مجله البيان (صفحة 5971)

وقفات في أحوال الدعاة

عبد الله سعيد القحطاني

منذ عقود عديدة يتعرَّض المجتمع الإسلامي لأصناف من التضييق الدعوي، يختلف باختلاف الزمان والمكان، وما ذاك إلا من أجل وَأْد مسلَّمات هذا الدين، ومزجه بالشهوات والشبهات على حسب الأهواء. وقد يتبنَّى حدوث الأزمات في حياة الدعاة جملة من الأديان والفِرَق والمذاهب والجماعات، حيث يكون لها النصيب الأكبر في إيقاد فتنة عميقة في البلد، حتى يكون نتاج ذلك فجوة بين الدعاة أنفسهم، وبين الدعاة والمجتمع..

وفي هذا المقال أضع بين يدي الداعية بعض الخواطر التي أرجو أن تكون بَلْسماً ناجعاً لكل الدعاة، وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.

- الرموز الدعوية:

الله ـ عز وجل ـ يهيِّئ للناس دعاة إليه ـ سبحانه ـ؛ بدءاً بالأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانتهاءً بأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.

والصف النفاقي، وعشّاق الحسد، لا يألون جهداً في إطفاء المعالم التي ينطلق من خلالها الدعاة؛ سواء كان ذلك من الجانب الاجتماعي، أو من الجانب النفسي، أو من أي جانب يُسْقط مكانة الداعية، أو يقلِّل من جهوده وطاقاته.

ومن الأمثلة على ذلك: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أوجد الصفُّ النفاقي ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَيّ ـ أسلوباً في إسقاط مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك باتهام عرض أمّنا عائشة رضي الله عنها، وقد خابوا وخسروا في استغلال ذلك، فهذا هو أسلوبهم؛ فهم مثل الذباب لا يقعون إلا على المستقذَر، يحاولون جاهدين النيلَ من الرموز الدعوية، ولو كان ذلك على حساب الأعراض.

وعشّاق الحسد، وأساطين النفاق، يقودهم الغيظ، حينما يرون أن لمثل هذه الرموز واجهة فعلية لهذا المجتمع، مما يقودهم ذلك إلى (إثارة البلبلة في الصف الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسلمين، وذلك من خلال الانسياق في بحر الأزمات، مما يولدُ حالةً من عدم الثقة بين المسلمين؛ فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدق، ويكون صراع داخلي، وهذا الصراع يزيد من الفرقة بين الأمة، مما يسهل تسلُّط الأعداء، والابتعاد عن القيادة الدعوية، وذلك يولدُ حالةً من الإحباط النفسي بين الصفوف، والضعف والاستكانة أمام العدو) (?) .

(وكذلك صرف اهتمامات القيادة الدعوية من أمور الدعوة إلى الفتن والأزمات الداخلية يشعل الأزمة في أي مجتمع؛ فتتعطّل حركة التنمية ومسيرة العطاء مدةً من الزمن، تطول أو تقصر حسب حجم هذه الأزمة وآثارها، ما لم يتم العمل حسب الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الأزمة. والمجتمع الإسلامي حالهُ حال أيّ مجتمع في ذلك؛ فالأزماتُ تعطِّل عجلة العطاء، وتهدر الكثير من الطاقات والوقت، ويفقد الصف الإسلامي بسببها الكثير من الإنجازات التي تمَّ تحقيقها؛ فبعد انتصاراتٍ عظيمة حققها المجتمع الإسلامي؛ بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجبهات العسكرية، أو على جبهة بناء المجتمع المسلم، أو على الصعيد الدعوي، نجد الصف النفاقي يُحدث مثل هذه الفتنة؛ لكي يصرف اهتمامات القيادة الدعوية، من إرساء دعائم المجتمع المسلم إلى إشغاله بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها) (?) .

- تهويل أخطاء الدعاة:

الإنسان معرَّض للخطأ، ولا شك أن الأخطاء تتفاوت بحسب حجم العمل، مما يجعلنا نربِّي أنفسنا على النظرة الواقعية للعمل؛ سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأعمال المؤسسية.

فمن الإجحاف أن نجعل الخطأ خطيئة لا تغتفر، والزلَّة في مرتبة العزل والمنع، ولا شك أن تعميم الخطأ هو شهوة العاجزين والحاسدين، وفي مخيلة الإنسان مواقف كثيرة تثبت أن أسلوب التعميم في الخطأ أسلوب جرى عليه الكثير من المؤسسات الحكومية والمسؤولة، وأصبح لديهم عشق لخبر أيِّ زلّة أو خطأ يصدر من الدعاة أو من أيِّ عمل مؤسسي.

حيث إن أداة تفعيل المكر وإشاعة الخطأ فنٌّ يجيده صغارهم، مع أن أبواب التحكم لديهم مهيَّأة لهم؛ وذلك من خلال الصوت الإعلامي، والسلطة والمكانة، مما يجعل ذلك فرصة لهم في أخذ الحرية في إكمال السير، وتحقيق الهدف.

وعلينا ـ كأفراد ومؤسسات ـ أن نعالج الأخطاء التي تصدر من أفرادنا ومؤسساتنا بشكل إيجابي، مع إظهار الأُطر الإيجابية للمجتمع عند إظهار خلاف ذلك، ونحن لا نبرِّئ الرمز الدعوي من عدم الوقوع في الخطأ؛ فهو يبحث عن معالجة الأخطاء التي بدرت منه سواء كان ذلك من خلال الكلام أو السلوك، أو يبحث عن المعالم التي تبتعد به عن الوقوع في تهمة تُثار عليه في دعوته.

- الرموز الدعوية وفقد التوازن:

لما تهبّ عاصفة قوية على الرموز الدعوية، فإن ذلك يشكل ثَلْماً واضحاً في صفوف الدعاة والمجتمع ككل، بل قد يؤدِّي إلى حدوث إبادة كلية لأيِّ عمل دعوي، وهذا أمر طبيعي عند حدوثه مباشرةً. والمطلوب من الصف الدعوي أن يصنعوا التوازن عند حدوث الحدث، وكذلك التعامل معه في قالب يشكل الاستمرار في العمل الدعوي، وعدم الانحناء أو الفتور.

ومن الطبيعي أن يشكل المجتمع الذي يبجِّل هؤلاء الرموز نوعاً من الحماس، وذلك للمكانة التي يحملها في نفسه تجاه هؤلاء، ولكن من الحكمة أن يفعل هذا الحماس فعلاً إيجابياً؛ من أجل أن ينصر الحدث، أو يقلِّل من استمراره؛ لأنه في حال فقد التوازن في التعامل مع أي حدث دعوي، يجعل هناك خسائر دعوية على جميع الأصعدة؛ سواء كان ذلك من النشء الدعوي، أو من الأعمال والترتيبات الدعوية، أو ذهاب فترة زمنية لم تُحقَّق فيها مصالح دعوية، أو تبدّد المكاسب والإنجازات من ذي قبل، أو حدوث الفجوات بين الرموز الدعوية باختلاف أعمالهم وشخصياتهم. ومن الأهمية أن لا يفقد التوازن مهما استمرَّ التيار المقاوم، وأن يستمر سلّم العمل الدعوي باختلاف أساليبه.

- سدُّ الثغور:

لا شك بأن عزل الدعاة عن المنابر الدعوية ثُلْمةٌ واضحة في تاريخ المجتمعات، وأسلوب بارد لتجميد منابع الخير، ومنحة سانحة إذا استغلّت استغلالاً جيداً؛ لأننا نخشى من أصحاب الفكر السيِّئ، ومريدي الانفتاح والشر، أن يشمِّروا لسدِّ ثغور أهل الدعوة والخير.

وراعي الشاه يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاةُ لها الذئاب

وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأيام وصفاً دقيقاً كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعاتٌ، يُصدًّق فيها الكاذبُ، ويُكذًّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائنُ، ويُخوًّنُ فيها الأمينُ، وينطقُ فيها الرُّويبضَةُ، قيل: وما الرُّويبضَةُ؟ قال: الرجل التافهُ يتكلمُ فى أمر العامَّة» (?) .

- صبراً أيها الدعاة:

يقول صاحب (ظلال القرآن) : (إن موكب الدعوة إلى الله الموغل في القِدَم، الضارب فى شعاب الزمان، ماضٍ من الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب، مستقيم الخطى، ثابت الأقدام، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء، وتتمزق الأشلاء، والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يجيد، والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين» (?) .

يأمر الله ـ جلًّ وعلا ـ بالصبر في عشرين موضعاً من القرآن الكريم؛ مرةً بصيغة (اصبر) ، وهي ثماني عشر، ومرةً بصيغة (اصطبر) ، وهي اثنتان.

أما الصبر فقد ورد في نحو تسعين موضعاً في القرآن الكريم؛ فهو أكثر خُلُق تكرر ذكره في كتاب الله ـ عز وجل ـ. ولنقرأ معاً بعض هذه الآيات الكريمة:

قال ـ تعالى ـ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . [الأحقاف: 35]

{وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] .

{فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .

{وَاصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] .

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] .

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] .

{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] .

{فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] .

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .

{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5] .

ثم يأتي الأمر بالصبر بعد النبي إلى الأمة في آيات كثيرة أيضاً:

يقول الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .

- كلمة للظالمين:

(وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب فما هم أبداً بمُفْلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش، ومهما زاد ظلمهم وانتعش، فكما أن الله ـ تعالى ـ جعل الابتلاء سُنّة جارية ليميز الخبيث من الطيب، فقد جعل أخذ الظالمين ـ أيضاً ـ سُنّة لا تتبدَّل ولا تتخلف، فكل هذه القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ومن وسائل الإبادة والتدمير مَثَلُها: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] .

نعم؛ فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة؟!

أين فرعون الذي قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] ، واستخفّهم بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51] ! فأجراها الله من فوقه؟!

أين نمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم ـ عليه السلام ـ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ؟!

أين قارون الذين قال في خيلاء وكبر واستعلاء: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] ؟!

وأين عاد وأين ثمود؟! وأين أبو جهل وأبو لهب؟!

{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] .

فيا أيها الظالمون! يا أيها المجرمون!

محالٌ أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون، فاعملوا ما شئتم فإنا عاملون، وجوروا فإنَّا إلى الله مستجيرون، واظلموا فإنَّا إلى الله متظلِّمون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .

ولله درُّ القائل:

أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟

أين من دوّخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان؟

هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزته أو هل نجا منه بالأموال الإنسان؟

إذاً:

فلا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى النّدمِ

تنامُ عيناك والمظلومُ منتبهٌ يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ

أيها الظالمون!

اتقوا دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب؛ فإن الله ـ تعالى ـ يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: «وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» ) (?) .

بشرى للدعاة:

قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . [الصافات: 171 - 173]

فلئن عرف التاريخ أَوْساً وخَزْرجاً فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ

وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرة رغم المكائد تخرجُ

إن الدعاة الصادقين من تمَّ عزلهم وإيقافهم، لكن نور علمهم ودعوتهم السابقة تسدُّ مكانها، وتحذو حذوها، حتى وإن لامس جوَّ الدعوة شيءٌ من الفتور، إلا أن نور الفجر سيسطع ويشعُّ ضوؤه، كقدوم النهار على الليل. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] . ولتكن مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع البلاء في مخيّلة كل داعية؛ حتى تهون الأمور، ويعظم الأجر، وتتحرك الهمم، وتستمر الدعوة.

هذا ما أردت الدّلو به لنفسي، ولإخوتي الدعاة، علَّ الله ـ تعالى ـ أن يجعل ذلك وسيلة من وسائل تجاوز الأزمات الدعوية، ومفتاحاً في تخطِّي مصاعبها.

تمَّ الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلا والجود

وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015