طلال بن علي الجابري
طلبُ الحق وتحري الصواب وإصابة الهدف الصحيح بُغيةُ كل منصفٍ، وطَلِبة كل ناشدٍ للحق.
وكما أن الله ـ عز وجل ـ بيَّن الحق والباطل؛ فهو كذلك بيَّن كيفية الوصول إلى الحق والحذر من ضده، وبين منهجية التعامل مع النصوص والأشياء والأفكار أو الأفهام، كما بيَّن ذلك رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
وهُنا نأخذ طريقة من الطرق ومنهجية من المناهج في التعامل سواء في النصوص أو في كيفية التطبيق لها، وهو ما أسميته «منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه» .
وذلك من أجل أطر الفكر على هذه الطريقة الربانية في التعامل مع النصوص أو الفكر في التعاطي مع المستجدات والنوازل.
3 المحكم والمتشابه:
ـ جاء في القرآن الكريم وصفه أنه محكم. قال ـ تعالى ـ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ، وهو بمعنى أنه متقن في ألفاظه وأحكامه ومعانيه.
ـ وجاء في القرآن الكريم وصفه أنه متشابه. قال ـ تعالى ـ: {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 23] أي أن آياته يتشابه بعضها مع بعض في الحسن والصدق والجمال.
هذا فيما يتعلق بالمعاني الإجمالية في وصف القرآن أنه محكم وأنه متشابه. قال ابن تيمية: «وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدِّق له؛ فإن الكلام المحكم المتقن يصدِّق بعضه بعضاً لا يناقض بعضه بعضاً بخلاف الإحكام الخاص؛ فإنه ضد التشابه الخاص» (?) .
والمقصود في هذا المبحث المعنى التفصيلي للمحكم الخاص والمتشابه الخاص وهو ما ذكر في قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} . [آل عمران: 7]
قال أبو الفداء ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «يخبر ـ تعالى ـ أن في القرآن آيات محكمات هُن أم الكتاب، آي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد. ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم؛ فمتى رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس» (?) .
مسائل متعلقة بالآية:
1 ـ أن الله هو الذي أنزل الكتاب «القرآن» .
2 ـ أن من القرآن آيات محكمات هُن أم الكتاب أي أصله الذي يُرجَع إليه عند الاشتباه.
3 ـ أن معنى محكمات: واضحات لا تحتمل التأويل.
4 ـ أن معنى من القرآن آيات متشابهات «أي تحتمل دلالتها موافقة المحكَم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد» .
5 ـ أن طريقة أهل الزيغ أصحاب القلوب المريضة أهل الضلال والخروج عن الحق اتِّباع ما تشابه منه «فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دافع لهم وحجة عليهم» (?) .
6 ـ أن أهل الزيغ يفعلون ذلك بقصد الفتنة أي قصداً للإضلال عن الحق، وبقصد التأويل «ابتغاء تأويله» أي تحريف النصوص كما يريدون ويشتهون.
7 ـ جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه البخاري.
8 ـ أن طريقة أهل الحق الراسخين في العلم الإيمان بالكل، وإرجاع المتشابه إلى المحكم، وعدم ضرب النصوص بعضها ببعض.
9 ـ أن في ختم هذه الآية بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} سراً لطيفاً وهو «إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة» (?) .
ومن هنا نفهم أن العقول السليمة والأفهام السوية «أولو الألباب» هذه طريقتهم وهذا تعاملهم، وليس العكس من رد الحق الواضح والأمر المتفق عليه والدلالة البينة إلى المختلف فيه أو ما له أكثر من وجه، أو الأخذ بالاحتمال البعيد، أو القول الضعيف والرأي الشاذ.
والعجب لا يكاد ينتهي ممن يجعل المتشابه محكماً والمحكم متشابهاً؛ فقد جر هذا المسلك من ويلات وأوقع في انحرافات {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .
أمثلة على منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه:
هذه بعض الأمثلة المقتضبة في توضيح المنهجية في التعامل:
1 ـ «لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] «إن هو إلا عبد أنعمت عليه» ، وبقوله: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فكم سيكون في هذا الاحتجاج من الخلل وسوء الفهم بل الشرك والكفر!
2 ـ ما جاء في باب الأسماء والصفات وهو باب واسع، وقد وقع فيه الخلط في منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه من أهل الأهواء والزيغ، ووفق الله أهل الحق أهل السنة للطريق القويم في هذا الباب وفي غيره من الأبواب؛ فهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف أو تمثيل أو تعطيل أو تكيف؛ كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وهنا نقتصر على مثال واحد فيما يتعلق بمنهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وهذا كما أن لفظ «إنَّا» و «نحن» وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون له، لا شركاء له؛ فإذا تمسك النصراني بقوله: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله: {وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ونحو ذلك (?) .
3 ـ ما جاء في توحيد العبادة الألوهية؛ والأمثلة على ذلك كثيرة منها قولهم: إن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله تنفعه حتى لو أشرك؛ مستدلين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة ـ رضي الله عنه ـ: «أقتلته بعدما قال: لا إله الله» ؟ رواه البخاري ومسلم.
وغفلوا أو تغافلوا عن المحكم من قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وأن المنافق يشهد أن محمداً رسوله الله ولا ينفعه ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] (?) .
إن تربية الأمة على هذه الطريقة الربانية لبنة في البناء وجمع للصف وفق المحكمات ورد المشتبهات إليها وتوحيد للكلمة، بل استقامة في الفكر وفي فهم النصوص؛ فإن سلوك الجادة طريق العقلاء، والأخذ بالمشتبهات وقوع في بُنَيَّات الطرق.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.