د. يوسف بن صالح الصغير
تعتبر الفرقة الأجنبية من أفضل فرق الجيش الفرنسي أثناء الفترة الاستعمارية. وهي مؤلفة من مرتزقة مجندين يقاتلون من أجل المال، ومن أجل ممارسة هواية البطش والتسلط تحت لواء دولة ظاهرة. ولا ننسى انتكاس فطرة البعض أيام انتشار الرق؛ حتى إنه يفتخر بأنه عبدٌ للسلطان، ويتعامل مع المستضعفين من الناس كما لو أنه هو السلطان.
وفي هذا العصر تضاءل الرِّق الفردي، واستُبدِل بالرق الجماعي: رِّق الشعوب والأمم، أو رِّق الدول والمنظمات: فمن يستطيع أن يدعي أن منظمة الأمم المتحدة حرة وليست مسلوبة الإرادة من الأسياد؟! وسنجد في كل قارة دولاً ومنظمات وضعت نفسها تحت طلب الأسياد. وبسبب التداعي الجديد على الصومال سأركز في حديثي هذا على الحالة الأفريقية. وسنذكر أمثلة نبدأ فيها بأوغندا؛ فقد حصل فيها انقلاب عسكري قاده ضابط حصل على دورات تدريبية في الجيش الصهيوني، واستمر النظام الجديد في تأدية دور بلاده المرسوم في دعم الخطط الغربية لفصل جنوب السودان، ولكن بعد فترة من الزمن بدأ عيدي أمين يقترب من العالم الإسلامي ويحاول التحرر من الأسر، وكان إغلاق الحدود مع السودان كافياً لخنق التمرد الجنوبي، واضطراره لعقد اتفاقية سلام مع نظام جعفر نميري. وهنا بدأ الغرب محاولة إعادة الرئيس النصراني السابق الذي لجأ إلى تنزانيا التي كان يحكمها (جوليوس نيريري) ، وبعد محاولات فاشلة لإعادته عن طريق المعارضة الأوغندية قام الجيش التنزاني، الذي تم تجهيزه لهذه المهمة، بغزو أوغندا وسط ترحيب غربي، وتم إسقاط النظام، وعاد الحكم فيها إلى النصارى، وهنا عادت أوغندا إلى أحضان الشرعية الدولية، وبدأت تمارس دورها من جديد في جنوب السودان، وتطور الأمر إلى حصولها على وكالة من أمريكا لتتولى تصفية النفوذ الفرنسي في منطقة البحيرات الكبرى، وقام الجيش الأوغندي بغزو راوندا وبورندي والكونغو وتسليم الحكم فيها إلى أتباع (الأنجلوساكسون) ، ولم تصدر في حقها قرارات تحت البند السابع، ولم تُرسل قوات أممية لمنع الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها مئات الألوف من (الهوتو) و (التوتسي) وقبائل الكونغو. إن تصرف أوغندا مبرر؛ لأنه دفاع عن النفس! ونحن الآن أمام مهمة جديدة للدفاع الشرعي عن النفس تقوم به إثيوبيا.
نعم إن إثيوبيا المسالمة، التي تحتل إقليم (أوجادين) الصومالي وتحمي بجيشها وجود حكومة (بيدوا) الشكلية، تتعرض للتهديد من إمكانية تشكل نظام صومالي جديد يعيد بناء دولة واحدة للصوماليين، الذين تعرضوا لعملية شرذمة وتقسيم، تمنع تكوّن تكتل إسلامي كبير؛ حيث إن وضعهم السياسي يشبه وضع الأكراد إلى حد كبير. فقد حرص الغرب على تقطيع أوصال الصومال الكبيرة إلى أجزاء، منها: الصومال الفرنسي (جمهورية جيبوتي) ، وأوجادين (تحت الحكم الإثيوبي) ، وغرب الصومال (تحت الحكم الكيني) ، والباقي يعرف بالصومال الإيطالي والإنجليزي؛ الذي تشكلت منه جمهورية الصومال التي أعيد تفكيكها بعد انهيار حكم زياد بري، وقسمت إلى جمهورية أرض الصومال، والباقي وُضع، بعد فشل محاولة الاحتلال الأمريكية، تحت سلطة حكومة ديمقراطية وهمية لم تدخل العاصمة مطلقاً؛ فبعد أن كانت في نيروبي (كينيا) انتقلت إلى ركن قِصيِّ، قريب من حدود إثيوبيا (بيدوا) .
حُكِم ما تبقى من الصومال من قبل ميليشيات قبلية متناحرة، وكانت العاصمة مسرحاً رئيسياً لمحاولة قادة الميليشيات القبلية إثبات وجودهم، وفُقِد الأمن، وانعدم العدل، وكان هذا وضعاً مثالياً لنهب ثروات البلد وتحويله إلى مكب للنفايات بدون رقيب ولا حسيب. وكان الوضع من السوء بحيث تقبل عامة الناس ظهور مشروع ريادي يتمثل في تحالف مجموعة؛ ممن يحبون العدل بقدر ما يكرهون الظلم، وتعاهدهم على رفض الظلم وأخذ الحق للضعيف من القوي، وسميت: (المحاكم الإسلامية) . وكان تكوُّنُ قوة مسلحة ضرورياً لتنفيذ الأحكام، وسرعان ما تقبلها الناس فكانت المتنفس الوحيد للضعفاء لأخذ حقهم، وحصل التحول الكبير في الصومال حيث برزت القيادة الشرعية، وتحول الولاء الأول من القبيلة إلى القاضي، وهنا جُنَّ جنون إفرازات الحرب الأهلية وهاجموا المحاكم الإسلامية، وحاولوا استثارة أمريكا باتهامها بالعلاقة بالقاعدة وأنها (طالبان) الصومالية، وكان الدعم الأمريكي دافعاً لصراع عسكري انتهى بسقوط قيادات الميليشيات القبلية وتكوُّن نواة سلطة مركزية جديدة تقوم على الراية الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها كل الصوماليين؛ إنها راية الشريعة الإسلامية. مسافة لقد فُرِض الصراع العسكري على المحاكم؛ مما حولها بسرعة من مشروع دعوي إلى مشروع سياسي كبير، ووجد قضاة المحاكم أنفسهم يوضعون في المقدمة لِيمارسوا السياسة في محيط معادٍ حريص على القضاء على (طالبان) الجديدة في مهدها، وإنه يجب أن تعود الأمور إلى سابق عهدها قبل أن يعتاد الناس على الوضع الجديد، ويجب أن يُعلم أن ما يجري بالصومال حالياً هو حربٌ الهدف منها إبقاء الصومال مفككاً ومنع تكوّن نظام مركزي من جديد، وخاصة إذا كان النظام إسلامياً.
إن ِفشل قادة الميليشيات أدى لتدخل مباشر من إثيوبيا، وإن فشل إثيوبيا سيؤدي إلى دخول أطراف أخرى. فقد صرح (باتريك مازيمهاكا) ، نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي لوكالة الصحافة الفرنسية: «إن الاتحاد الأفريقي يعترف بأن إثيوبيا مهددة من المحاكم الإسلامية، ونحن نقر بحقها في الدفاع عن النفس» . وهو يماثل تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (غونزو غاييغوس) أن لإثيوبيا مخاوف حقيقية على أمنها مما يجري في الصومال؛ ولذا فإن على المحاكم التعامل مع الوضع، إنهم أمام أمرين لا ثالث لهما، وهما: إلغاء المشروع وعودة الأوضاع إلى سابق عهدها مع توقع اضطهاد ومحاربة التوجه الإسلامي، وفرض كيان صومالي جديد قائم على نظام ديمقراطي شكلي تحت الحماية الأجنبية، أو الدخول في مواجهة طويلة الأمد مما يقتضي الاقتصاد في القوى، والحذر من الدخول في مغامرات عسكرية فاشلة، وأن تكون الحرب مع الحبشة بأسلوب يناسب المحاكم. وكما أنه وسيلة لإنهاك الحبشة وطردها فإنه فرصة لتكوين قوات عسكرية متماسكة متمرسة، تنصهر فيها مكونات المجتمع الصومالي؛ ولذا فإن على المحاكم أن تحرص على تجنب الدخول في صراع مع الميليشيات الصومالية المرافقة للجيش الإثيوبي. وإن النجاح في عزل الجيش الإثيوبي، باعتباره جيش احتلال، هو الخطوة الأولى.