مجله البيان (صفحة 5839)

المقاصد الوهمية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

لقد أثيرت زوبعة منذ مدة حول المقاصد وموقعها من الشريعة وعلاقتها بالنصوص، وألحت أصوات على ضرورة توسيع دائرتها مما دفع إلى بذل جهد في إيضاح الرؤية حول تصنيف المقاصد التي قصدها الشارع والتي توهمها الناس.

لقد جاءت مقاصد الشريعة نتيجة استقراء واسع لنصوص الشريعة وما حوته من كليات، من قِبَلِ الراسخين في العلم من أهل ملة الإسلام بعد أن فحصوا نصوص الوحي باعتبارها المصدر الوحيد والمنبع الفذ لاستخلاص هذه المقاصد.

قال الإمامُ الغزالي: «مقاصدُ الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع؛ فكل مصلحةٍ لا ترجعُ إلى حفظِ مقصودٍ فُهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع؛ فهي باطلة مُطَّرحة» (?) .

وذلك ما عبرَ عنهُ الإمامُ الشاطبي حيث قال: «كون الشارع قاصداً للمحافظةِ على القواعدِ الثلاث: الضرورية والحاجيّة والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند إليه؛ والمستند إليه في ذلك إما أن يكونَ دليلاً ظنياً أو دليلاً قطعياً، وكونه ظنياً باطلٌ، مع أنه أصلٌ من أصولِ الشريعة، بل أصلُ أصولها، وأصولُ الشريعة قطعية؛ فأصول أصولها أوْلى أن تكونَ قطعية، ولو جازَ إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة: أصلاً وفرعاً، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية بلا بد، دليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض بحيث ينتظمُ من مجموعها أمرٌ واحدٌ تجتمعُ عليهِ تلك الأدلة.. فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من: الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألْفَوْا أدلة الشريعة كلها دائرة على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة» (?) .

وقال الإمام العز بن عبد السلام: «أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء، طُلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح» (?) .

ولقد أحسن شيخ المقاصديين الإمام الشاطبي حين أتحفنا بوضع أهم المعالم التي ننطلق منها في تصنيفنا للمقاصد إلى مقصود ومتوهم، عبر جملة من القواعد الكبرى، فقال:

ـ «المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو: إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً» (?) .

ـ «وُضِعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم ولا يفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة» (?) .

ـ «من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة» (?) .

ـ «إن عامةَ المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح؛ فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نِِحَلهم، بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر ... وليس كل ما يقضي به العقل يكونُ حقاً» (?) .

ومما نأخذه من هذه النصوص أن الشاطبي يرفض جملةً وتفصيلاً التخلي عن جزئيات الشريعة ودقائقها بدعوى الحفاظ على روحها أو مغزاها أو توهم مقاصدها.. إذ كلها وأجزاؤها مرتبطة ببعض، وذلك الكل وتلك الأجزاء لم ينتجها العقل ولا التفكير ولا التوهم، وإنما وجدت تبعاً لوحي محكم لا يتبدل ولا يتغير، فلا مجال لعبث العقل.. ولا محل للارتجالية والتوهم في الدين، بل لا بد من الوقوف عند الحدود التي رسمتها نصوص الشرع والانقياد لها والاستسلام، قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، مما يبين أن توهم المقاصد وتوظيفها تبعاً لمعايير عقلية ليس إلا إقصاء للنص الشرعي، وتبريراً لحلول يمليها الاستسلام لضغط الواقع.

قال ابن تيمية: «فتبين أن قول الذين يُعرِضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره من أصناف أهل الكلام والفلسفة وغيرهم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم» (?) .

يقول الدكتور الخادمي: «المقاصد الشرعية ـ وكما تدل علىها صفتها الشرعية ـ هي المقاصد الثابتة بالشرع الإسلامي، أي بأدلته ونصوصه وتعاليمه وهديه، فهي مبنية على الشرع ومنضبطة بقيوده وقواعده، ومعلوم أن ميزان الحكم على أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة إنما هو الشرع وما يتعلق بذلك الفعل من الأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية النصية والاجتهادية، والقول بغير هذا موقع بلا شك في القول بتحكيم العقل قبل مجيء الشرع وبعده» (?) .

فالله ـ تعالى ـ إنما أرسل الرسل ـ عليهم السلام ـ وأنزل الكتب ليكون الواقع خاضعاً لما جاء به أولئك الرسل ونزلت به تلك الكتب. قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} . [الشورى: 52 - 53]

غير أن بعض المتعالمين سعى من خلال طلب التوسط والسماحة إلى فتح الباب على مصراعيه تحت شعار (فقه التيسير ورفع الحرج) فقاده ذلك إلى تقديم فتاوى شاذة وآراء غير ممسوكة بزمام، تخالف النصوص والإجماع وما دأب عليه الأئمة المتقدمون وما تعارفوا عليه، من الوقوف عند حدود النص والبعد عن التقوُّل بخلافه، بل والورع عن الفتوى في ما لا يعلمون، ظانين (المتعالمين) أن ذلك سينهض بالأمة ويساهم في حل أزماتها.

ولله در القائل:

وإذا رجوتَ المستحيل فإنما

تبني الرجاء على شفير هاري

لقد راعى الشرع المطهر أحوال العباد ومصالحهم الخاصة والعامة، وأتاح الرخص وسلك التيسير، فكان مجمل نصوصه مبنياً على قصد التخفيف، مؤسَّساً على اليسر والسماحة، كما دعا إلى ربط الأحكام بمعطيات الواقع ومراعاة الظروف، مع الأخذ بقدسية النص وتطبيق مدلولاته والاستجابة له وتطبيقه، غير أن مراعاة الشريعة لتلك الأحوال وإتاحتها لفرص التيسير لم تأذن يوماً بالخروج عن النص ومن باب الأحرى أن تناقضه.

فالبديل المطروح يظل متمثلاً في الرجوع إلى النصوص ودراستها واستيعابها وفهمها واستظهار مقاصدها والتعامل مع الواقع انطلاقاً منها وبها.

فالحكم ليس إلا لله ـ تعالى ـ وحده والعباد محكوم عليهم. قال ـ تعالى ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .

فما أحوج الخلق إلى تطبيق هذا القرآن العظيم والامتثال لهذه السنة المطهرة! يقول ابن تيمية: «حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يتلف عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله» (?) .

لقد ركز دعاة المعاصرة على اختلاق أو تخيل مقاصد يعملون على نسبتها إلى الشارع، وغالباً ما تكون من الارتجال أو التوهم لتبرير تصرفات، أو لإصباغ شرعية على مواقف أو أطروحات يخافون إنكار علماء الشريعة لها؛ ففي الميدان السياسي مثلاً يجنحون إلى ضرورة تطبيق الديمقراطية بدعوى تماثلها مع الشورى الإسلامية، وكذلك يدعون إلى وجود دستور للدولة المسلمة له مواد قانونية وضعية يتأسس عليها، زاعمين أن الشريعة قصدت ذلك طلباً للمصلحة، غير أن تاريخ المسلمين يكذِّب هذه الأطروحة؛ إذ حكم بلادَ الإسلام دولٌ متعاقبة على مساحات شاسعة من المعمورة، وانضوت تحت حكمها شعوب مختلفة، وقاد المسلمون تلك البقاع، وساسوا جميع هذه الشعوب بأحكام الشرع المنزل، ولم يعرفوا الديمقراطية ولم تكن لهم دساتير أو أنظمة حكم غير الكتاب والسنة وما انبثق عنهما؛ فما هي المقاصد التي فوَّتوها حتى تُسْتَدْرَك عليهم؟ أم إنه اتباع سنن اليهود والنصارى؟ حيث وضعوا نُظُماً وضعية تنظم معايشهم وأمور دولهم، وسنوا قواعد لتيسير حياتهم بعدما عانوا من ظلم الملوك ورجال الكنيسة باسم الدين، فثاروا على ذلك، واضطروا إلى وضع قوانين بشرية وضعية للتخلص من سلطان الملوك والبابوات وسدنة الكنيسة، فاتبعهم كل ناعق من جهلة أبناء المسلمين.

ورغم علم هؤلاء الأتباع برفض المجتمع لما هم عليه وحتى لا يفتضح ما ذهبوا إليه من تقليدهم الأعمى للعَمَه الغربي فإنهم يتقنعون بمقاصد موهومة نسبوها إلى الشرع المطهر، وإن لم تقصدها الشريعة؛ بل قصدت خلافها حين قصدت مخالفة أصحاب الجحيم.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الله أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم، ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر، التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أُنزلت على موسى ـ عليه السلام ـ في التوراة، وإن كانت الكلمات التي أُنزلت علينا أكمل وأبلغ، وأمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات، وأخبر: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] » (?) .

فإن مجرد توهم المقاصد لا يجعلها شرعية؛ فالمقاصد الوهمية هي التي يُتخيَّل ويُتَوَّهم أن فيها مصلحة ومنفعة أو دفع مفسدة ومضرة، إلا أنها في الحقيقة خلاف ذلك فهي مردودة باطلة» (?) .

وخلاصة القول: إن المقاصد حتى تكون معتبرة من الشارع وغير ملغاة منه، لا بد أن تستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو قاعدة كلية منبثقة عنهما، فلا تعارِض نصاً شرعياً ولا قاعدة ثابتة شرعاً في إطار من الموازنة واعتبار المآل، أما مجرد الوهم أو الرأي غير المستند إلى النصوص والضوابط الشرعية فهيهات أن يعتبر مرجعاً ودليلاً لاستخلاص الأحكام!

قال ـ تعالى ـ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 114 - 116] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015