إبراهيم الأزرق
- مكانة البراءة من الكافرين عند المؤمنين:
إن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما جاءت بذلك الآثار (?) ؛ فإذا انْتقَضت تلك العروة فلا تسل عن محل الإيمان من أهل الزمان. قال العلاَّمة ابن مفلح: «وقال أيضاً ـ يعني ابن عقيل ـ (?) : إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك! وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري ـ عليهما لعائن الله ـ ينظمون وينثرون، هذا يقول: حديث خرافة (?) .
والمعري يقول:
تلوْ باطلاً وجلوْا صارماً وقالوا صدقنا فقلنا نعم (?)
يعني بـ (الباطل) كتاب الله عز وجل. وعاشوا سنين وعظمت قبورهم واشتُريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب» . وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى» (?) ، وقال ابن عقيل عن ابن الراوندي أيضاً: «وعجبي! كيف عاش؛ وقد صنف (الدامغ) يزعم أنه قد دمغ به القرآن، والزمرد يزري به على النبوات ثم لا يقتل؟ وكم قد قُتل لصٌ في غير نصابٍ ولا هتْكِ حرزٍ؟ وإنما سلم مدة وعاش؛ لأن الإيمان ما صفا في قلوب أكثر الخلق، بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلمَّا صدق إيمان بعض الصحابة قتل أباه» (?) .
إن مداهنة أعداء الشريعة برودة في القلب وأي برودة! إنها برودة الذين غابت عن قلوبهم شمس الوحي، وسلبت ـ أو كادت تسلب ـ روح الإيمان، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب» (?) ، وهذه الآية تتناول الإيمان الواجب الذي يأثم مخالفه، كما تتناول أصل الإيمان الذي يكفر تاركه، وإنزال ذلك بحسب نوع الموالاة ودوافعها (?) . فإن تقرير امتناع اسم مسمى أمرٍ أمر الله به ورسوله كنفيه؛ وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك بعض واجباته كما قرر ذلك شيخ الإسلام في الإيمان الكبير (?) . ومعلوم أن ترك الواجب لا تلازم بينه وبين زوال الأصل، بل قد يزول وقد لا يزول، وكثير نفي الإيمان في الشرع عمن ترك بعض الواجب، «كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة إلا بأم القرآن» (?) ، وقوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» (?) ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب» (?) . فكان نفي الواجب في ترك القراءة بأم القرآن في الصلاة مبطلاً للصلاة عند الجماهير. أما ما بعدها من الأمثلة فدلت مثل هذه النصوص على وجوبها وتأثيم تاركها، فهكذا قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] يتناول الإيمان الذي يبطل انتفاؤه أصل الإيمان، والإيمان الذي يوجب انتفاؤه التأثيم.
وأشد من هذه الآية في التهديد والوعيد قول الله ـ تعالى ـ قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض خاف أن يُغلب أهل الإسلام، فيوالي اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب واليهود والنصارى صادقون» (?) ، وفي معناها قال ابن جرير: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذِكْره ـ نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان» (?) ، ثم قال الله ـ تعالى ـ مؤكداً هذا المعنى بعدها: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53] ، فبين أن الذين يسارعون فيهم قد حبطت أعمالهم، والمسارعون هم الذين: «يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر» (?) ، قاله ابن كثير، ولعل الذي أشعر بهذا المعنى الاستعاضة عن الموالاة بضمير الغائبين (هم) وتعدية الفعل إليه بحرف الجر (في) دون (إلى) ، فقال: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] (يسارعون فيهم) ولم يقل: في موالاتهم، أو إليهم، قال أبو السعود: «وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة (في) على كلمة (إلى) للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] ، لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] » (?) . ولهذا قال ابن كثير: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} «يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر» ، فمعنى المسارعة يتضمن إظهار آثار الموالاة عند أدنى مناسبة وحِيال أي ملابسة، في كل فرصة، فشبّه إظهارها المتكرّر بالمسارعة؛ فهؤلاء قوم موالاتهم للكافرين موالاة عامة في الظاهر والباطن، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الموالاة العامة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم؛ فإذا صدرت من مسلم لكافر كفر، أما مجرّد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر. وبعض أهل العلم يخص التولي بهذه الموالاة العامة موافقة للآية: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} [الممتحنة: 9] .
ومثل هذا الصنف من الموالين للكافرين جدير بأن يحبط عمله، حري بالخسارة، ولهذا عقب بعدها بما يزيد خسارته وحبوط عمله بياناً فذكر توعد المرتدين، وقرنه بذكر أبدالهم من المؤمنين، فخص وصفهم بضد ما ارتد به أولئك، فذكر موالاتهم للمؤمنين ومعاداتهم للكافرين، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] ، ثم أكد هذا المعنى تارة أخرى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، فشرط للإيمان عدم اتخاذهم أولياء، وهذا بعمومه يشمل أصل الإيمان وكذلك الإيمان الواجب بحسب نوع الولاء ودوافعه، قال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الإمام: «موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليها من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم؛ فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم» (?) .
ولعل من نظر في آيات المائدة الآنفة وجد خمس تأكيدات جاءت في سياق واحد تدل على أن موالاة الكافرين خطر عظيم وشر مستطير، قد يؤول بصاحبه إلى الخسران المبين، وذلك إن كانت موالاة عامة، أو موالاة لأجل الدين.
ولعل ما سبق يبين بعض مكانة البراءة من الكافرين في نفوس المؤمنين الصادقين، وخطر الإخلال بها على الدين.
- ما تجب البراءة منه؟
البراءة من الكافرين تتضمن أموراً. قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فقد أمرنا الله أن نتأسى بإبراهيم والذين معه؛ إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الله، وقال الخليل: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27] ، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض، وأصل الولاية الحب. وهذا لأن حقيقة التوحيد أن لا يحب إلا الله ويحب ما يحبه الله لله، فلا يحب إلاّ لله، ولا يبغض إلاّ لله» (?) .
والتأسي بإبراهيم والذين معه صرح فيه بذكر ثلاثة أمور:
الأول: التبرؤ من الكافرين ومما يعبدونه.
والثاني: الكفر بهم.
والثالث: إظهار العداوة وإعلانها أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده (?) .
- حكم التلطف واللين مع الكافرين:
لعل إشكالاً قد يقع في هذا؛ فبينما يغلو أناس فيحسبون بعض الأفعال المنطوية على لين وتلطُّف لا غضاضة فيها من الموالاة الموبقة؛ يتساهل آخرون فلا يرون بأساً في أضرُب من اللين والتلطف اللذين هما من قبيل الموالاة المحرمة.
ولعل الذي يظهر هو أن الفعل المشتمل على تلطف مع الكافرين ولين لهم إما أن يكون لمقتض صحيح كدعوتهم، أو لكون المخاطَب قريباً كأب وأم وأخ أو نحو ذلك، أو لا يكون، فإن كان المقتضي صحيحاً والغرض شرعياً جاءت به النصوص؛ فلا إشكال فيه، بل قد يُندَب، بل قد يجب كما قال الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون في شأن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، وقال ـ تعالى ـ في الوالديْن المشركيْن: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] ، {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] ، وذلك بشرط عدم المحاربة لقوله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] ، قال البخاري في صحيحه: باب الهدية للمشركين وقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] . ثم أورد فيه حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ أفأصل أمي؟ قال: «نعم! صِلي أمك» (?) ، وأورد فيه كذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ابتعْ هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد.
فقال: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» .
فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ فيها؟
قال: «إني لم أكسُكَها لتلبسها؛ تبيعها أو تكسوها» .
فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يُسْلم (?) .
وأما إن لم يكن للتلطف واللين مقتضٍ صحيح يدفع إليه؛ فلعل الأصل فيه هو المنع؛ لأنه مظنة إخفاء العداوة المطلوب إظهارها، ولأن موالاة القوم ممنوعة، بيد أن هذا لا يمنع من البر والقسط.
- اجتماع إبداء العداوة مع البر والقسط:
إن إبداء العداوة لا يمنع من الصدق في معاملة الكافرين، وكذلك العدل معهم، والإحسان إليهم، طالما كانوا غير حربيين، لقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
والحق أن هذه الآية محكمة والأمر كما قال شيخ المفسرين: «لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» (?) ، قال القرطبي: «وعلى هذا أكثر أهل التأويل» (?) ، وهذا لا يعارض ما تقدم من الأمر بإظهار العداوة لهم، وترك البِشْر والتلطف واللين، وإظهار التوقير لغير مقتضٍ صحيح؛ فليس من برهم في الآية ذلك، وليس من برهم كذلك الخنوع والتذلل لهم، أو الانبساط معهم، أو التودد إليهم، ونحو ذلك، ويظهر ذلك بتحرير معنى البر وأصله الذي يدور عليه في لغة العرب، أما إطلاقه فهو مجمل قد يحمله بعضهم على استخدامات لغوية صحيحة لكنها غير مرادة لبيان الأدلة الأخرى؛ فإنَّ لينَ الجانب وخفض الجناح وإطلاق الوجه والتودد لهم و «كل ما عده العرف تعظيماً، وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه» (?) ، ما لم يقتضِهِ مقتضٍ شرعي دال على جوازه في ذلك المقام لمعنى ظاهر.
ولعل المراد بالبر في الآية ونحوها أصلُ وضعه اللغوي الذي يدور على الصدق (?) ، أو مطلق الإحسان؛ فالآية جاءت بصدقهم في المعاملة، والإحسان إليهم، والرفق بهم، والعدل معهم، ولا يخفى أن هذا يكون مع كلٍ بحسبه.
وقد دلت نصوص أخرى على جواز التصدُّق عليهم وصلتهم بالمال (?) ، فضلاً عن النفقة على من وجبت النفقة عليه منهم (?) . وقد حمل بعض أهل العلم قول الله ـ تعالى ـ: {وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} في هذه الآية على ذلك المعنى لا مطلق العدل؛ إذ العدل مفروض مع الكل، فقالوا: تقسطوا إليهم: تعطوهم قسطاً من أموالكم (?) . ولعل حمله على العدل أجود؛ فهو أشمل معنى يدخل فيه ما ذكروا من أوجه البذل والإنفاق، كما أن للتذكير بالعدل ههنا مغزى؛ فكأنه ينبه على أهمية التزامه عند الإفضاء إليهم والتعامل معهم فلا يدفع الأمر بالبر إلى تجاوز حد الإنصاف، ولا طبيعة العداوة الدافعة إلى شيء من البغي إلى تخطي العدل «فلا تغلوا في مقاربتهم ولا تسرفوا في مباعدتهم» (?) . ولما كان التنبيه إلى تحري العدل حال التعامل معهم مراداً لما تعتري تلك الحال من عوارض قد تصرف عنه نظراً لواقع العداوة، عدَّى القسط بإلى والأصل أن يعدَّى باللام، أو يقال: القسط مع الناس لا إليهم، ولعل النكتة تأكيد تحري العدل حال التعامل بتضمين الفعل معنى الإفضاء إليهم (?) .
وإذا علم أن البر يختلف من إنسان إلى آخر بحسبه، فالبر المفروض للوالد غير المأمور به مع عامة الناس، والإحسان المتوجب تجاهه غير الإحسان المندوب إليه مع سائر الناس. ومن تأمل حال إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه لحظ ذلك؛ فلم يكن إظهاره العداوة مانعاً له من بر أبيه، فما فتئ يدعوه بذلك النداء الحاني: (يا أبتِ!) ويظهر شفقته وخوفه عليه، وما استثنى القرآن من الأمر بالاتِّساء به في ذلك شيئاً إلاّ قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] .
ومما مضى يظهر وجه الجمع بين الأمر بإبداء عداوة القوم مع الأمر بالبر والقسط؛ فبر الكفار والعدل معهم والإحسان إليهم معنى واسع يختلف مع كل كافر بحسبه، وقد يشمل ذلك ترك إبداء عداوتهم، وقد لا يشمل ذلك؛ فكم من مقسط يحسن إلى عدوه بإعطائه ما يجب له على أتم الأوجه وأكملها، فضلاً عن أن يغمطه قدره أو يبخسه حقه، بل يصدق معه ويعدل. وليس من لازم الإحسان إخفاء العداوة فضلاً عن زوالها، بل ليس من لازمه ترك القتل إذا لزم القتل شرعاً؛ ففي حديث شداد بن أوس عند مسلم: ثنتان حفظتهما عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (?) .
وقد نبه إلى شيء من هذا الإمام ابن القيم فقال: «فإن الله ـ سبحانه ـ لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفارَ أولياء، وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة؛ فبين الله ـ سبحانه ـ أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة» (?) ، وذلك لأن المودة من الموالاة ولو كان الكافر ذا رحم قريبة، وقد تكون ذنباً ينقص به الإيمان، وقد تصل إلى حد الكفر الأكبر، بحسب دافعها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد تحصل للرجل موادَّتُهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] » (?) .
فأخطأ من ظن أن الإحسان أو العدل أو الرفق أو البر يمنع من أن تكون العداوة بادية معروفة، وأخطأ من ظن أنه يستلزم المودة المنهي عنها، ولعل تلك واحدة من نكت التعقيب بهذه الآية بعد انتهاء سياق قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، وما تعلق بها مما جاء بعدها، ثم قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، فجاء هذا التعقيب البديع مشيراً إلى ما قدم.
وكما يخطئ بعضهم فيظن أن من لازم الإحسان المودة، يغلط آخرون فيظنون أن من لازم إبداء العداوة العبوس وتقطيب الجبين ومَطُّ الشفة عند رؤية كل كافر، أو عند سماعه، وليس ذلك كذلك حتى في حق الحربي، بل المراد أن تكون العداوة بين فئة المسلمين وفئة المشركين ظاهرة غير خفية، وهذا لا يلزم منه ما سبق طالما كانت العداوة معلنة صريحة معروفة، بل لا يلزم من إبداء العداوة ترك التبسم بل الضحك إذا صدر عن أحدهم ما يقتضيه إن كان حقاً، ولهذا ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تصديقاً لقول الحَبْر، كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: «جاء حَْبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد! إنَّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] » (?) ، ومن تأمل السِّيَر وجد لهذا نظائر، كما لا يلزم من البر والقسط ترك الغضب والانتقام إذا بدر من أحدهم ما يقتضيه.
هذا والله أسأل أن يجعلنا سِلْماً لأوليائه، حرباً على أعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته من عاداه، كما أسأله أن يرزقنا ديناً وَسُوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، كما رضيه وأنزله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.