقِس عليه..
فكثير من الغايات والأهداف قد تتوفر إمكانية تحقيقها، ولكن يكون إتمام إنجازها في ظرف بعينه موضعَ نظر، أو يفتقد تحقيقها في مرحلة معينة شرط الملائمة والتناغم، فيصطدم مع طبيعة تلك المرحلة ويناقض أهدافها. غير أن الذي أعنيه ـ هنا ـ ليس تمام الإنجاز واكتمال نضجه واستواءه على سوقه، بل مكوناته وممكناته الأولية التي لا يشملها هذا الاعتبار السابق؛ فهذه يلزمنا إنجازها لمعنيين: الأول: قيمة الوقت. والثاني: الأثر الإيجابي لتزامن وتوازي الأعمال على الأعمال نفسها، سواء بالنسبة لكل منها على حدة، أو بالنسبة لها مجتمعة.
ثم إنه قد بقيت نقطة مهمة تتصل بالمثل المضروب، وبالمعنى المراد:
أقول: هذا الكم الهائل من الأفكار والأطروحات الذي يملأ علينا ساحاتنا ومكتباتنا..؛ ما السبيل إلى جمع الناس عليه، مع تعدد آرائهم في مفرداته، وتباين مواقفهم منها؟ أَوَ غير المرجعية الموحدة للأمة الواحدة سبيل لجمع الناس؟
إن المرجعية التي ننشد ليست إلغاءً للتعدد الكائن في ساحتنا الإسلامية ما بقي هذا التعدد مصلحة لجماعاتنا؛ فإن يكن بهذا الاعتبار قبلناه وباركناه، وإلا فهو معوق رئيس لمشروع وحدتها، كما أن مصلحته من جهة الأصل هي ـ أيضاً ـ مؤقتة، وقد تستدعي مراعاتها ـ في مرحلة ما ـ إذابة تلك الكيانات ودمجها في دائرة الأمة، وليس بغائب أن الولاء في هذه الدائرة ينبغي أن يُقدَّم على كل ولاء حزبي خاص، حتى مع بقاء التعدد في ساحتنا الإسلامية.