أحمد ولد محمد ذو النورين
قد كانت نشأة المحاظر (?) ـ التي انتشرت مبكراً في ربوع بلاد شنقيط (موريتانيا) ـ على يد أول معلم وداعية إسلامي يصل هذا القطر حاملاً همَّ الدعوة وهادفاً إلى نشرها، ذلك هو عبد الله بن ياسين الذي جاء إلى شنقيط عام 430هـ بأمر من شيخه عالم السوس وجاج بن زلو اللمطي.
ظلَّ ابن ياسين يعلِّم الناس أصول الدين الإسلامي ويدعوهم إلى اتباع المنهج النبوي، متخذاً أقوم السبل لنشر عقيدة السلف في تمسُّك شديد بالكتاب والسنة وتأسٍّ بالغ بأهل القرون المزكاة، فوضع بذلك أسس ومناهج المحظرة، التي أثبتت فيما بعد جدّيتها ومردوديتها وفاعليتها تربوياً واجتماعياً واقتصادياً وتكوينياً طيلة التاريخ الموريتاني (الشنقيطي) ، متحدّيةً عوامل كثيرة، من أبرزها: حضرية العلم، ذلك أن أهل هذه المحاظر كانوا يترحلون انتجاعاً للمراعي وتتبعاً لقزع المطر، حاملين معهم زاداً معرفياً يرحل ويحل أينما ارتحلوا وحيثما حلّوا.
وفي وصف ذلك يقول المختار بن بون الجكني:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا
لقد كانت أهداف المحظرة مؤسسة على تزويد الطلبة بالقيم الإسلامية منهجاً وسلوكاً، وهادفة إلى تكوين أجيال واعدة روحياً وعلمياً؛ فمبنى المحظرة قائم على نشر الإسلام في كل بادية وحاضرة، فكانت صِمَام أمان لدفع صولة كل من يريد النيل من هذا الدين العظيم.. فالتربية المحظرية الأصيلة قائمة على ثنائية العلم والجهاد باعتبارهما صنوين لا يفترقان.
عن طريق هذه المحاظر أخذت الدعوة الإسلامية تنتشر بين صفوف الموريتانيين، وتبعاً لسنة التدافع بين الحق والباطل عملت الدولة الموحدية الظالم أهلها على إسقاط الدولة المرابطية السنية سنة 515هـ، ومع بداية نشأة الدولة الموحدية على يد المهدي بن تومرت المتوفَّى عام 524 هـ بدأت بعض الأهواء والنحل والطرق المنحرفة في الانتشار، ودخل العقائد بعض الدخن، فأولت صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ وظهر الإلحاد في أسمائه الحسنى وسادت البدع.. غير أن الأمة وعلى لسان نبيها - صلى الله عليه وسلم - لا تزال فيها طائفة ظاهرة تحمي بيضة الدين، وتذود المضلين عن الكروع في حياضه وتقذير موارده (?) ، وطبقاً لتلك السنة الكونية لاحت بوادر العودة من جديد إلى منهج السلف الذي هو مهيع الحق.
فتنادت زمرة من أجلّة العلماء والدعاة والمجاهدين الذين تخرجوا من محضن المحظرة لصقل ما علق بالدين من شوائب ونفي ما ناله من تحريف وردّ ما نوصي به من شبه، وطرد ما أصابه من باطل التأويل، ونبذ ما داخله من بدع وغلو وزيغ.
ومن أبرز من تنادوا لإنقاذ المجتمع من أتون الحضيض الأخلاقي والديني الذي انزلق في هاويته خلال هذه الحقبة:
ـ الإمام ناصر الدين أبو بكر بن أبهم الشمشوي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وبرز في العلوم الشرعية كافة، وحاز السبق في الورع والتقوى والخلال المثلى.. فكان مثالاً للشجاعة والحنكة العسكرية، فرفع راية الجهاد وأعلن قيام نظام إسلامي، متمسكاً في ذلك بالنهج المرابطي، لولا ما أثر عن بعض أقطاب حركته من التخرص على الغيب والخوض في غمار الدجل؛ تأثراً بالثقافة السائدة في المجتمع آنذاك (?) .
في إطار سعيه لإقامة نظام إسلامي حاول الإمام ناصر الدين جباية الزكاة فرفض أحد منسوبي قبائل حسان أداءها إليه، بعد أن احتمى بإمارة الترارزة، فكانت حرب شرببة، التي دامت سنوات عجاف، وأثمرت هزيمة نكراء في صفوف الزوايا، وانتهت بانتصار بني حسان الذين فرضوا شروطهم على الزوايا.. ولئن كان الزوايا قد هزموا هزيمة عسكرية مدوية فإن في طيات كل محنة منحة، فقد انكبّوا على العلم واشتغلوا به حتى صار لهم سجية وأصبحوا يعرفون به، فازدهرت محاظرهم وفاضت بالعلوم الشرعية ومعارف اللغة العربية، وكان لها الأثر الأكبر في تعليم الدين الإسلامي وتخريج علماء مؤهلين عملوا على نشر الإسلام في ربوع إفريقيا والمغرب العربي، مبشرين بنبراس الحضارة الإسلامية أينما حلوا، ضاربين أروع الأمثلة في حفظ المتون ومعالجتها نظماً وشرحاً وتلخيصاً وإبداعاً.
وإن انتشرت في هذه المحاظر العقيدة الأشعرية وتأثر معظمها بالطرق الصوفية، على مدى عقود من انحسار حركة الإمام ناصر الدين؛ فإن قلة من أبنائها ظلوا متمسكين بالمنهج السلفي، داعين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وما كانت عليه الأمة المسلمة خلال القرون المزكاة، ومن أبرز هؤلاء: كمال الدين محمد بن حبيب الله الذي اشتهر بلقبه (المجيدري بن حب الله) اليعقوبي المولود عام 1156هـ، وقد عُدَّ المجيدري ضمن أربعة علماء عُرفوا بالموسوعية على مستوى القطر الشنقيطي، وهم إضافة إليه: سيد عبد الله ابن الحاج إبراهيم المتوفَّى سنة 1233هـ، ومحمد سعيد اليدالي المتوفَّى سنة 1166هـ، وابن رازكة المتوفَّى سنة 1143هـ (?) .
بعدما تضلع (المجيدري) من العلوم المحظرية طفق يجوب الأرض في رحلة علمية طالت أقطاراً إسلامية عديدة، وانتهت به إلى الحج وزيارة المسجد النبوي، وقد تمكن خلالها من جمع مكتبة نفيسة، ورجع إلى بلاده وهو يدعو إلى تطهير المجتمع الموريتاني من الشوائب العقدية والعلمية التي علقت بمناهجه التعليمية إثر انتشار العقيدة الأشعرية وفشو الطرق الصوفية، وقد زعم بعض الباحثين أنه عاد متأثراً بالدعوة السلفية التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (?) .
لما رجع (المجيدري) إلى البلاد نادى بضرورة التمسك بالكتاب والسنة والتزام منهج السلف، فأنكر عليه جماعة من العلماء كان أبرزهم: المختار بن بون، الذي لم يزل يناصبه العداء حتى شتمه لما بلغه نعيه بقصيدة مطلعها:
أودى الضلال ألا فليفرح الجذلا
من عاش بعد مضلاً شاقق الرسلا
فبادر مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي بالرد عليه بقصيدة مطلعها:
أودى الكمال ألا فليفرح الجذلا
من لا يموت ومن لا ينقضي أجلا
توفي (المجيدري) ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 1204هـ بعد أن عاش حياة حافلة بالدعوة والعطاء العلمي، فورث عنه تلميذاه اللذان ناصراه وتبنّيا منهجه وهما: المأمون بن محمد المجاور اليعقوبي ومولود الذي سبقت الإشارة إلى ردِّه على المختار بن بون، ورثا عنه ذلك المنهج السلفي وظلا يدعوان إليه، ويترسمان خطاه، منهجٌ بيّن (المجيدري) نفسه أُسسه التي انبنى عليها، حيث قال: (اعلم يا مكلف أن الله أوجب عليك أن توحده فتعتقد يقيناً بدليل الكتاب والسنة أو هما معاً أن الله موجود لا شبه له مع غيره في ذات ولا صفة ولا فعل ولا اسم ولا حكم ولا عبادة ولا غير ذلك، فهو واحد لا يقبل الشرك في شيء، وصفاته ـ تعالى ـ على الحقيقة، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه على عرشه، وكل صفة وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فَصِفْه بها على الوجه اللائق بجلاله وكماله ولا تؤول) (?) .
لم يتوانَ (المجيدري) في ردِّه على ما زعمه الأشاعرة من تقسيم صفات الله تعالى إلى واجبة وسلبية ونفسية ومعنوية، حيث يقول: (وكون الواجب من صفاته ثلاثة عشر منها ست سلبيات ومنها سبع يقال لها المعاني لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه رضي الله عنهم) (?) .
وهكذا صنّف (المجيدري) أسباب الضلال، في فهم صفات الله تعالى قائلاً: (اعلم أن أشد ما أضل الخلق هو قياس الغائب على الشاهد، حتى أحالوا على الله ما لم تدركه عقولهم ولم يعلموا أنه وهم متباينون غاية المباينة..) (?) .
لقد نظم (المجيدري) ـ رحمه الله تعالى ـ منهجه السلفي قائلاً:
آي الكتاب وأخبار النبي وما
جاء الثقاة به عن صالح السلف
ما اعتاض عنها سوى أعمى البصيرة عن
نهج الحنيفية البيضاء ذو جنف
رين على القلب يكسوه السواد كما
يكسو المداد سواداً أبيض الصحف
فالمصطفى حثنا عند اختلافهم
على التمسك بالقرآن ذي الشرف
وبالذي سنَّ أو سنَّتْ صحابته
طراً وحذرنا من بدعة الخلف
مرجمات ظنون غير مجدية
شيئاً عن الحق بل تفضي إلى التلف
فالحق إياك أن تعدل سواه به
لا يعدل اللؤلؤ المكنون بالخزف
وامتداداً لهذه المدرسة يطالعنا العلامة بابه بن الشيخ سيديا الذي تنسم المجتمع الموريتاني معه إحياء السنة وتجديدها، حيث دعا إلى أن الصواب في العقيدة رفض التأويل الكلامي والإيمان بما احتواه الكتاب والسنة وجعله عقيدة وشريعة ومنهجاً وسلوكاً، ففي المعتقد لا تشبيه ولا تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف.. وفي الشرائع لا استقلال لآراء الفقهاء بتشريع، وإنما تعرض هذه الآراء على المصدرين فما وافقهما قبل وما عارضهما ردَّ ورفض، بعيداً عن تقليد غير المعصوم، في تحصن واحتماء بالقرآن وصحاح السنن من مضلات الأهواء والبدع (?) .
لقد كان لبابه الحظ الأكبر والنصيب الأوفى في دفع البدع ودحضها وإظهار السنن والعمل بها، فقد وجد غالبية الناس يدينون بالعقيدة الوسطى لأبي الحسن الأشعري، فطفق يعالج ذلك بكل ما أتيح له من وسائل ويرد عليه، فردَّ ما ذهب إليه الأشاعرة من التأويل خوفاً من إيهام التشبيه، قائلاً:
ما أوهم التشبيه في آيات
وفي أحاديث عن الثقاة
فهي صفات وُصِف الرحمنُ
بها وواجب بها الإيمان
ثم على ظاهرها نبقيها
ونحذر التأويل والتشبيها
قال بذا الثلاثة القرون
والخير في اتباعهم مقرون
كما دحض البدع وشنع على دعاتها، وأعلى صوت الحسبة في وجه المنكرات، فقال:
كن للإله ناصراً
وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي
يرضاه منك دائرا
ولا تعد نافعاً
سواءه أو ضائرا
واسلك سبيل المصطفى
ومت عليه سائرا
فما كفى أولنا
أليس يكفي الآخرا
ثم عرج على المبتدعين من أهل التصوف داعياً إلى الإنكار عليهم ومفاصلتهم، ومبيناً للخزعبلات التي يروجون لها، فيقول:
وكن لقوم أحدثوا
في أمره مهاجرا
قد موهوا بشبه
واعتذروا معاذرا
وزعموا مزاعماً
وسودوا دفاترا
واحتنكوا أهل الفلا
واحتنكوا الحواضرا
وأورثت أكابر
بدعتها أصاغرا
فاحكم بما قد أظهروا
فما تلي السرائرا
وإن دعا مجادل
في أمرهم إلى مرا
فلا تمار فيهم
إلا مراء ظاهرا
ولا يتردد باب في جهره بالحض على السنة ومحاربة ما سواها، فيقول:
آمن أخي واستقم
ونهج أحمد التزم
واجتنب السبل لا
تغررك أضغاث الحلم
لا خير في دين لدى
خير القرون قد عدم
أحدثه من لم يجب
قطع بأنه عصم
من بعدما قد أنزلت
اليوم أكملت لكم
وبعدما صح لدى
جمع على غدير خم
تخرج على يد الشيخ سيديا باب جملة من العلماء الأخيار من أمثال: الشيخ محمد بن أبي مدين العالم المحدث الذي عاش أغلب حياته ـ رحمه الله تعالى ـ في التدريس، وقد عرفت عنه جراءته في الحق الذي لم يكن يحابي فيه أحداً، كما اشتهر بذبِّه عن السنة، التي جاء ضمن مؤلفاته في الدعوة إليها والدفاع عنها كتابٌ يحمل العنوان والمدلول نفسه: «الصوارم والأسنة في الذب عن السنة» (?) .
ومن أبرز من تخرج من مدرسة الشيخ سيديا باب العلامة عبد الودود بن حَمَّيه الذي لم يدانيه أحد معاصريه في علوم اللغة والقرآن، والذي لا تزال مؤلفاته وآثاره في ذلك معيناً لا ينضب يؤمُّه طلاب العلم من كل جهات الدنيا وينهلون منه ما ابتغوا من زلال المعارف الصافية.
ظل الشيخ عبد الودود ـ رحمه الله تعالى ـ داعية إلى تصحيح العقيدة ونشر علوم القرآن والسنة في تواضع جمٍّ وزهادة منقطعة النظير وتألُّه وعبادة وإحياء للسنن وإماتة للبدع وإظهار للحق حتى توفي رحمه الله تعالى.
وبالجملة؛ فقد امتد تأثير المدرسة السلفية التي أسسها الشيخ سيديا باب إلى أرجاء واسعة من موريتانيا (بلاد شنقيط) نظراً لعلمه الغزير ومكانته الاجتماعية الرفيعة، والتي مهدت له محاورة أغلب علماء عصره.
وممن كان لهم الأثر الكبير في نشر عقيدة السلف بالقطر الموريتاني العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، إذ حرص بعد استقراره بالمملكة العربية السعودية على مقابلة الحجاج والمعتمرين الموريتانيين، وبذل جهده ـ رحمه الله ـ مع كثيرين منهم في تصحيح عقائدهم ونشر المذهب السلفي بينهم، إضافة إلى رحلته الدعوية التي كان لموريتانيا منها النصيب الأوفر والتي قابل خلالها أغلب العلماء وتحاور معهم مما أتاح له فرصة إقناع بعضهم ورجوعهم إلى مذهب السلف وتخلِّيهم عن المذهب الأشعري، إضافة إلى تأثير مؤلفاته وخاصة تفسيره أضواء البيان، تلك المؤلفات التي تأثر بها بعض أعلام موريتانيا كالشيخ عبد الله بن داداه الذي كان قد تأثر بالشيخ عبد الودود، وكذلك تأثر بهذه المؤلفات الإمام بداه بن البصيري.
أسس الشيخ عبد الله بن داداه «محظرة» قرآنية اتسمت بالميل إلى المنهج السلفي وعمل من خلالها على تعليم القرآن الكريم فكانت من أشهر المحاظر القرآنية في ربوع موريتانيا.
أما الإمام (بداه) فهو المفتي العام لموريتانيا على مدى نصف قرن ظل طيلته يدعو إلى المنهج السلفي ويدافع عنه عبر دروسه ومحاضراته ومؤلفاته التي كان اهتمام معظمها متعلقاً بالعقيدة والحسبة كما هو حال كتبه: تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر، الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد، الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس، تنبيه المغتر في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكتائب الشرعية في صدِّ هجوم القوانين الوضعية..) .
كرَّس الشيخ (بداه) حياته متخندقاً في خط الدفاع عن السلفية ودعاتها، الأمر الذي دفع بعجلة العودة إلى المنهج السلفي ضمن مستويات كثيرة داخل موريتانيا، فتسابق الناس إلى إنشاء المؤسسات والمعاهد والمراكز ذات الصبغة السلفية وتوجّه المجتمع وجهة جديدة.
هذا؛ وتنبغي الإشارة بل والإشادة بما أثمره افتتاح معهد العلوم الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية عام 1399هـ من ترسيخ للعقيدة الإسلامية الصحيحة وتعميق للقيم الشرعية النبيلة، حيث تخرج من هذا المعهد ما يربو على ألف وخمسمئة طالب أكمل العشرات منهم الدراسات العليا، وتزاول مجموعة منهم الآن التدريس كأساتذة جامعيين داخل موريتانيا وخارجها.
وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ويصل هدر الكرامة في بلاد شنقيط مستوى لا تحسد عليه هذه البلاد الكريمة، فبينما كان طلاب هذا المعهد يستعدون للاختبارات النهائية للعام الدراسي 1424/1425هـ فُوجئوا بالشرطة وهي تطوق المبنى الذي يحتضنهم، لتعلن عن إغلاقها لهذا المعهد بشكل تعسفي، دون مراعاة منها لظروف طلابه، ودون تقدير منها لعقدين ونصف العقد من العطاء الفذ في المجال العلمي والتربوي والمساهمة الفاعلة في التنمية الاقتصادية للشعب الموريتاني، الذي عاشت أسر منه على حساب رواتب أساتذة ومنح طلاب من المنتسبين لهذا المعهد.
ü أثر الحركات الإسلامية:
وعودة إلى لمحة موجزة عن الحركات الإسلامية، تلك الحركات التي كانت قد بدأت تعرف النور مع بداية الاستقلال ولو على شكل أنشطة فردية، ثم ما لبثت هذه الحركات أن أخذت منعرج التشكل، أما التمايز الأيديولوجي فلم تعرفه إلا بعد عقدين من الاستقلال، حيث اتسمت بدايات التأسيس لكافة الأطياف بمذهب السلف من الصحابة والقرون المشهود بخيريتها، باعتبار ذلك المهيع المأمون والمورد السالك.
لقد عاشت موريتانيا عزلة إعلامية على الأقل على مستوى العالم العربي، رغم تأثرها بما يعيشه من صراعات فكرية حضارية، فعرفت تجاذباً شديداً بين الميل إلى الأصالة والانجذاب إليها من جهة والنزو نحو الغرب من بعض الشرائح المستغربة من جهة أخرى، وفي ظل ذلك كانت الكفّة دائماً لصالح العودة إلى محضن الإسلام فظلت الفئات المثقفة تشهد توجهاً حقيقياً باتجاه التدين، نتيجة الحركة الدعوية المتنامية خاصة على مستوى المساجد والمؤسسات الإسلامية، وإن اعتُبر ذلك من القائمين عليها في أحيان كثيرة تحدياً سافراً للسياسات الحكومية الموريتانية، هذه السياسات التي حملت على عواتقها في كثير من الأحيان تنفيذ وصايا المستعمر في حربها على معالم الإسلام، رغم إعلانها أن دستور البلاد يعدُّ الإسلام دين الشعب والدولة، وأن الشريعة الإسلامية تُعدُّ المصدر الأول للنظم والقوانين، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، سوى أنها في الغالب لم تألُ جهداً في إدارة ظهرها لهذه المقتضيات.
فحاربت المؤسسات الإسلامية وسجنت العلماء، وأغلقت أبواب الدعوة، بل وإمعاناً منها في الدهاء ومن أجل إزاحة الإسلام النقي عن الواجهة شجعت الطرق المنحرفة والمشوهة للإسلام على الانتشار وأشرعت لها الأبواب على مصاريعها لتجعل منها بديلاً.. وحاولت جاهدة تغيير واقع المحاظر التي ظلت صف المواجهة الرصين والركن الشديد في حفظ وحماية وتثبيت الهوية الإسلامية العربية داخل البلاد، بعد أن وقفت في وجه محاولات الاستعمار الفرنسي طمس هذه الهوية.
في خضم هذه المعطيات بدأت ـ كما أشير إليه آنفاً ـ حركات إسلامية في التشكل، مستبصرة في أغلب رؤاها بحركة الإخوان المسلمين المصرية، ومع مرور الأيام وتعدد الأحداث وتباين المفاهيم انقسمت هذه الحركات إلى ثلاث دوائر هي: الإخوان المسلمون، وجماعة الدعوة والتبليغ، والسلفيون. وقد كان طابعها العام التمسك بالمعتقد الصحيح المنجي عند الله تعالى، وارتسام خطى الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، وظلت هذه الحركات على تنوع مشاربها تدعو إلى تحكيم الإسلام وتعمل على تبصير المسلمين بأمور دينهم.
وبالجملة؛ فقد ظلت هذه الجماعات على مدى سنوات طويلة تتحرك داخل الحقل الدعوي في تكامل، بل وتنسيق في أغلب الأحيان، ويسميها العامة باسم واحد هو الدعاة دون تمييز بين هذه الجماعة أو تلك.
غير أن هوة الخلاف ما فتئت تتسع، فتجسد التمايز شيئا فشيئاً، إلى حد تبادل الاتهامات أحياناً، بل والوقيعة من هذا الطرف في ذلك وإعلان كل طرف البراءة من منهج الطرف الآخر. وإن كان لبعض العلماء والدعاة جهود محمودة في رأب الصدع وتقريب وجهات النظر..
ورغم أن النظام الموريتاني بقيادة (ولد الطايع) أقبعهم جميعاً في جدث واحد وعاملهم المعاملة نفسها، فإنه كان من المفترض تبين الجميع لشمولية الاستهداف، وقد تحقق جانب من ذلك أيام تقاربت المنازل في السجن، إلا أن الانقلاب الذي قاده المجلس العسكري جاء في ظل هيمنة القطب الواحد وظهور العولمة الضاغطة في اتجاه تصنيف الجماعات الإسلامية إلى مجموعات خطيرة وأخرى أقل خطراً، وبناء على ذلك برّأ المجلس العسكري ساحة زعماء الإخوان وبادر بإطلاق سراحهم بعد أن أبدت أمريكا ترحيبها بإدماجهم؛ لكون ذلك جزءاً من استراتيجية التدرج.. وقد أشار منسقهم السيد (محمد جميل ولد منصور) في أكثر من مناسبة إلى أن حواراً خلف الستار ظل يجمعهم بالسفارة الأمريكية التي خرجت عن الصمت، وأعلنت أنها لا تمانع من إشراك الإصلاحيين الوسطيين (جماعة الإخوان المسلمين) في العملية السياسية؛ لنبذهم العنف وتبنِّيهم الديمقراطية، بل وأكثر من ذلك قام السفير الأمريكي بزيارة منسق الإصلاحيين في مكتبه قبل أسابيع من الحملة الرئاسية.
أما السلفيون فلم يلتفت المجلس العسكري إلى ملفهم إلا بعد مدة من الانقلاب إثرَ ضغوط شعبية كبيرة، حيث أطلق سراح ثلاثة من أبرزهم، وهم: الشيخ محمد سيديا بن اجدود الملقب النووي، والإمام عبد الله بن أمينو، والأستاذ محمد بن سيد أحمد الملقب الشاعر، وأبقى على البقية، بل وزادها مجموعة أخرى.
ولا زال رموز السلفيين القابعون في السجن المدني بنواكشوط يعانون الأمرّين، دون أي بوادر لإطلاق السراح أو المحاكمة أو على الأقل المعاملة الإنسانية داخل السجن، ففي مرات عديدة اقتحمت عليهم الشرطة عنابرهم وأشبعتهم ضرباً ومنعت مرضاهم من العلاج، كما حالت دون اتصالهم بذويهم.
قد يتساءل البعض عن المكاسب التي ستجنيها السلطات الموريتانية بل والأمريكية من التفريق بين التيارات الإسلامية وتصنيفها؟
وفي إطار الإجابة عن هذا التساؤل يتضح أنه في ظل العولمة لا بد أن تقدم كل سلطة إقليمية قرباناً للسلطات المركزية في واشنطن في مواجهة المد الإسلامي المتنامي تحت مظلة مكافحة الإرهاب، وبما أن السلطات الموريتانية ابتلاها الله ـ تعالى ـ بشعب مسلم مسالم، دأب أهله على التعاطي مع القضايا بنوع من التسامح والبعد عن التشنج، فلم تشهد تفجيراً ولا قتلاً، كان لا بد لهذه السلطات الجهوية (الموريتانية) من التجاوب مع تطلعات البيت الأبيض الرامية إلى اجتذاذ جذور الإسلاميين بتدرُّج حسب تصنيفهم من حيث الخطورة وقبول الآخر، مما أجبر الحكومة الموريتانية على لفت انتباه تلك السلطة المركزية على أن المخاوف مشتركة والطاعة مطلقة.
فبادرت إلى سجن القادة السلفيين وزعمت أن لهم صلات بالقاعدة من غير بينة أو برهان، وأنهم باتوا يشكلون خطراً على السلم والاستقرار {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] .. ولا تزال الاعتقالات تتجدد تحت ذرائع وتهم تتنوع حسب الاستهلاك وما يستجيب لمعطيات الواقع..
غير أن المراقب للشأن الموريتاني ـ بل وللشأن الإسلامي في كل أصقاع الأرض ـ يتبادر إلى ذهنه سؤال مفاده: إذا كان الهمُّ دعوياً والداعية إنما يدفعه وازعه الديني وطلبه مرضاة الله ـ عز وجل ـ وحرصه على إنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتبصيرهم بدينهم كما بلغه محمد - صلى الله عليه وسلم - نقياً صقيلاً من شوائب الشرك وشبهات البدع ونزوات الضلال، إذا كان الأمر كذلك فما الداعي إلى الاختلاف؟! والدعوة الإسلامية في أمسِّ الحاجة إلى تحقيق التكامل والتآزر ونبذ الفرقة والاختلاف بين كافة المهتمين بالشأن الدعوي.
إن الدعاة هم أول من يجب عليه الالتزام بالكتاب والسنة وتجسيد قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ... } [آل عمران: 103] ، وقوله ـ جل شأنه ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ... } [المائدة: 2] ، وهم أولى الناس باستحضار جماعية الإسلام، وبثّه لروح الأخوة بين منتسبيه، حيث جعلها من أوثق عراه، وبناها على الارتباط والتضحية والتنازل عن الخصوصية تغليباً للهمِّ العام.. مما يستدعي وعي الدعاة لواجبهم حتى يتسنى لهم الخروج من التقوقع والتعصب للحزبية الضيقة، والعمل على لمِّ شعث المسلمين عامة والدعاة خاصة.. سعياً إلى اتحاد الكلمة في مسؤولية واعتدال وتوازن وإعلاء للحق بحكمة وحسنى.. لما يكتنفهم ـ أفراداً وجماعات ـ من وحدة الهدف ودواعي المحبة ووشائج الألفة.
إن فهم الدعاة واستيعابهم أولويات المرحلة يدفعهم إلى إحياء أواصر التقارب والاندماج، فهم جميعاً محلُّ استهداف وإن بشكل تدريجي، ولا أدل على ذلك مما ورد في تقرير مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث نهاية شهر مارس الماضي، والذي يُعدّ ملهماً رئيساً للسياسة الأمريكية، وقد جاء ضمن أبرز توصيات هذا التقرير حث الإدارة الأمريكية على أن تنهج في إطار حربها على العالم المسلم منهج تحويل الصراع والمواجهة من صراع بينها وبين الإسلاميين إلى صراع بين الإسلاميين أنفسهم.. وهي سياسة استعمارية قديمة جديدة.
إن الدعاة جميعاً يتحركون لتحقيق غاية واحدة، ألا وهي تعبيد الخلق لله وحده، والأمانة المعلقة في أعناقهم جميعاً لبلوغ ذلك المرمى عظيمة، والمسؤولية الملقاة على عواتقهم جسيمة.. فواجبهم نبذ الفرقة وطرد النزاع؛ امتثالاً لأمر ربهم وطلباً لمرضاته ووفاء بعهده، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] .
فالاتحاد أقوى لكلمة الدعاة، وأدعى لتحقيق مصالح العمل الدعوي الذي تواجهه تحديات كبيرة وكبيرة جداً.
لقد عانت الدعوة كثيراً جراء هذا التشرذم الذي غذَّته آمال أهل الأهواء وطموحات المشبوهين حتى ساد نوع من عدم الانسجام والتنافر بين المجموعات الدعوية.. الأمر الذي يستوجب إقامة جسور للتواصل والترابط والتكامل حتى يتحقق التغلب على الأخطاء، ويتم التصدي للمخاطر، ويتجدد بناء الثقة ويتجسد التشاور المثمر الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة، بل أساسه الصدع بالحق في حكمة بالغة وأسلوب حسن.
إن إنشاء مجلس دعوي يسهر على مصالح الدعوة ويضعها فوق كل اعتبار، ويحيي أواصر المحبة ويجلي أهداف الدعوة ويبين مراميها هو وحده الكفيل بإيجاد مشروع دعوي شامل تنصهر في بوتقته الجهود الدعوية لكل العاملين في الحقل الدعوي، أو على الأقل ينسق مواقفهم ويلائم بين وجهات نظرهم، فتتكلَّل جهودهم بالنجاح وتثمر مساعيهم وتقوى شوكتهم وتتآلف قلوبهم فيرتقون بالعمل الإسلامي ويقدمون النموذج للعامة.
وأملنا كبير في أن تشهد موريتانيا وغيرها من بلاد الإسلام نماذج دعوية رائدة، وتعيش عدالة حقيقية تنصف المظلومين وتأخذ على يد الظالمين وتحفظ للبلاد هويتها وتسير بها وفق المنهج القويم.
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ *} [ص: 28 - 29] .