(1 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
\ مقدمة:
منذ عقود مضت، بل منذ القرون الأخيرة ـ التي ظهر فيها ضعف المسلمين؛ حيث ركنوا إلى الحياة الدنيا وابتعدوا عما أراده الله منهم ـ أُهمِلت بعض الأحكام الشرعية وهُجِر العمل بها، ومن تلك الأحكام المهجورة الأحكام المتعلقة بأهل الذمة. لكن على رغم ذلكم الضعف وذلكم الإهمال لم يكن هذا إلا في الجانب العملي التطبيقي. أما الجانب الفقهي النظري فقد ظلت تلك الأحكام محفوظة مدونة في كتب أهل العلم، تدرّس بعض موضوعاتها للطلاب ومن طلبها وجدها.
أما اليوم، وفي ظل حالة الضعف الشديدة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وفي ظل ظهور الكفر وأهله وعلوهم في الأرض بالباطل، فإنه يراد لهذه الأحكام أن تُهجَر فكرياً ونظرياً كما هُجرِت عملياً وتطبيقياً، فبدأت حملة تغيير المناهج في بلاد المسلمين وحذف الموضوعات التي تتعلق بتلك الأمور، وإفساد دلالة الأدلة عليها بالتحريف لها، ووجدنا من يسارع ممن ينتسبون إلى الإسلام ـ إما أفراداً وإما جماعات ـ من يوافق على هذا، بل يؤلف ويكتب فيه الكتب والمقالات داعياً وناشراً لذلك بين الناس، فوجدنا من يقول عن أهل الذمة: مواطنون لا ذميون، ويجعل ذلك عنواناً لرفض الأحكام الشرعية المتعلقة بأهل الذمة بعبارة مقبولة عند العامة، ويسوِّغ ذلك بأن تلك الأحكام كانت وقتية وواقعية مرتبطة بواقع الصراع بين المسلمين وأهل الكتاب عند بداية الدعوة ـ وهذا من تحريف الكلم ـ ووجدنا من يتبعه ممن يقول: إن المواطنة التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة.
وبدأت سلسلة التنازلات شيئاً فشيئاً؛ فبعد أن أعلنت بعض الجماعات الإسلامية ـ على لسان أحد المسؤولين فيها ـ أن لأهل الذمة أن يتولوا المناصب كلها في الدولة الإسلامية من وزراء ومستشارين، باستثناء رئاسة الدولة، ثم عادت تلك الجماعة بعد أكثر من عقد من الزمان على لسان أحد المسؤولين فيها أيضاً لتقول: لا مانع من أن يكون على رأس الدولة الإسلامية التي تنشدها شخص قبطي. وهكذا تتوالى التنازلات، ابتغاء تحقيق حلم هو في عداد الأوهام. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ؛ فمن رام رضى اليهود والنصارى عليه وهو يخالفهم ولا يتبعهم فهو واهم، كما قال الطبري: «والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما» (?) . لكنهم إذا رضوا عنه فهذا يعني موافقته لهم، أو أنه يحقق أهدافهم وطموحاتهم، وهو بذلك يكون قد أضر بدينه وأغضب الله عليه.
\ ما المراد بأهل الذمة؟
أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين الإسلام، لكنهم رغبوا في البقاء في دار الإسلام والتمتع بحماية المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، سواء كانوا من أهل تلك البلاد المفتوحة، أو قدموا من ديار الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة المسلمين يعرف بـ (عقد الذمة) (?) ؛ حيث يرتب هذا العقد حقوقاً وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما.
ويدخل في هؤلاء الذين يجوز أن يُعقَد لهم عقد الذمة: أهل الكتاب اليهود والنصارى، ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران، قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الإجماع، أما من عداهم من عبدة الأوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم: هل يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إلا الإسلام أو الحرب؟، وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الأوثان فيمن يجوز أن تُعقَد لهم الذمة (?) ، وهو الذي يعضده الدليل على ما تبين في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً وفيه: « ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم ... » إلى أن يقول: « ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم» (?) فعلق الحكم بلفظ المشركين وعمم، ولم يستثنِ من ذلك مشركاً من المشركين.
والذمة: الأمان والعهد؛ فعقد الذمة: عقد الأمان الذي تمنحه الدولة لأهل ذمتها، وتتعهد بمقتضاه بحمايتهم وتأمينهم، وبه أحكام تفصيلية كثيرة، لكن أظهر ما فيه وأجمعه هو: قبول الكفار بجريان أحكام المسلمين عليهم في الشأن العام، مع التزام دفع الجزية، التي هي مبلغ مالي مُقدر من قِبَل الدولة، يعبر عن قبولهم بعقد الذمة والتزامهم به وخضوعهم لأحكامه، وفي مقابل ذلك يأمن الذميون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لا يُقرب شيء من ذلك إلا بالحق الذي بينه الله ـ تعالى ـ. قال الله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
\ معاملة المسلمين لأهل الذمة:
ولقد عُومل أهل الكتاب على مدار التاريخ الإسلامي معاملة عادلة من المسلمين، لا وكس فيها ولا شطط، شهد بذلك مؤرخوهم ومفكروهم؛ فهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله #: أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم» (?) ؛ فهم ذمة الله ـ تعالى ـ وذمة رسوله #، يجب الوفاء بما عوهدوا عليه، وأن لا يُنتقص منه شيء، وأن يُدافع عنهم ضد أي اعتداء، وأن لا يُكَلَّفوا من الأعمال فوق طاقتهم. وقد ذكر أبو يوسف في (كتاب الخراج) أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأى رجلاً كبيراً يسأل الناس؛ فلما علم أنه من أهل الذمة، وأنه يسأل من أجل الفقر الذي به؛ ولكي يدفع الجزية المطلوبة منه، وضع عنه عمر الجزية، وأعطاه شيئًا من عنده، وقال: «ما أنصفناه أن أخذنا منه وقت شبابه وقوته على الكسب، ثم نتخلى عنه عند ضعفه وعدم قدرته على التكسب» (?) .
وانظر موقف ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ عندما ذهب إلى ملك التتر يفاوضه على الإفراج عن الأسرى فأعطاه ملك التتر الأسرى من المسلمين، فأبى الشيخ إلا أن يفرج عن أهل الذمة أيضاً؛ لأنهم ذمة المسلمين، واستنقاذهم من بين يدي الأعداء واجب المسلمين.
قال ابن الأزرق فيما نقله عن القرافي: «وقد حكى ابن حزم في (مراتب الإجماع) له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله ـ تعالى ـ وذمة رسول الله #؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة» (?) ، وعقد الذمة عقد مؤبد ويكتسب قوته من أمر الله ـ تعالى ـ للمسلمين بالوفاء بالعقود. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
ولا تعني المعاملة العادلة أن يُعطَى أهل الذمة ما لم تعطه لهم النصوص الشرعية؛ فإن ذلك وإن كان فيه تفضل عليهم بما ليس لهم، لكنه من الناحية الثانية فيه ظلم للمسلمين بإعطاء بعضٍ من حقوقهم لغيرهم، ومن ذلك الولايات السياسية، وهو موضوع الفقرة التالية.
\ الولايات السياسية:
الصورة الأولى: من يكون عامَّ الولاية عامَّ العمل؛ كالخليفة والملك والسلطان والرئيس. فولايته عامة تشمل الرقعة الإسلامية كلها، ونظره وعمله في الأمور جميعها.
والصورة الثانية: من يكون خاصَّ الولاية عامَّ العمل؛ كولاة الأقَالِيمِ وَأمراء الْبُلْدَانِ. فولايته محدودة بحدود إقليمه، ونظره عام في كل أمره.
وَالْصورة الثالثةُ: من يكون عامَّ الولاية خاص العمل؛ كالقائد الأعلى للجيش، وكرئيس مجلس القضاء الأعلى، وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الخرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تعم ولايته الرقعة الإسلامية كلها، ولكنها خاصة في عمل معين.
وَالصورة الرَّابِعة: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الأعْمَالِ الْخَاصَّةِ؛ وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ؛ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ، وكل هذه الأمور فيها عزٌّ وعلو اليد واستطالة، واطلاع على أسرار المسلمين ودواخل أمورهم؛ فلذا لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين الأمناء على دينهم وديارهم (?) .
وذلك أن الدولة الإسلامية دولة ذات عقيدة ولها رسالة، ورسالتها ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة الدنيا لأفرادها، وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة، وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم؛ رحمة بهم وشفقة عليهم ورغبة في إخراج من شاء الله منهم من الظلمات إلى النور، وهذا يتطلب جهداً كبيراً وبذلاً عظيماً مع ما تحتاج إليه الدولة من الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية، وهذا يعني أنه لا يقوم بهذه المهمة ولا يقدر على ذلك إلا من هو مؤمن بهذه الرسالة معتقد لها، مستعد للبذل والعطاء في سبيلها، يرى في نشرها وتبليغها الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، لذا كان من الأمور المنطقية ألا يقوم على هذه الدولة إلا المؤمنون برسالتها، ومن هنا يتبين أن ولي الأمر لا يجوز أن يكون ممن لا يؤمنون بهذه الرسالة.
وتكليف أهل الذمة بتولي الأمر، يعني أحد أمرين: إما تكليفهم بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينهم أو عقيدتهم؛ وهذا يعد إكراهاً لهم، وإما التفريط في رسالة الدولة وإضاعتها، وكِلا الأمرين غير مقبول. يقول محمد أسد ـ رحمه الله ـ: «إننا يجب ألا نتعامى عن الحقائق، فنحن لا نتوقع من شخص غير مسلم مهما كان نزيهاً مخلصاً وفياً محباً لبلاده متفانياً في خدمة مواطنيه، أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق الأهداف (الأيديولوجية) للإسلام، وذلك بسبب عوامل نفسية محضة لا نستطيع أن نتجاهلها. إنني أذهب إلى حد القول: إنه ليس من الإنصاف أن نطلب منه ذلك، ليس هناك في الوجود نظام (أيديولوجي) ، سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك من الأسس الفكرية من أي نوعٍ، يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد أموره في يد شخص لا يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا النظام» (?) .
وقد ورد النهي عن تمكين الكفار (أهل الذمة وغيرهم) من ولاية أمر المسلمين على أي صورة كان ذلك، وفي ذلك أدلة كثيرة، منها:
1 ـ النهي عن توليهم واتخاذهم أولياء:
قد تعددت النصوص الشرعية الواردة في ذلك في مواضع عدة من القرآن وفي مواقف مختلفة، وتنوعت أساليبها؛ فمرة تنهى عن اتخاذهم أولياء، وأخرى تبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وثالثة تحصر موالاة المؤمنين في المؤمنين فلا تتعداها لغيرهم، وقد تنوعت النصوص الزاجرة عن مخالفة ذلك في بيان العقوبات المترتبة على المخالفة.
والموالاة المنهي عنها ليست عملاً قلبياً فقط، بل منها القلبي ومنها العملي، وكلاهما منهي عنه ومحرم على المؤمنين، وبعضه أشد جرماً ومعصية من بعض.
فمن الموالاة العملية: التحالف والنصرة، والركون إليهم، والمعونة، والمظاهرة.
ومن الموالاة القلبية: المحبة لهم، وركون القلب إليهم، والأنس بهم، والمودة لهم. حتى وإن كان الوادُّ المحب لا يوافقهم على دينهم، كما قال ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] . وإذا كان المؤمنون منهيين عن مودة الكافرين والركون إليهم، فهل يقوم بعد هذا في تصور إنسان يعقل ويدري ما يقول ويخرج من رأسه أنه يجوز أن تقر الشريعة ولاية أهل الذمة للمسلمين؟
فالنصوص التي تنهى عن اتخاذهم حلفاء أو الانتصار بهم، تنهى من باب أوْلى عن توليتهم للإمارة أو دخولهم فيمن يسندها لمن يستحقها من المسلمين، فإن هذا من أعظم الموالاة.
وقد وردت في ذلك آيات متعددة، وأهل العلم في تفسيرهم لآية من هذه الآيات يوردون الآيات الأخر، وذلك دليل على أنها كلها تدل على المعنى نفسه:
فمن النصوص الواردة في المسألة قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
[المائدة: 51]
قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذِكْرُه ـ نهَى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً ووليّاً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان» (?) .
وفي تفسيرها أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عِيَاضٍ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ، وَقَالَ: «إِنَّ هَذَا لَحَفِيظٌ؛ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَاباً فِيَ الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟» فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ عُمَرُ: «أَجُنُبٌ هُوَ؟» قَالَ: لا، بَلْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، قَالَ: «أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (?) ، وروى ابن أبي حاتم أيضاً بسنده قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: «لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً وَهُوَ لا يَشْعُرُ» ، قَالَ: فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (?) .
وقال الجصاص الحنفي في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] : «فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ؛ وَنَحْوُهُ قَوْله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] الآيَةَ، وَقَالَ: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فَنَهَى فِي هَذِهِ الآيَاتِ عَنْ مُوَالاةِ الْكُفَّارِ وَإكْرَامِهِمْ، وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِمْ وَإذْلَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ، وَعُلُوِّ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ، وتَلاَ قَوْله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] (?) .
قال ابن العربي المالكي: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيّاً فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» (?) .
وقال ابن كثير الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ينهى ـ تعالى ـ عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] (?) ، ثم أورد أَثَرَيْ ابن أبي حاتم السابقين.
وقال الرازي: «رُوي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن لي كاتباً نصرانياً، فقال: ما لك؟ قاتلك الله! ألا اتخذتَ حنيفاً! أما سمعت قول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] ؟ قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أُعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني، والسلام. يعني هب أنه قد مات؛ فما تصنع بعده؟ فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره» (?) .
وقال النسفي: «أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم، وتؤاخونهم، وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين» (?) .
وقد ورد بمعنى الآية المتقدمة قوله ـ تعالى ـ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] ، قال ابن كثير في تفسيرها: «نهى الله ـ تبارك وتعالى ـ عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النساء: 144] ، وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] وقال ـ تعالى ـ بعد ذِكْر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب ـ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] (?) .
قال أبو حيان في تفسير قوله ـ تعالى ـ: « {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 144] قال: «قيل: وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه: ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية، كقوله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] (?) .
وقد بيَّن القرآن سبب مسارعة بعض من يظهر الانتساب للإسلام في التحالف مع الكفار، وأن ذلك نتيجة ضعف إيمانهم أو ذهابه بالكلية؛ لكي يكون لهم الكفار نصراء وحلفاء عند الحاجة. يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير الآية، وكأنه يصف حال كثيرين من أهل زماننا ممن يوالون اليهود والنصارى ويسارعون فيهم: «وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المائدة: 52] أي: شك، وريب، ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمرٌ من ظفرِ الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أيادٍ عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك» (?) . وهذه في الحقيقة حجة كثيرين ممن يزعمون أن لأهل الذمة الحق في المشاركة في الحياة السياسية في بلاد المسلمين؛ يصطنعون بذلك يداً عند أمم الكفر الغالبة موافقة ومداهنة لهم.
ومن تتبع الشروط الواردة في ولاية أمر المسلمين في جميع كتب أهل العلم من جميع المذاهب، علم يقيناً أنه لا يجوز بحال أن يتولى كافر ولاية الأمر، سواء كان كافراً أصلياً أو كافراً لردته عن الإسلام، وسواء كان غازياً محتلاً لبلاد المسلمين، أو كان من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين؛ فما نسمعه اليوم من المنتسبين إلى بعض الجماعات الإسلامية الخائضين في الانتخابات البرلمانية، من أنه يجوز للنصراني في بلد المسلمين أن يكون ولياً للأمر هو باطل بيقين ومخالف لإجماع المسلمين. قال القاضي عياض: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الإمَامَة لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا» (?) ونقل هذا الإجماع أيضاً ابن حجر فقال: يَنْعَزِل بِالْكُفْرِ إِجْمَاعاً (?) .
وقال ابن الأزرق: « (بعدما ذكر كلام ابن العربي المتقدم) قلت: وقد ورد العمل بذلك عن السلف، قولاً وفعلاً، ويكفي من ذلك روايتان: الرواية الأولى: (وذكر رواية عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ مع أبي موسى الأشعري ـ رضي الله تعالى عنه ـ التي سبقت) ، الرواية الثانية: قال: «وكتب عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ إلى بعض عماله: أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك رجلاً يقال له: فلان وسماه ـ على غير دين الإسلام، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، فإذا أتاك كتابي هذا، فادعُ فلاناً إلى الإسلام، فإن من أعمال المسلمين، فقرأ عليه الكتاب، فأسلم» (?) ، وما تقدم من الأدلة والأقوال دليل على أنه لا يجوز أن تكون لأهل الذمة ولاية على المسلمين، سواء كان في ولاية عامة أو خاصة، وقد سئل أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ: « (في رواية أبي طالب) نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء» (?) .
2 ـ النهي عن اتخاذهم بطانة:
قال الله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ، بوَّب البخاري في صحيحه باب: بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته، الْبِطَانَة: الدُّخَلاء، قَال ابن حجر في الشرح: قوله: (بَاب بِطَانَة الإمَام وَأَهْل مَشُورَته) بِضَمِّ المُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفَتْح الرَّاء: مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، قَوْله (الْبِطَانَة: الدُّخَلاء) هُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة قَالَ فِي قَوْله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} الْبِطَانَة: الدخلاء، وَالخَبَال: الشَّرّ. اِنْتَهَى. وَالدُّخَلاء بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْح جَمْع دَخِيل: وَهُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الرَّئِيس فِي مَكَان خَلْوَته وَيُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، وَيُصَدِّقهُ فِيمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْر رَعِيَّته وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ» (?) .
قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاَّء وأصفياء، ثم عرّفهم بما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم» (?) ، وقد بين ابن جرير أن هؤلاء «هم الذين وصفهم ـ تعالى ذِكْره ـ بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله # وأصحابه من أهل الكتاب» (?) .
وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] الآية، فيه ست مسائل:
الأولى: أكد الله ـ تعالى ـ الزجر عن الركون إلى الكفار، وهو متصل بما سبق من قوله: {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100] والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به.
قال الشاعر:
أولئك خلصائي نعم وبطانتي
وهم عيبتي من دون كل قريب
الثانية: نهى الله ـ عز وجل ـ المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ثم بين ـ تعالى ـ المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] يقول: فساداً، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم، وإن لم يقاتلوكم في الظاهر، فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة. وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: لا تستعملوا أهل الكتاب؛ فإنهم يستحِلّون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: إن ههنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحدَ أكْتَبُ منه ولا أخطُّ بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والإنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء.
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله #: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» (?) ، فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد ـ عليه السلام ـ: لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً، قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] (?) .
وقال ابن الجوزي: «قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب. وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله» (?) .
وذكر ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن هاهنا غُلاماً من أهل الحِيرة، حافظاً كاتباً، فلو اتخذته كاتباً؟ فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين. ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] (?) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم (?) نوعاً من تولِّيهم (?) . وقد حكم ـ تعالى ـ بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكافر أبداً» (?) .
فهذه الآية تمنع من اطلاع الكفار على أسرار المسلمين، وقد بينت الآيات العلة في ذلك وهو كُره الكفار للمسلمين ورغبتهم في حصول ما يُعنتهم ويشق عليهم، وليس هناك من اطلاع على أسرار المسلمين أكثر من أن يصير الرجل متولياً لبعض أمورهم.
3 ـ النهي عن الركون إليهم:
قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113] أي: ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه» (?) فهو نهي عن الاستعانة بالظلمة، ويدخل فيهم دخولاً أولياً أهل الذمة فهم كفار، وقد قال الله ـ تعالى ـ: [ {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَرْكَنُوا} الركون حقيقة: الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء، والرضا به. قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب، وقال ابن زيد: الركون هنا: الادّهان؛ وذلك ألاّ ينكر عليهم كفرهم ...
الثالثة: قوله ـ تعالى ـ: {إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ... } [الأنعام: 68] الآية، وقد تقدم.
وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
الرابعة: قوله ـ تعالى ـ: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: تحرقكم، بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم، وموافقتهم في أمورهم» (?) .
وكل ما أوردناه فيما سبق من الأدلة والنقول دال على عدم جواز تولية الكفار أهل الذمة وغيرهم الولاية على المسلمين. وإن كان هذا لا يمنع من استخدام من كان منهم حسنَ الرأي في المسلمين، وذلك في غير ولاية الأمر أو ما فيه علو واستطالة على المسلمين، أو ما كان فيه اطلاع على أسرارهم.