مجله البيان (صفحة 5842)

قواعد التيسير في الفقه الإسلامي

د. قطب الريسوني

إن الإسلام دين رحابة وسماحة، وداعية تبشير وتيسير، نسخ شرائع الأغلال بوسطية محكمة، ورفع الآصار عن الكواهل باعتدال موزون، وهما الجناح الزفاف الذي طار به كل مطار، والآية المبصرة التي فتحت أعين الناس على قيم الحق والخير والجمال، فاستوت الإنسانية بعد إكباب، وأشرقت الأرض بنور ربها بعد إدلاج (?) .

ومقصد التيسير يسري في الشريعة الإسلامية سريان الماء في العود الأخضر، ويضبط فروعها بميزان دقيق لا يجنح بالمكلف إلى طريق الحرج والعنت، ولا يميل به إلى طريق التميع والانسلاخ بعيداً عن ثوابت الدين وتعاليمه المستقرة.

ولما كانت قاعدة التيسير روحاً لكيان التشريع الإسلامي لا تنفك عنه في كل شاذة ولا فاذة، استفرغ علماؤنا الوسع الجاد في صياغة قواعده الكلية بما يسعف الفقيه على الإلمام بمواضع التيسير وشروطه ومآلاته. ويمكن التمييز في قواعد التيسير بين ثلاثة أضرب (?) :

أـ قواعد التيسير الأصلي:

إن المقصود من التيسير الأصلي هو ما تعلق بالإذن في المنافع وتحريم المضار بعد ورود الشرع، إذا لم ينهض من الشرع دليل يجلّي حكمهما. ويعبر فقهاؤنا عن هذه المسألة بقاعدتين جليلتين:

الأولى: الأصل في المنافع الإباحة: ويقصد بهذه القاعدة انتفاع المكلف بالمنفعة المسكوت عنها شرعاً على نحو لا يتضرر به المالك ولا المنتفع؛ كالاستضاءة بضوء الغير والاستظلال بجداره (?) ، أما ما ورد في شأنه دليل من الشرع فلا احتكام فيه إلى هذه القاعدة.

والأدلة على حجية القاعدة كثيرة غزيرة، ولا يسعف المقام هنا بجلبها وبيان وجه الاستدلال بها، ولعل أقواها دلالة على المقصود، وتعلقاً بالغرض، حديث أبي الدراداء مرفوعاً: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] (?) .

والحق أن دلالة الحديث صريحة في العفو عما سكت عنه، والمعفو عنه لا غضاضة في إتيانه، وهذا خاص بالمنافع دون غيرها، ولذلك عبّر ابن القيم هذه القاعدة بقوله: «كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو» (?) ، ثم شرح معنى هذه القاعدة في أكثر من موضع من كتابه (إعلام الموقعين) فقال: « ... وهو ـ سبحانه ـ لو سكت عن إباحة ذلك أو تحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرّمه الله، وما سكت عنه فهو عفو» (?) .

ولا يخفى ما لهذه القاعدة من أثر بالغ في التيسير على الناس؛ لأن العمل بمقتضاه يرفع عن المكلّف مشقتين: مشقة مادية تتمثل في إباحة المنافع؛ ما لم يرد في شأنها دليل يقضي بالمنع، ومشقة معنوية تتجلى في انتشال المكلف من حيرته وتردّده في الإقدام على ما يبدو منفعة مباحة ولم يرد في شأنه شيء، فتطمئن نفسه إلى مجانبة المحظور، ويركن إلى الفعل مستصحباً البراءة الأصلية، وفي هذا (دفع واضح لمشقة نفسية) (?) .

الثانية: الأصل في المضار التحريم: وتُذكر هذه القاعدة مرتبطة بأختها السابقة، وتوردها كتب القواعد الفقهية بصيغة: (الضرر يزال) (?) ، وهي صيغة خبرية دالة على وجوب دفع كل الأضرار؛ كوجوب الوقاية من الأمراض، واستحقاق التعويض للغير عند إتلاف ماله، وتأديب أهل الإجرام بالعقوبات والتعزيرات.

ويشهد للقاعدة الحديث المشهور: «لا ضرر ولا ضرار» (?) ، وقد صدّر بـ (لا) ، وهي نافية للجنس على الراجح عند أكثر أهل العلم، فيكون المنفي كل ما كان من جنس الضرر، ويقدّر خبر (لا) بنحو: لا ضرر سائغ أو مباح في دين الإسلام. ومما يعضّد نفي الضرر مطلقاً ورود النكرة في سياق النفي مما يقتضي الاستيعاب واستغراق القاعدة لفروع فقهية غزيرة، «فإذا انضم النفي الذي لا اختصاص له اقتضى ذلك العموم» (?) .

وبناء على هذا التخريج تكون جملة الحديث خبرية قصد منها النهي عن الضرر والإضرار، وكل إخبار يراد به النهي يكون أبلغ في إفادة الطلب من التصريح به، يقول ابن القيم: «لقد دل الحديث على تحريم الضرر؛ لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه؛ لأن النهي طلب الكف عن الفعل، وهو يلزم منه عدم ذات الفعل؛ فاستعمل اللازم في الملزوم» (?) .

وما زال في الجعبة من بلاغة هذه القاعدة نكت كثيرة وفوائد غزار، إلا أن المقام لا يسمح بالاستقصاء والاستيفاء، وحسبنا الإشارة إلى ثراء هذه القاعدة في حمولتها الدلالية وجوهرها التشريعي.

وعوداً على بدء أقول: إن قاعدة (الأصل في المضار التحريم) تستمد مشروعيتها من حديث: «لا ضرر ولا ضرار» ، وترجع إلى دليل شرعي آخر هو المصلحة؛ لأن المصلحة كما تكون بجلب المنافع تكون بدرء المفاسد، ودفع المضرة والنهي عن الوقوع فيها هو المصلحة بعينها، واليسر بذاته، إلا أن الأضرار تتفاوت قدراً وأثراً، فيوازن بينها عند التعارض والتزاحم، ويدفع الأعلى بالأدنى.

ب ـ قواعد التيسير الطارئ:

تحفل كتب فقهائنا بقواعد جليلة وضوابط راشدة تؤصِّل لمنافذ اليسر وفسح التخفيف في دين الله، حتى إذا ولج المكلف مضيقاً من مضايق الحرج الطارئ، وجد من الرعاية التشريعية ما يراعي أعذاره، ويدفع عنه أسباب العنت وغوائل الهلاك.

وأول ما يصادفنا في كتب القواعد، مما له صلة وثقى بالتيسير ورفع الحرج الطارئ، القاعدةُ الأم: (المشقة تجلب التيسير) ؛ إذ عدّها العلماء واحدة من خمس قواعد بني عليها الفقه ودارت عليه الأحكام (?) ، ويتخرّج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته، ومعناها: أن المشقة المعتبرة في التكليف تكون سبباً شرعياً في جلب التيسير بتسهيل الحكم الشرعي والتخفيف منه على نحو ما، فإذا كان الحكم الأصلي محرجاً أو معنتاً انفتح باب الرخصة إلى غاية اندفاع الإحراج والإعنات، فإذا ما اندفع ذلك عاد الحكم إلى أصله بزوال موجب الترخّص.

وعبّر الشافعي عن هذه القاعدة بقوله: «الأمر إذا ضاق اتسع» (?) ، وأجاب بها في ثلاثة مواضع:

أولاً: إذا فقدت المرأة وليها في السفر جاز لها أن تولي أمرها رجلاً أجنبياً.

ثانياً: يعفى عما يحمله الذباب في رجله من النجاسة.

ثالثاً: يجوز التوضؤ من أواني الخزف المصنوعة بالسرجين (?) إذا لم يوجد غيرها من الأواني الطاهرة (?) .

وللفقهاء عكس هذه القاعدة: (إذا اتسع الأمر ضاق) ، ومثاله: قليل العمل في الصلاة لمن كان يشق اجتنابه رخّص فيه، وكثيره مما لا تمس إليه الحاجة لم يرخص فيه. وقد جمع ابن أبي هريرة بين هاتين القاعدتين فقال: «وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت» (?) ، وعبّر عنها الغزالي بقوله: «كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده» (?) .

ومن أشهر قواعد التيسير الطارئ وأسيرها قاعدةُ: (الضرورات تبيح المحظورات) (?) ، وفروعها بحر لا تترعُه الدلاء، ومعناها: استباحة المحرّم لعسر احتمال المكلّف عسراً يجلب عليه من الضرر ما لا يقدر عليه، ومن ثم تأخذ الممنوعات حكم المباحات في الضرورة المعتبرة شرعاً.

ومن فروعها: إباحة الميتة ولحم الخنزير لمن لم يجد طعاماً حلالاً وخشي على نفسه الهلاك، وشُرب الخمر لإزالة الغصة، ونبش القبور إذا دفن فيها الموتى بغير غسل، وكشف العورة أمام الطبيب لأجل المداواة.

بيد أن إباحة المحرمات للمضطر ليست مقصورة على المطعم والمشرب والتداوي، وإنما القاعدة عامة لكل ما يتحقق الاضطرار إليه في معترك الحياة؛ لأجل دفع العنت واتقاء الهلاك؛ ما سلم من المعارضة المساوية أو الراجحة، ولذلك عدّ ابن القيم من فروع القاعدة: جواز الفتوى بالرأي عند غياب النص، وجعلها كالميتة التي تباح عند الضرورة، قال: «إن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة؛ فالضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار» (?) .

وتنزيل هذه القاعدة على الواقعات ترد عليه ثلاثة قيود:

الأول: تصور قدر الضررين: الضرر الوارد على المكلَّف، وضرر استباحة المحرم، فأي الجانبين ترجّح كان الحكم له، ولذلك اشترط فقهاؤنا في إعمال هذه القاعدة نقصان المحظورات عن الضرورات، فلو كان الميت نبياً فإنه لا يحل أكل لحمه للمضطر؛ لأن حرمته في ميزان الشرع أعظم من مهجة المضطر.

الثاني: الضرورة تقدر بقدرها، فيكتفى في استباحة المحرم عند الاضطرار بالقدر الذي ألجأت إليه الضرورة من غير مجاوزة وشطط، قال ـ تعالى ـ: { ... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، ومن ثم لا يشرب المضطر من الخمر إلا القدر الذي يزيل به الغصة.

الثالث: الضرر لا يزال بالضرر، أي: أن ضرر إنسان لا يزال بضرر إنسان آخر؛ لأن الخلق كلهم عيال الله، ومتساوون في الحرمة، ويتخرج على هذه القاعدة أن المضطر لا يأكل طعام مضطر آخر أو يقتل ولده.

جـ ـ قواعد التيسير بالتدارك:

إذا وجد في الشريعة من القواعد ما يكفل التيسير ابتداء أو عند قيام الأعذار، فإنها لم تعرَّ عن تيسيرات تدفع مشاقاً واقعة، وتبيّن المخارج منها بتدارك الخلل وتعقب الخطأ، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه: قواعد التيسير بالتدارك (?) . وهي كثيرة غزيرة، منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق العبد؛ إلا أنها تؤول جميعها إلى معنى جامع هو اغتفار الذنوب، ومحو الآثام، ليستأنف المكلّف حياته بنقاء جديد لا يعكّره شيء من عثرات الماضي أو ينغصه تخوف من عواقب المآل وحساب المستقبل.

ومن أعظم قواعد التيسير بالتدارك قاعدة التوبة، وهي ذات أثر بالغ في رفع الحرج ودفع المشقة؛ وآية ذلك أن الإنسان غير معصوم من الخطأ واجتراج الإثم، لكنه في لحظة من لحظات اليقظة الإيمانية يرعوي عن غيّه، ويفيء إلى كنف الرشد، ولو حوسب بذنوب الماضي وترِكتِه، تبدّد أمله في رحمة الله، وخاب مسعاه في استئناف حياة طاهرة، وهذا منتهى الحرج وغاية الإعنات.

ويذكر العلماء للتوبة شروطاً لا بد من استيفائها لتؤتيَ أكلها، وتعمل عملها في محو الماضي الكالح بخطاياه وآثامه، واستشراف المستقبل بخير الزاد وهو التقوى، ويمكن إجمال هذه الشروط فيما يلي:

أولاً: الإقلاع عن الذنب.

ثانياً: الندم على اجتراح الذنب ندماً صادقاً.

ثالثاً: العزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنب.

رابعاً: تدارك ما أمكن تداركه من رد الحقوق إلى أصحابها، أو طلب العفو منهم.

خامساً: حصول التوبة في الوقت الذي حدّده الشارع وهو ما قبل الغرغرة، أي: خروج الروح.

وإذا استُوفيت هذه الشروط برمتها كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فتغسل التوبة الحوبة، وتُذهِب الحسنات السيئات ولو بلغت عنان السماء، وهذا على مذهب من يرى أن دليل قبول التوبة قطعي، وهو المذهب اللائق بيسر الإسلام ومقاصده في التمكين لدين الله بجلب المهتدين، وإرشاد الضالين، وفتح باب الإغضاء والصفح الجميل، وإلا عاش المذنب في غياهب ماضيه محروماً من بارقة أمل في استئناف حياة النقاء والصفاء.

وخالف هذا المذهب إمام الحرمين ومن لفّ لفّه، فحمل الأدلة على غير ظاهرها، وتأولها بقوله: «يقبل التوبة عن عباده إن شاء» (?) ، بناء على أن دليل قبول التوبة ظني، وهذا مسلك غير مرضي في تفسير النصوص، ولو جرى العمل به لتعطّلت أحكام في الشريعة، وانسلخت عن مقاصدها الأصلية، وقد كفانا أبو حامد الغزالي مؤونة الردّ على منتحلي هذا المذهب فقال: «فمن يتوهّم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول» (?) .

ومن قواعد التيسير بالتدارك قاعدة الكفارات، وهي في جوهرها ومآلها جابرة للنواقص، وساترة للذنوب، ومخرج من مضايق الإثم، فلا غرو أن يذكر السلف الصالح الكفارات من جملة المخارج الشرعية التي لا تخفى آثارها الحسنة في غور المجتمع أو غور النفس الإنسانية على حد سواء.

وقد علم بالاستقراء الدقيق أن الكفارات صنفان:

ـ صنف عام، لم يخصّص بذنب معين، ولا يدخل في باب العقوبات الشرعية، وهو ينتظم كل ما يصيب الإنسان من قوارع الدهر، وينزل به من مكروه في بدنه وولده وماله، فقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الابتلاء فرصة للمسلم لتكفير ذنبه، ومحو سيئاته، إذا ما لهج لسانه بحمد الله، ورضي بقدره، وأخذ نفسه بالصبر والاحتساب. ويلحق بهذا الصنف ما ينهض به المسلم من طاعات تكفّر الخطايا وتزيد في الدرجات؛ كالوضوء، والتنفل، والصدقات، ومحاسن الخلق، وغيرها.

ـ صنف خاص، وهو الشائع في اصطلاح الفقهاء عند إطلاق لفظ الكفارة، وقد عُرِّفت بأنها: اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة (?) ، وهي في حقيقتها تأديب على ارتكاب معاصٍ، وتكفير عن خطايا ارتكس فيها المكلّف بسبب جهالته وضعف وازعه الديني، ولا تخرج المعصية عن ثلاثة أنواع: معصية فيها الحدّ، ومعصية فيها الكفّارة، ومعصية لا حدّ فيها ولا كفّارة، ويجتهد الإمام أو القاضي في تقدير عقوبتها، وهو ما يسمى عند أرباب الفقه بـ (التعزير) .

والكفارات المعروفة في الشرع خمسة أضرب: كفارة التمتع بالعمرة إلى الحج، وكفارة اليمين، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة الإفطار عمداً في رمضان، وكفارة الظهار. ومعنى التيسير فيها ملحوظ جليّ؛ إذ إنها مخرج للمكلّف مما تورط فيه، وتمكين له من أسباب التوبة، فضلاً عما يترتب عليها من رفع الحرج عن غير المكفّر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015