د. مجيد الخليفة
لقد كثُرت المصطلحات السياسية في عصرنا الحاضر، وتنوّعت مضامينها، وكثُر تداول الناس لها؛ من العامة والخاصة، إلا أن معظم هذه المصطلحات هي مصطلحات غربية بعيدة كل البُعْد عن تراثنا الإسلامي، الذي أعطى للإنسانية ما لم يعطه أيُّ دين آخر، وأسّس قواعد التعامل بين الراعي والرعية وفق شرع الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ووجدنا ساستنا قد ابتعدوا كثيراً عن تراثنا الأصيل، وتمسكوا بهذه المصطلحات الغربية والبعيدة عن قيمنا وحضارتنا، فرأينا أن نبين واحداً من هذه المصطلحات، عسى أن يكون جهدنا هذا فيه خير وفلاح للأمة.
3 تعريف الأصلح:
(الأصلح) من الصلاح، والصلاح في اللغة هو نقيض الفساد: (وأصلح الشيء بعد إفساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها) (?) . أما من حيث الاصطلاح فليس هناك تعريف دقيق له، مع الإشارة إلى الفَرْق الواقع بين المصطلح الشرعي، والمصطلح العقدي؛ فنعني بـ (الأصلح) في السياسية الشرعية: استعمال أصلح الموجود من الناس في المهام السياسية والعسكرية، ويكون ذلك بأن يُختار الأمثل فالأمثل؛ كل منصب بحسبه (?) .
ولا بد من التفريق بين المصطلح أعلاه، وما يعنيه مصطلح (الأصلح) عند المتكلِّمين، خاصة المعتزلة ومن وافقهم؛ فهم يعتقدون أن (الأصلح) في صفات الله ـ تعالى ـ يعني: أنه يجب على الله ـ تعالى ـ أن يفعل الأنفع لعباده في الدنيا والدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما كونه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده، أو لا يراعي مصالح العباد، فهذا مما اختلف فيه الناس؛ فذهبت طائفة من المثبتين للقدر إلى ذلك، وقالوا: خلقُه وأمرُه متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة، وهذا قول الجهم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرساله الرسل مصلحة عامة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته) (?) .
(الأصلح) في القرآن الكريم:
لقد جاءت الآيات القرآنية دالةً على مفهوم (الأصلح) من حيث مغزاه الشرعي، في حين أن القرآن الكريم لم يشرْ من قريب أو بعيد إلى ما عناه المعتزلة بـ (الأصلح) في صفات الله تعالى، ولا يخفى أنهم خالفوا العقل والنقل في هذا الباب، قال ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] . والمفهوم السياسي لهذه الآية واضح، خاصة وأن سبب نزولها كان في اختلاف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في قسمة الغنائم، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: (أمر الله بالتقوى والإصلاح، أي: يكونون مجتمعين على أمر الله، وفي الدعاء: اللهم أصلح ذات البَيْن، أي: الحال التي يقع فيها الاجتماع) (?) . وتدل الآية في معناها الآخر على أن الإصلاح السياسي - بالمعنى المعاصر - له عمق كبير في المجتمع؛ لأنه يؤدي إلى إصلاح طائفة كبيرة من الناس، وهذه هي وظيفة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ التي أُرسلوا من أجلها بعد توحيد الله تعالى، قال شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه، بعد أن كذبوه وجحدوا رسالته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، قال ابن كثير في تفسير الإصلاح في هذه الآية: (أي: فيما آمركم وأنهاكم، إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي) (?) ، وهذا الإصلاح لا يأتي إلا بتوحيد الله تعالى، والإقرار بألوهيته؛ لأنه الأصل العظيم الذي يجب أن يُبنى عليه كل شيء، وعليه تدور السياسة الشرعية في تأصيل العلاقة ما بين الراعي والرعية.
ومن المعلوم أن الولاية الشرعية تقوم على ركنين أساسيين: القوة والأمانة، وإلى ذلك أشار الذكر الحكيم: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . وقيل: إن الخليفة الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد استدلَّ بهذه الآية لوصية المسلمين بتولية عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من بعده، وتعقَّب أبو بكر ابن العربي ذلك على بعض المفسرين فقال: (وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصدِّيق إنما ولّى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطِّلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة) (?) ، ولا يستبعد ـ في تقديرنا ـ أن يكون الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد نظر إلى قوة عمر ـ رضي الله عنه ـ وأمانته، كما أخذ بالتجربة والخبرة والمعاشرة الطويلة مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فوجد في توليته أمورَ المسلمين هو الأصلح بالنسبة لهم، وكان أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ هو الإمام الواجب الطاعة في حينه، فاختار الأصلح لهم في ذلك، وكان موفّقاً أشدّ التوفيق في ذلك.
(الأصلح) في السنة النبوية:
أما في السنة النبوية؛ فالأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد اهتمَّ مصنِّفو كتب الحديث بذلك، وأفردوا أبواباً في الصلح بوجه عام؛ فقد روى البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الصلح من صحيحه، باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة» (?) ، والشاهد من الباب الحديث الذي تضمَّنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعدل بين الناس صدقة» ، قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: (والعدل بين الناس إما في الحُكْم بينهم أو في الإصلاح) (?) ، ويعني بالإصلاح هنا: سياسة أمور دنياهم بما فيه خيرهم وفلاحهم.
ويبدو من خلال سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان حريصاً على جعل الإصلاح السِّمَة التي يتفق عليها المسلمون في علاقتهم ببعضهم، خاصة عند البيعة وعقد العهود؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين» (?) .
والأصلح يكون في طاعة الله ـ تعالى ـ ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ويكون ذلك حسب الطاقة، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أمرتكم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعتم» (?) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في هذا المعنى) : (فمن أدّى الواجب المقدور عليه فقد أطاع الله ورسوله، لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه أو خيانة عُوقب على ذلك) (?) . ووفق هذه القاعدة الشرعية سارت سنته الشريفة في اختيار الأصلح للأمة؛ سواء كان ذلك من حيث الأفراد أو المواقف التي تقدَّم فيها مصلحة الأمة على غيرها.
ومما لا شك فيه أن المجتمع لا يصلح إلا بصلاح الدِّين، وكان هذا هو الأساس الذي كان عليه منهج النبوة، فكانت ولاية الدين والدنيا متلازمة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على الحرب كان هو الذي يُؤمر للصلاة بأصحابه، وكذلك الحال إذا استعمل رجلاً نائباً على المدينة، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولما بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن قال: «يا معاذ! إن أهم أمرك عندي الصلاة» ، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فإذا أقام المتولي عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات) (?) ، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] . وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . [الذاريات: 56 - 58]
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن واجب الإمام يتمثل في شيئين، الأول: إصلاح أمور دينهم، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم (?) .
وقد سار الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم ـ من بعده على نهجه؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى عمّاله: «إنما بعثت عمّالي إليكم ليعلموكم كتاب الله، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم» (?) ، ولما تغيَّرت الرعية تغيَّر الراعي. وأفضل الرعاة هم القائمون بشرع الله تعالى، السائرون على نهج النبوة في ذلك؛ لأن إقامة أركان الإسلام من صلاة وصيام وحج وزكاة لا تقوم إلا بوجود الإمام الذي يحث على ذلك، وقوّام بين الناس بالقسط والعدل؛ فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحب الناس إلى الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة، وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة، وأشده عذاباً إمام جائر» (?) ، والأحاديث في هذا الباب معلومة.
أما فيما يخص أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب؛ فإن حادثة الحديبية أفضل مثال يمكن أن نقف عنده؛ إذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة للهجرة يريد زيارة البيت معتمراً، لا يريد قتالاً، وساق معه سبعين بدنة، وكان معه من أصحابه سبعمائة نفس، فمنعت قريش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من العمرة تلك السنة، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعود إلى المدينة دون عمرة؛ وفقاً للاتفاق مع قريش، فأثار ذلك حفيظة بعض الصحابة، منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذن؟، قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» (?) ، ولم يكن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يدرك أن الأصلح للمسلمين في تلك المرحلة هو الصلح الذي عقده النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قريش، وقد اتضحت فوائد هذا الصلح فيما بعد، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاء من بعده من الأئمة اختيار الأصلح للأمة، وإن كان ذلك لا يوافق ميول الرعية.
3 الخلاصة:
إن مفهوم (الأصلح) في السياسية الشرعية يستند إلى أصول ثابتة من الكتاب والسنة، وقد تناولها عدد من العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية، ولكن كان لشيخ الإسلام ابن تيمية قصب السبق في تأصيل هذه القاعدة الشرعية وتيسيرها في يدِ الأمراء والولاة، ويمكن إيجاز أهم هذه القواعد الشرعية وفق التالي (?) :
1 ـ الواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها؛ فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع ـ وإن كان فيه فجور ـ على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن رجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوّته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر.
2 ـ استعمال الرجل لمصلحة راجحة مع وجود من هو أفضل منه؛ فقد أمّر النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في غزوة ذات السلاسل على من هو أفضل منه؛ استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم. وأمّر أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ لأجل ثأر أبيه. وكذلك فعل خلفاء النبي الراشدون من بعده؛ فقد استعمل أبو بكر الصديق خالد بن الوليد ـ رضي الله عنهما ـ في حروب أهل الردة، وفي فتوح الشام والعراق على هفوات كان له فيها تأويل، فلم يعزله لأجلها، بل عاتبه ونبّهه إليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
3 ـ أما في باب القضاء فيقدَّم الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قُدّم الأورع فيما قد يظهر حكمه ويخالف فيه الهوى، وفيما يدقُّ حكمه ويخاف فيه الاشتباه يُقدّم الأعلم؛ ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» (?) .
4 ـ وأهم ما في هذا الباب - نعني: معرفة الأصلح كما قرّره شيخ الإسلام - هو معرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تمَّ الأمر، فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصدُ الدنيا دون الدين، قدَّموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، ولذلك فالمقصود الواجب في الولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى خسروه خسروا خسراناً مبيناً.