فيصل بن علي البعداني
يلاحظ المتابع للساحة الدعوية اليوم، والحراك الفكري داخلها أن هناك قدراً ملموساً من نقد الذات ومحاسبة النفس على المستويين الفردي والمؤسسي في آنٍ واحد.
كما يلاحظ أن تلك العملية لم تقتصر فقط على جانب واحد، إذ ـ مثلاً ـ تناولت الوسائل والأساليب، وراجعت الأهداف وأولويات العمل، وعززت التفريق بين الرمز والفكرة، وطالبت بإعادة النظر في العلاقات البينية بين فصائل العمل الإسلامي ورموزه من جهة، وبين العمل الدعوي والفاعلين في المحيط البيئي والإقليمي والعالمي التي تعيش في أجوائه دعوتنا المعاصرة من جهة أخرى.
وفي اعتقادي أن تلك العملية مظهر صحةٍ ومفتاح نجاحٍ متى ارتبطت بمسلَّمات الشريعة ومقاصدها العامة، وكانت عالية الهمة في إرادة ترتيب الواقع الدعوي الراهن بما يجعل من الجهد الفردي والمؤسسي المعاصر أكثر إجلالاً للنص واستقامة على النهج الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ، وأكثر مراعاة لأحوال العصر، ومنطقية في معايشة الواقع وعدم البقاء في دوائر أحلام اليقظة المثالية أو استجرار اجتهادات لمواقف خاطئة أو مواقف كانت مناسبة لمراحل زمنية سابقة.
وواجب الجميع هو توسيع الأفق، والشعور العالي بالمسؤولية، والترفُّع عن الهوى والمصالح الشخصية والأطر الضيقة؛ من خلال تشجيع كل ممارسة نقدية منضبطة وبنّاءة، بل وتجاوز مرحلة مجرد تشجيع المبادرات الفردية أو شبهها إلى مرحلة تُقنن فيها العملية النقدية وتُوكل من خلال إطارات مؤسسية إلى ذوي الكفاءة والخبرة من أهل العلم والفكر والدعوة.
وما لم يحدث ذلك ويُولَى ما يستحق من دعم واهتمام وتشجيع فإن نتيجته الوقوف على المتحرك، وهو ما قد يفضي بالدعوة في المنظورَيْن المتوسط والبعيد إلى الفتور ومن ثم الانزواء عن الجوانب الأكثر حراكاً وحيوية؛ لا سمح الله تعالى.
وفي المقابل لا بد من القول بأن كثيراً من العمليات النقدية الممارسة اليوم ـ على الأقل في أجزاء رئيسة منها ـ قد تجاوزت نقد الجمود المهلك والدعوة إلى التصحيح المأمول في الجوانب الإدارية والتربوية ونحوها إلى طرح قضايا والمطالبة بمعالجة جوانب يتجاوز من خلالها الثابت وتمسّ أصول الاعتقاد ومناهج الاستدلال تحت الراية نفسها (محاسبة الذات ومراجعة المواقف) ، وهو ما يمثل في الحقيقة عملية تراجع عن النهج السوي لا علاقة لها بعملية التصحيح والمراجعة.
ولعل من أبرز المظاهر التي بدت تبرز في هذا الجانب من قِبَل بعض الفضلاء ما يلي:
ـ الدعوة إلى تجديد مفاتيح العلوم ومنطلقاتها؛ كأصول الفقه ومصطلح الحديث؛ بدعوى هيمنتها على العقل وحدِّها له من الانطلاق في فهم النص!
ـ اعتماد نهج التسامح مع الفرق الغالية الأخرى والتبرير لأصحابها، بل وفي أحيانٍ تقديم بعض شيوخها لعامة الأمة على أنهم رموز اعتدال وأدلاء وفاق.
ـ تتبُّع الرخص في الفتاوى الفقهية، وتقرير أن الصواب أو الراجح هو ما يسهل تطبيقه ويتناغم مع ميول العامة ورغباتها وإن لم يصرحوا بذلك، والمبرر الذي يردِّدونه لذلك الوقوع الحاد تحت ضغط الواقع ومسايرة الجماهير: أن الفقه ما هو إلا التيسير ورفع الحرج، وأن نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث بالحنيفية السمحة، وأن القول الذي يصدعون به قد أفتى به أحد أهل العلم؛ بغضِّ النظر عن قوة دليله وطبيعة الحالة التي أفتى بذلك فيها!
ـ تعطيل كثير من النصوص الثابتة وترك إعمالها أو التعسف في تأويلها تأويلاً يتلاءم مع ضغوط الواقع، بزعم مراعاة مقاصد الشريعة وتحقيق المصلحة! مع أن المتقرر في أصول الشرع أن لا اجتهاد مع النص، وأن مراعاة المقاصد تكمن لا بإهمال النصوص بل بإعمالها والإذعان لها وعدم التعسف في تأويلها، والمصلحة التي تصطدم مع النص إما متوهمة أو غريبة لا يعتدُّ بها، ولذا كان نهج السلف إعمال المصالح فيما لا نصَّ فيه، وفي تقديم الأَوْلى ودفع الأضرِّ، وكانوا يضبطون بها الاجتهاد؛ سواء في مسالك العلة أو عند توهم تعارض النصوص.
ـ النقد الحاد لتأصيلات علمية وممارسات عملية في الجوانب الدعوية وغيرها تقوم على نصوص ظاهرة وقواعد شرعية معتدٌّ بها؛ سواء ما تعلق منها بمسائل الولاء والبراء، أو بمسائل الاحتياط وسد الذرائع، ونحو ذلك بداعي حدوث التجاوز في تطبيقها تطبيقاً ملائماً من قِبَل بعض الفئات في الساحتين العلمية والدعوية، فتجاوزوا السبيل فارِّين من الإفراط إلى نقيضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو أردنا أن نحلِّل البواعث الحقيقية المؤدية إلى ذلك الإخلال المنهجي الصارخ، والتراجع باسم المراجعة في دعوات أولئك الفضلاء الذين يحملون همَّ نصرة الدين ويعملون على التمكين له وإعلاء شأنه؛ لوجدناها تكمن ـ على تفاوت بين الأفراد في التلبُّس بها ـ في جوانب عدة، لعل من أبرزها:
ـ الانهزامية أمام صولة الأعداء من أهل الكفر وغلاة المبتدعة في وقتنا، في مقابل ضعفٍ ظاهر وحالة تخلف شديدة تعاني منها أمتنا، والتأثر بالشبهات التي يطرحونها من خلال عمليات تلبيسٍ فائقة الدهاء، وبدلاً من التركيز على عرض الإسلام وتقديمه للبشرية كما أراده الله ـ تعالى ـ هداية للعالمين، فقد انهزمت من الداخل تلك الفاضلة في الغالب الأعم وبقيت في غالب الآحايين في دائرة المدافع الذي يحاول أن يبرِّئ نفسه ومنهجه من النقص والغلط! فأُتُوا من حيث أرادوا السلامة، وقديماً قيل: من مأمنه يؤتى الحذر.
ـ الوقوع في أسر الجماهير ومتابعتها لا القيام بقيادها، وفي أحيانٍ رحمتها والإشفاق عليها؛ من خلال محاولة إبقائها في دائرة المقبول وعدم الوقوع في المخالفة؛ خوفاً من مزيدٍ من الشطح من جهة، ومن وقوعها تحت تأثير براثن أعداء الأمة والفرق الضالة والمذاهب الهدامة من جهة أخرى، مع قلة الناصح المعين الذي يبادر إلى التنبيه على جوانب القصور ولا يكتفي بسلوك نهج التبجيل في البيئات القريبة التي يعيش في وسطها كثير من أولئك الأفاضل.
ـ السعي الدؤوب لترك التقوقع وتجاوز الأطر الضيقة التي يعيش في أجوائها كثير من العلماء والدعاة حتى صار لكل طيفٍ دعوي علماؤه ودعاته. ومع علوِّ همة هذا التوجه في تجاوز هذا الإشكال في هذا الجانب إلا أن الملحوظ أن كثيراً منهم نتيجة تباين أبناء الأمة في أخذ الكتاب بقوة في جانب الأصول والفروع لم يستطيعوا الحفاظ على انضباطهم المنهجي والذين كانوا من ركائز شُدَاتِه في الماضي، مما أفقدهم رصيد الثقة في أوساط بيئاتهم الدعوية، وفي المقابل لم يستطيعوا أن يجدوا لهم موطن قدم في توجيه البيئات الدعوية الأخرى التي أرادوا اقتحامها والولوج إلى التأثير العالمي من بوابتها نتيجة التصنيف المسبق من جهة ومعاملة تلك التيارات لهم بمبدأ الشك والريبة من جهة أخرى.
ـ ضعف البناء التأصيلي وقلة البضاعة المنهجية والفقهية لدى كثير من المتصدرين لمخاطبة الجماهير وساحات الحوار مع أهل الأهواء، ولدى كثير من أصحاب القرار في دوائر العمل الإسلامي، ومما زاد الأمر سوءاً تعقيدات الواقع ودقة التخصص فيه، مما جعل أشخاصاً يكادون أن يمتلكوا في تخصصهم كل شيء بصورة قد تصل إلى حدِّ الإبهار، ولكنهم في خارج التخصص لا يكادون يملكون شيئاً، فأوقعهم التصدر من غير ما تقصد غالباً في البعد عن الضوابط والأطر الشرعية الحاكمة أيّاً كان الأمر؛ إفراطاً أو تفريطاً.
ـ انزواء كثير من العلماء الربانيين عن التأثير في كثير من ساحات الواقع المعاش والتي يمكنهم أن يسدوا فراغاتها من جهة، وقيام جهات متعددة بتقزيم مساحات عملهم وإمكانية تأثيرهم داخل الأمة بعامة، وفي أوساط تيارات العمل الدعوي ومؤسساته بخاصة، مما أدى إلى تصدُّر الجهلة وأنصاف المتعلمين وبعض ضعيفي الاستقامة المنهجية أو السلوكية، والذين بتعالمهم والتصاقهم بالقنوات الإعلامية ودوائر التوجيه يكادون أن يسيروا بالأمة وبجيل دعوتنا المباركة بوعي أو بغير وعي نحو متاهات الجهالة بصورة متناغمة مع مرامي أعداء الأمة من خارجها ومن يدور في فلكهم من أهل الأهواء والشهوات من داخلها، والذين ما يزال مفكروهم في مراكز الأبحاث المختلفة يوصونهم بتقديم أهل التسامح والاعتدال من العلماء والدعاة؛ زعموا! وتقرير مؤسسة راند الأخير بعنوان: (بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي) خيرُ شاهد.
ولعل من أبرز ما ساعد على هذا الانزواء ـ غير الطبيعة الشخصية وحدوث التقصير الذاتي ـ سطوة التيار العلماني والبدعي، وما يسمى بالحرب على الإرهاب، مما أدى إلى تخوف كثير من أهل العلم والدعوة على نفسه من التضييق والمكر إن هو تصدَّر للبيان وبادر بدأب إلى تعليم الأمة ورفع جهلها وتحذيرها من خطر أعدائها.
ـ غيرة بعض الدعاة على وحدة الأمة وسعيهم الدؤوب للتوحيد بين طوائفها؛ سنة وشيعة ومتصوفة، ومع نبل هذا التوجه وسمو مقاصده، إلا أن اتخاذ هؤلاء الفضلاء موقفاً وسطاً بين تلك الطوائف والتركيز على ما يعدونه نقاط الوفاق وصمتهم عن مسائل الاختلاف المنهجي الحاد وعدم تبنِّيهم معالجات واعية ومناصحات صريحة ومسؤولة، إضافة إلى ممارسة عدد من رموز الحوار من الفرق الأخرى مبدأ التقيّة من جهة أو أنهم معتدلون فعلاً لكن لا وزن لهم ولا تأثير في أوساط بني جلدتهم مما جعل الضرر منصبّاً على طائفة أهل السنة والتي تصدر هؤلاء الأفاضل لتمثيلها إن من جهة تعميق الفرقة بين هذه الفئة المتبنِّية لهذا النهج وبين عامة العلماء والدعاة، وإن من جهة التشكيك ببعض الثوابت وزعزعة بعض المسلَّمات في ذهنية جيل الصحوة؛ تبريراً للتصريحات والمواقف التي اتخذها هؤلاء تحت شعار المراجعة وتقويم المسيرة! وإنْ في خسارة فئات عريضة من جيل الصحوة وعامة الأمة الاستفادة من جدية بعض تلك الرموز الفاضلة وحضورها القوي عبر الساحات الإعلامية المختلفة؛ نظراً لمبادرة كثير من الدعاة إلى التشكيك في سلامة نهجهم وكثير من أطروحاتهم في المراحل المتأخرة، حتى صار كثير ممن يبادر إليها من جيل الصحوة يطالعها بعين الملاحظ لا المستفيد.
وفي ظني أن علماء الأمة ومفكِّريها ودعاتها مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالبدار إلى معالجة جادة لهذه الظاهرة التي صارت تمثل مشكلة في جسد الصحوة العلمي والدعوي والتربوي؛ سواء أكان ذلك في إطاره المباشر المتعلق بتلك الفئة الفاضلة التي سلكت هذا المسلك أم في إطاره غير المباشر المتعلق بأثر تلك المشكلة في أوساط جيل الصحوة وعامة الأمة.
وليس المقام في هذه المقالة مقام ذكر معالجات لهذه الظاهرة، وبخاصة في إطارها المباشر، إذ الظن أن ذاك ليس بخافٍ على من يتصدّر لذلك من أهل العلم والدعوة، وأرى أن الأهم من وسائل المعالجة التنبيه على بعض ضوابط المعالجة ومفاتيحها، ولعل من أهمها:
ـ ضرورة تصفية النية والانطراح بين يدي الله ـ تعالى ـ وطلب عونه وتوفيقه؛ لتحقيق معالجة مثلى تُدرأ بها المفسدة، ويكون رائد المرء فيها الوصول للحق لا الانتصار لذاتٍ أو جهة.
ـ تعميق الثقة وتقوية العلاقات الإنسانية الدافئة مع هؤلاء الفضلاء كون ذلك مدخلاً لمصارحةٍ مسؤولةٍ متعمقةٍ حول القضايا والتجاوزات الشائكة من منطلق المحبة الصادقة والرغبة في تجاوز ما قد يقع فيه كلا الطرفين من تجاوز أو هفوة، على أن الثقة لن تقوى والعلاقات الحميمة لن توجد من مجرد ابتسامات وقتية باهتة، إذ لا بد من أن تثمر تلك العلاقة مناشط عملية مشتركة تخدم الأمة من جهة وتحول دون القطيعة وظلم تلك الرموز الفاضلة أو حصارها ممن اعتاد على القبول الكلي أو الرفض المطلق وتمنع من انغماس تلك الفئة الفاضلة في مزيد من التراجع باسم المراجعة.
ـ تحديد محل النزاع مع هؤلاء الأفاضل؛ حتى ينحصر النقاش في مسائل الأصول ومناهج الاستدلال، وحتى يتم الإعذار في مسائل الاجتهاد ولا تكون سبباً لحدوث تباين أو مفارقة، وهذا ما يتطلب تحريراً لهذا من ذاك، إذ الخلط الظاهر لدى أعداد كبيرة من أهل العلم في هذا الجانب أورث التشديد فيه حرجاً في أحيايين كثيرة في واقع الحياة العملية وهو ما أوقع كثيراً في التراجع بداعي المراجعة.
ـ العمل على رفع روح الممارسة النقدية الناضجة في أوساط الأمة بعامة، وجيل الصحوة المباركة بصفة خاصة؛ حتى يتم التمكن من التمييز البين بين المقصد والوسيلة، وبين الشخص والفكرة؛ تطبيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند ما جاءه الشيطان: «صدقك وهو كذوب» (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابي الجليل أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ حين وقع مرة في زلل: «إنك امرؤ فيك جاهلية» (2) ، وإزالة الإشكال الناجم من عدم إدراك وجود فروق ظاهرة في قدرة الأشخاص على أداء الأدوار المختلفة، إذ قد يكون المرء خطيباً باهراً لا محدثاً، ومدركاً جيداً لواقعه لا فقيهاً، والتفريق بين الممارسة النقدية لحالة ماضية لا ينبني عليها جانب عملي، ولا يختلج في النفس عند طرحها جنوح نحو الإقدام أو خوف منه وبين نقد حالة راهنة يرافق الناقد في أحيان كثيرة ضغوط عاطفية جامحة وتمتزج فيها الرغبة الدعوية بغياب بعض جوانب الحقيقة، ويختلط فيها الشخصي بالحكم الشرعي وبمصالح الأمة العليا.
وإذا حدث مثل ذلك فإنه سيعني تباعاً إعادة النظر في كثير من جوانب البنية التربوية الحالية، وتهيئة جيل الصحوة لكثير من الصدمات القادمة التي قد تكون أكثر قوة ومفاجأة.
ـ وزن الأخطاء بموازين شرعية صحيحة وترك تضخيمها أو تعميمها، وفي مقابل ذلك التركيز على الإيجاب وإعطائه المساحة التي يستحقها تناولاً وممارسة، والفرح الصادق بالصواب فرحاً ينبني عليه إشادة بالصواب ومبادرة جادة في التشجيع والدعم بل والمشاركة.
ـ الحذر من التعامل بردّات الفعل في الجانب الشخصي، إذ كثيراً ما يصدر عن مثل هؤلاء الأفاضل كلمات ومواقف قاسية أو ممارسات إقصائية للآخرين؛ إما ظناً بعدم الاستجابة لهم وتلبية الآخرين لدعواتهم في برامجهم وأنشطتهم التي برزوا فيها، وإما رغبة في عدم إحداث زوبعة على ضفاف البرامج التي يقيمونها بين من أقصي من العلماء والدعاة وبين بعض المدعوين والذين قد يمثلون بُعْداً عالمياً أو طائفياً أو فئوياً مهما وجدت عندهم من ملاحظات منهجية أو علمية، وإما لتحسس نفسي وشعور بالغضب من بعض الشخصيات لكلمة سمعت عن هذا أو ذاك، ونحو ذلك من المبررات التي ما لم يتجاوزها مريد الإصلاح مهما كان فيها من الحق فإنها ستضخم البون وتعظم خندق المفاصلة وستضفي على كثير من الجوانب الشخصية أبعاداً منهجية وهي ليست كذلك.
ـ ضرورة فهم نفسيات أولئك الأفاضل كلاً على حدة، إذ مع الذكاء الحاد الذي يمتاز به كثير منهم فإن السِّمَة العظمى المحركة لكثير منهم هي العاطفة الجياشة والاعتداد بالرأي والتعويل العالي على الجماهير في قضية الإصلاح والتغيير والجنوح نحو الاستقلال والفردية مهما كان الزيّ الذي يبرزه ويتحلَّى به بعضهم موضوعياً، ولذا فإن المكون الأعظم لمفتاح المعالجة هو الدعم والتشجيع للممارسة الفردية المنضبطة، وتكثيف الجانب العاطفي، ومراعاة المتطلبات النفسية؛ كالحاجة إلى التقدير والإكرام والثقة والمحبة الصادقة وتثمينٍ عالٍ للإنجازات المتعددة والكفاءة المتميزة والقدرة العالية. والإشكالية في هذا الجانب أن كثيراً من هؤلاء الفضلاء لديه مقدار عالٍ من الارتياب في جانبٍ انضافَ إليه من جانبٍ آخر كثير من الشواهد العملية والقولية الصادرة عن الآخرين، والناجمة عن خطأ أو سوء فهم أو ضعف اتصال، والتي بدورها أسهمت بفاعلية في زيادة الفجوة وتعميق حدة المشكلة، ولذا فإن إيجاد معالجة حقيقية سيتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً ومن واجهات علمية ودعوية متعددة حتى يتم تجاوز الأزمة أو التخفيف منها بدرجة كبيرة.
أما جوانب المعالجة غير المباشرة فهي كثيرة، لعل من أبرزها:
ـ ضرورة مراجعة بيئة الدعوة التربوية والعلمية والتركيز فيها على تعميق الخشية والعناية بأعمال القلوب والتأصيل العلمي والمنهجي المتعمق؛ لأن أصل البلوى ومنبت الخلل ـ سواء لدى المتراجعين أو ردّات الفعل غير المقبول بعض صورها لدى مخالفيهم ـ مردّ عامته إلى هذا الجانب.
ـ فقه هدي السلف فقهاً متعمقاً يحيله من مجرد فتوى حول نازلة قد يكون لها ظروفها الزمانية والمكانية التي تحول دون استصحاب تطبيقها في عصرنا إلى منهج حياة تستحضر فيه حقيقة التعبد، ويعظم فيه الدليل الثابت، ولا يستطال فيه على الأصول أو يمزج فيه ثابت بمتغير.
ـ إجلال علماء الأمة ودعاتها الربانيين، والعمل على الأخذ الجاد عنهم، وإعادة دورهم القيادي والتوجيهي في أوساط الأمة بعامة وفي أوساط جيل الصحوة بخاصة؛ سواءً أكانوا من داخل التيارات الإسلامية أم من خارجها، مهما وقع أحدهم في زلة أو صدرت عنه هفوة لا تخرجه عن إطار أهل السنة والجماعة ما دام رائده الحق ومبتغاه تعظيم الرب ـ عز وجل ـ في مقابل السعي الدؤوب لإزالة الإشكلات الناجمة عن تقديس الأشخاص أو رفضهم بالكلية، وعن عدم التفريق بين العلماء والوعاظ، وأهل الفقه والنظر والمتخصصين في جانب علمي أو دعوي أو تربوي أو خيري أو واقعي؛ حتى لا تصدر الأمة وأجيال صحوتنا المباركة عن أنصاف المتعلمين ـ ممن يقفون على منبر إعلامي أو هم في موقع المسؤولية الدعوية ـ، والذين في أحيان كثيرة ـ مهما حسنت النوايا ـ يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ـ ربط الأمة بالمنهج الإسلامي الراشد، الذي يدور فيه المرء مع الحق حيثما دار، تبعه من تبعه، وأعرض عنه وجفاه من جفاه؛ لأن من أعظم أسباب المرج في الوسط الدعوي إزاء تلك التراجعات مردّه إلى التعلق بالأشخاص، ومعرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق، وهو أمر من المتوقع في المستقبل القريب أن تزداد آثاره السلبية مع تفشي ظاهرة الخوف والقلق من الثبات على الحق في ظل الحملة الصليبية المعاصرة للحرب على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، والتي أصبح كل عامل للإسلام بصدق مهدداً بشكل جاد بالتعرض للتضييق والأذى، ووجود محاولات لإغراء بعض الفضلاء وشراء ذممهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وحالات من التعجل لدى بعض الدعاة ومريدي الإصلاح في قطف الثمار وإعادة دفّة قيادة الأمم للإسلام مما لا يتلاءم مع المنهج النبوي للإصلاح والتغيير.
وفي الختام: فالموضوع جلل، وعلى هؤلاء الفضلاء أن يعلموا أنهم بمقدار ما نفعوا دعوتنا المعاصرة بإسهاماتهم المتميزة وأنشطتهم المحمودة ومواقفهم الرائعة وبمزيد من المراجعات الجادة، بمقدار ما أسهموا في مزيد من التمزيق لتيار أهل السنة وتفريق الصفوف وتشتيت العامة ولبس الحق بالباطل؛ لأنهم يتحدثون باسم العلم والسنة بخلاف غيرهم، وزيادة حجم الهوة في أوساط قياداته العلمية والدعوية، وفي الظن أنهم الأقدر على تجاوز الكثير من الآثار السلبية الناجمة عن ذلك؛ لما يتسمون به من ذكاء وحكمة، ويتحلون به من تجردٍ وثوبة إلى الحق حين ظهوره لهم، ولما يحملونه من هَمِّ رصِّ الصفوف وتوحيد الكلمة حتى يتم تمكين الأمة واستعادتها الرفعة المنشودة.
اللهم يسِّر لأمتنا من أمرها رشداً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وصلى الله وسلم على النبي المجتبى وعلى آله وصحبه أجمعين.