فيصل بن علي البعداني
زرت بلداً عربياً فحكيت لأحد أهل العلم الفضلاء فيه عجبي من واقع بعض الدعاة المنتسبين إلى التيارات الدعوية ومؤسسات العمل الخيري وما يتسم به كثير منهم من محدودية في النظر، وضيق في الأفق، وتعصب مقيت أدى إلى ازدرائهم الآخرين، ونظرة دونية لأعمالهم، وعدم الفرح بشيوع الخير عن طريق غيرهم ... فتأوه قليلاً، ثم قال: لا تعجب يا أخي! فإن مؤسساتنا الدعوية والخيرية كالخشبة المحمولة، والدعاة حولها على صنفين: صنف يحملها، وصنف تحمله. فأمَّا الذي يحملها فإنك تجده فرحاً بكل من يأتي ليعينه في حملها، بل إن بعض عقلاء هذا الصنف تجدهم دوماً يسبرون العدد الذي يشاركهم في حملها؛ فإذا رأوا فيه كفاية تخلوا عن مواقعهم لغيرهم وهم جذلين، وبحثوا عن خشبة أخرى لا يكفي من يحملها فحملوها. وأما الذي تحمله فهو متعلق بها مع تظاهره بحملها، وأنت لاقٍ هذا الصنف دوماً يحاول أن يحول بين الدعاة والقرب من الخشبة؛ فإذا اتجه أحد نحوها تضايق غاية التضايق ظناً منه أنه سيفعل كفعله، وعندها ينفضح حاله، ويتجلى عواره، ولا يتمكن من الاستمرار في تعلقه.
واستطرد قائلاً: ولو تأملت في خِلال الجادين من أصحاب الصنف الأول القائم بتلك المؤسسات الدعوية والخيرية من عامة المنتمين للعمل الإسلامي لرأيت أن من أبرزها في الغالب الأعم ـ مع أن مدار الأمر على صلاح النية والسلامة من الأهواء والتخفف من حظوظ النفس ـ: امتلاك حظ وافر من العلم والمعرفة أو مقدار معتبر من الخبرات الدعوية والتربوية أو جانب ذي بالٍ من الملاءة المالية أو المنزلة الاجتماعية ... ونحو ذلك من جوانب القوة الذاتية التي تجعل المرء في موقف المعطي في خدمة الدعوة ونشرها وحمايتها بما يجيد أو يملك من جوانب القوة بكل انضباطٍ وتفانٍ، ولذا تجد هذا الصنف الموفق ينهض بتيارات العمل الإسلامي ومؤسساته الدعوية والخيرية التي ينتمي إليها دون أن يأخذ في اعتباره أن يثبِّت نفسه ويوطِّن قدمه في مواقع من مواقعها الإدارية التي قد تعود عليه بجاه أو مصلحة.
وتجده حين يختلف مع بعض من فيها من ذوي النفوذ أو القرار يبادر إلى ترك موقعه فيها بعد إبداء النصح من دون إحداث جَلَبَة أو جلجلة مع استمرار خدمتها وتقديم العون لها والحرص على استمرار نفعها.
وتجده مفتاح خيرٍ يشجع كل أحد على إتيان الخير وبذل المعروف مع تقديم ما يقدر من خبرة ومعونة ونصيحة سواء أكان منتمياً للمؤسسة التي يعمل فيها والتيار الدعوي الذي هو مقتنع به أم لا.
أما الصنف الآخر فلو تأملت في حاله لوجدته يقوم على مؤسسات العمل الدعوي والخيري ولا يقوم بها، ولذا فهو يخاف على مصالحه ومركزه باسم الخوف على الدعوة ومكتسباتها من أن تمس بسوء أو أذى. وآية هذا الصنف أن عامة عمره مفني في الحديث عن جلالة العمل المؤسسي وضرورة العمل في إطار فريق واحترام قيادات العمل الدعوي وعدم نقدها أو الاعتراض على رأيها مهما بدر منها من زللٍ بذريعة الخوف من تفرق الصف وتشتت الكلمة وسخرية الأعداء، وترى كثيراً منهم بمرور الوقت يخرج عن النَّصَف ويزداد في هذا الجانب غُلُوّاً يُصَيِّر الوسائل غايات والغايات قشوراً وترهات.
وإضافة إلى ما ذكرتَ من ازدراء الآخرين وعدم الفرح بالعمل للدين إن لم يخرج من العباءة التي ينتمون إليها؛ إن لم يصل الأمر إلى ممارسة التضييق والتشويه المتعمد والوشاية الظالمة على من ليس تحتها.. تجد الضيق بالحوار الناضج والنقد البناء والمناصحة المسؤولة، والوصاية على مصلحة العمل الدعوي والخيري وكأن أحداً لا يهمه أمرها غيرهم، والإغراق في تقديس القيادات والرموز، وتقريب أصحاب هزِّ الرؤوس الذين يؤمِّنون على الأقوال والأطروحات التي يتلقونها ويتفانون في فرضها والدفاع عنها في أروقة العمل الدعوي والخيري ثقة بمن يمليها عليهم من دون ما فهمٍ أو استيعاب لواقع أو دليل.
قال: والإشكالية من وجهة نظري ليست في وجود هذا الصنف؛ إذ ما فتئ محبو الخير من الجهلة وذوي الأفهام المحدودة وأصحاب المصالح المشوبة موجودين في كل مكان وحين، ولا بد من استيعابهم والإفادة منهم.. ولكنها كامنة في تصدُّر تلك الفئة وتغلغلها في بعض المواقع القيادية للعمل الدعوي والخيري، وهي قضية إن لم يبادر إلى معالجتها شجعان النَصَحَة المدركون لواقع العمل الإسلامي فإنَّ جوانب الضعف ستتفاقم ويزداد الأمر سوءاً، وعندها سيبكي كثير من المخلصين، ولكن بعد خراب الديار وفوات الأوان، لا قدر الله عزَّ وجلَّ.
فقلت عندها لذلك الجليل: ما السبيل إلى معالجة هذا الإشكال وتجاوزه وأنت راءٍ عمقه وخطره وسط درة أمتنا المضيئة: التيارات الدعوية والمؤسسات الخيرية؟
فأجابني قائلاً: لا حلول سحرية، ولا بد أن يأخذ الزمن مداه في عملية المعالجة؛ لأن البناء دوماً أطول وأشق بكثير من الهدم؛ فكيف إذا تلبَّس الباطل بأثواب الحق ووقع بعض الأخيار في شيء من الباطل، وتطلَّب الأمر عملية إقناع ثم هدم فبناء؟ مما يعني أن قناعة المعالج وإدراكه لحجم الخطأ ومقدار الخطورة لا بد أن تكون عالية، وعزيمته لا بد أن تكون ماضية، وتجرده لله ـ تعالى ـ وجرأته في قول الحق لا بد أن تكون قوية، ووجود المعين المسدد على امتلاك مزيد من التدبير والحكمة أمر في غاية الضرورة، وسرعة المبادرة وإدراك أهمية الوقت وإلحاح المرحلة لا بد أن يكون جلياً. هذا من جهة المقومات الأساسية في من يتصدر للمعالجة.
أما من ناحية عامة؛ فالظاهر لي أن المعالجة تتعلق بأكثر من جانب؛ إذ لا بد من:
3 تشجيع النقد البنَّاء، وفتح أبواب المناصحة، والإعانة على ممارسة الحسبة المسدِّدَة على العلماء والدعاة وفي أروقة تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته الدعوية والخيرية.
3 إعادة الدور القيادي للعلماء الربانيين وأهل النظر الثاقب والفكر المستنير بأصول الشرع ومنطلقاته، سواء أكانوا من داخل فصائل العمل الإسلامي أم من خارجه؛ كل فيما يحسنه حتى تتكامل جهودهم مع الدور الهام الذي يقوم به أهل التنفيذ والممارسة ومن يمتلك القرار الإداري والمالي داخل تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته، وكثير منهم من الصنف الثاني.
3 إعادة النظر في المناهج التربوية والممارسات الدعوية والآليات الإدارية داخل مؤسسات العمل الإسلامي وتياراته، والتي أفرزت هذا النتاج الذي لا يتلاءم في جزء منه بصورة جلية مع طبيعة الإسلام ونقاوته؛ وذلك من خلال الغَرْف القوي من المعين النبوي ونهج أئمة الدين من الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم في الدعوة والبناء والتربية.
3 البدار إلى تقوية الفئة الضعيفة المتعلقة بالخشبة المحمولة داخل أروقة العمل الإسلامي ومؤسساته في أي مجال من مجالات القوة المعنوية والمادية المتعددة، والعمل على إقناعها من خلال ممارسات عملية متكررة بأن مكانتها ومصالحها لن تتأثر، وأنهم وإن تركوا بعض المواقع التي هم فيها لمن هو أكثر علماً وعمقاً وروية فإنهم قادرون على العيش في الأجواء الدعوية، وهم محل تقدير واحترام؛ لأن الحاجة إليهم والإفادة من عطائهم وإمكاناتهم وخبراتهم التنفيذية ستبقى ملحة مهما اختلفت الأدوار وتبدلت الرتب.
ثم أردف صاحبي قائلاً: وأعتقد أن من الواقعية بمكان إدراك أن مقاومة المعالجة والتغيير وعدم إفساح المجال لأهل العلم والفكر والتجرد ليس كله هوى محضاً، بل هو مشوب ببعض الحق وبتخوفات موضوعية على مكتسبات الصحوة من زاوية، وبضعف ظاهر في الطرح وامتلاك زمام المبادرة لدى عامة علماء الأمة ومفكريها، وقد قيل: لا تَلُمِ القوي المبادر على قوته وسرعة مبادرته، ولكن لُمِ الضعيف على ضعفه وتقاعسه.
وحدث طارئ، فتوقف الشيخ الجليل عن الحديث، وانتهى اللقاء، وكنت لانقضائه كارهاً.
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشداً، واحفظنا واحفظ بنا، واستخدمنا في طاعتك، يا جواد يا كريم!
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.