مجله البيان (صفحة 5818)

كيف نحيي رسالة المسجد

شوقي عبد الله عبّاد

لا يخفى على مسلم ما للمسجد من دور في حياة المؤمن؛ فهو المدرسة الأولى التي تخرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهم. فكان لهم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها؛ ذلك أن المسجد أدى دوره وقام برسالته التي جاء من أجلها؛ فلم يكن في عهود الإسلام الأولى دار صلاة فحسب، بل كان مع ذلك دار اجتماع لكل المسلمين، ومركزاً لإرسال السرايا والجيوش، ومنه ينطلق الدعاة إلى الله يجوبون الأرض يعلِّمون الناس الخير.

وفي هذا المقام أود التذكير برسالة المسجد، وإحياء هذه الرسالة التي كادت أن تموت، ولا سيما أننا في وقت يحارب فيه المسلم بوسائل مختلفة، وأساليب متعددة.

وهذه بضع عشرة وسيلة استخلصتها من هدي الإسلام وقواعده العامة، نستطيع من خلالها معاً أن نفعّل دور المسجد ونحيي شيئاً من رسالته؛ فإن غياب هذا الدور، واندراس تلك الرسالة، من أسباب تعرض المسلم للانجراف وراء التيارات المنحرفة المفسدة المشبوهة، التي تستهدف تضليل الناشئة بالدرجة الأولى، وإبعادهم عن دينهم وإغراقهم في أوحال الرذيلة مستخدمة في ذلك شتى الوسائل من دور سينما ووسائل إعلام وشبكات اتصال.

وسائل تفعيل إحياء رسالة المسجد:

ü الوسيلة الأولى: عقد الدروس الشرعية والدورات العلمية:

وذلك بواسطة العلماء وطلاب العلم في شتى صنوف العلوم الشرعية من عقيدة وفقه وحديث وتفسير وغيرها، وذلك بين الفينة والأخرى، لا سيما في مواسم العُطَل والإجازات. ومما يدل على أن المسجد كان مهد مثل هذه الدروس العلمية قصة أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ فيه شيئاً يُقْسَم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى! رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-» (?) .

ولهذا كان الواحد من السلف، إذا أراد أن يطلب العلم، توجه أول ما يتوجه إلى بيت الله؛ فعن صفوان بن عسال المرادي ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفّه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا، من محبتهم لما يطلب» (?) .

وقد ألمح -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك حين قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله» (?) والشاهد من الحديث قوله: «في بيت من بيوت الله» وذلك لأن الغالب في حلقات القرآن وفي دروس العلم أن تكون في بيوت الله (?) .

ومن أولى أولويات الدروس العلمية: حلقات تحفيظ القرآن الكريم للناشئة؛ فما زالت مساجد المسلمين عامرة منذ القديم بمثل تلك الحلقات التي يتخرج فيها حفظة كتاب الله، وهناك بعض المساجد تجعل حلقات التحفيظ في مدرسة أو دار خاصة بالتحفيظ مستقلة عن المسجد، مستقلة عنه حسب الظروف.

ü الوسيلة الثانية: إلقاء المحاضرات والندوات:

والمقصود بذلك المحاضرات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، وهذه تختلف عما سبق من حيث إنها لا تركز على شريحة معينة من المجتمع كطلبة العلم، بل تتوجه إلى عموم الناس: المتعلم وغير المتعلم، من النساء والرجال، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (?) ، وإن من أهم المواضيع العامة التي يحتاجها الناس كلهم بيان أركان الدين الخمسة، وأعظمها الصلاة، وحث الناس على أدائها في جماعة، خصوصاً فريضة الفجر؛ فما بنيت المساجد إلا للصلاة وذِكْر الله. ومن المواضيع المناسبة في هذا الموطن ما يتعلق بالأسرة والبيت وتربية النشء ومسائل النكاح والطلاق والمشاكل الاجتماعية والأسرية التي تعاني منها كثير من بيوت المسلمين.

ü الوسيلة الثالثة: إلقاء بعض الكلمات والمواعظ الموجزة:

يتم إلقاؤها بين فينة وأخرى يستفيد منها جميع روّاد المسجد خاصة أهل الحي، على أن يُرَاعى في ذلك كله الأوقات المناسبة حتى لا يملّ الناس، وهكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (?) ؛ هذا وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس موعظة، وهؤلاء هم الصحابة أحب العالمين للموعظة. وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يذكّر الناس كل خميس اتباعاً لهدي النبي الكريم. والمهم في هذا الأمر عدم إملال الناس وتنفيرهم، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فقد يكون التذكير يوماً بعد يوم، أو يوماً بعد يومين، وقد يكون أسبوعياً، والضابط في ذلك كله هو الحاجة مع وجود النشاط (?) .

ü الوسيلة الرابعة: إنكار المخالفات الشرعية نصحاً لعامة المسلمين:

وذلك عند وقوع أحد منهم في مخالفة داخل المسجد، وقد جاءت السنَّة بالنهي عن أمور تتعلق بالمساجد كالبيع والشراء فيها (?) ، ونشدان الضالة (?) ، ورفع الأصوات (?) ؛ ونحو ذلك. ولعلِّي أضرب مثالاً واحداً لإحدى المخالفات التي أعتقد أنها منتشرة وقلّ أن يخلو منها مسجد، تلك هي المرور بين يدي المصلي، والمرء يعجب أشد العجب من تهاون الناس في هذا الأمر؛ فالمار لا يبالي كثيراً بأخيه المصلي، بل لا يبالي بإخوانه المصلين، فتجده يقطع صفوف المصلين واحداً تلو الآخر وكأنه لم يقع في محرم بَلْهَ كبيرة من كبائر الذنوب (?) . ومن جانب آخر تجد المصلين أنفسهم يتساهلون في عدم دفع هذا المار بين أيديهم وكأن الإثم يقع على المار فحسب، والأشد عجباً هو تخلي جمهرة المسلمين ـ خصوصاً أئمة المساجد ـ عن القيام بواجبهم في النصح والإرشاد لهذا الأمر المتكرر يومياً، وللأسف فإن المسجد الحرام أخذ النصيب الأوفر من الوقوع في هذه المخالفة الشرعية، بحجة أن بعض العلماء أجاز ذلك عند الضرورة كالزحام الشديد، ولكن الناظر لحال الناس هنالك يرى عدم التفات الناس إلى تلك الضرورة أو الحاجة، بل أصبح الأمر عادياً حتى إن البعض يمر بين يدي المصلين ذهاباً وإياباً دون أي مبالاة. هذا مثال واحد من المخالفات في بيوت الله جل وعلا، وإذا كان نشدان الضالة وإشهار السلاح ونحوها، يندر أن تقع في المساجد اليوم؛ فهناك ما هو أشد منها كإصدار النغمات الموسيقية أو الأغاني عبر الهواتف المحمولة وغيرها من الأمور التي تحرم في كل مكان فضلاً عن المساجد والتي هي أحب البقاع إلى الله.

ü الوسيلة الخامسة: إماتة البدع وإحياء السنن:

يجب التعاون على إماتة البدع والخرافات من المسجد إن وُجدت، ثم إحياء السنن التي أُميتت وما أكثرها! والبدع هي من المخالفات التي ينبغي القيام بالنصيحة عند حدوثها (?) ، ولكني أفردتُ البدع عن سائر المخالفات لفداحة الآثار المترتبة على ارتكابها مقارنة بالمخالفات التي تم الإشارة إلى بعضها؛ فالبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها كما قال سفيان الثوري رحمه الله، ولست بحاجة لأن أعدّد البدع، بل الشركيات المتفشية في مساجد المسلمين ودور عبادتهم؛ فمن أخطر البدع ـ وهذا على سبيل المثال لا الحصر ـ التي لا تزال للأسف موجودة في مساجد المسلمين دفن الأموات ـ لا سيما من يُعتقَد فيه الصلاح والخير ـ إما في قبلة المسجد، وهذا أشنعها، أو في طرف منه، أو في صحنه، أو حتى في فنائه، وكذلك العكس أي إقامة المسجد وبنائه على قبر، ولم يكن هذا تعامل السلف الصالح مع القبور إطلاقاً، بل إن الذي أحدث المشاهد، وعظّم القبور في ملة الإسلام هم المبتدعة (?) . ومما يدل على خطورة هذا الأمر أن التحذير من الوقوع فيه كانت آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (?) .

وإن مما يندى له جبين المؤمن تلك الإحصائيات المروّعة، حول انتشار هذه البدعة في مساجد المسلمين حول العالم (?) ؛ وهذا يحتم علينا جميعاً التكاتف في تحذير الناس منها، والرفع إلى من يهمه الأمر بخطر مثل هذه البدع المفضية ولا شك إلى الشرك الأكبر، هذا مثال واحد من أعظم البدع ناهيك عند البدع الأخرى التي تكثر في المساجد وبدع الاحتفالات بالمناسبات الحولية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، أو الاحتفال بليلة النصف من شعبان، أو غيرها من المناسبات، وكذلك البدع المتعلقة بالأذان وبالأذكار دبر الصلوات، وكلها مما ينبغي التعاون على إزالته، فوالله لو لم نجنِ من تفعيل دور المسجد إلا تطهير بيوت الله من مثل هذه الخزعبلات لكفى. ولا ينبغي تهوين مثل هذه الأمور والنظر إليها بعين التساهل لعلاقتها الوثيقة بجناب التوحيد والذي بسلامته ينجو الإنسان من النار ويدخل الجنة، نسأل الله من فضله.

وبعد إماتة البدع (?) ينبغي العمل على إحياء السنن الخاصة بالمساجد، وهي كثيرة، وإنما تُرِكَت لتعلق الناس بالبدع، وينبغي التدرج في إحياء السنن في المسجد وتقديم الأهم فالمهم، حتى لا ينفر الناس من السنَّة أو ينكروها؛ فالسنن المتعلقة بصفة الصلاة وتسوية الصفوف مثلاً تُقدّم على سنن الدخول إلى المسجد والخروج منه، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه المقاصد وفقه المصالح والمفاسد، ومن لم يكن ذا مَكِنَة فلا يتجشم عناء التغيير، فقد يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح.

ü الوسيلة السادسة: جمع التبرعات والصدقات للمحتاجين في الأرض المحتلة:

والمقصود هو الدعم المالي المتواصل للمحتاجين من الأسر الفقيرة القاطنة بالحي، ولدعم المشاريع الخيرية أو لقضايا المسلمين في الخارج، وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى الدعم المالي للكيان المسلم في المسجد، كما في دعوته للإنفاق في غزوة تبوك (?) ، ودعوته للتبرع حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (?) ، وكان إذا جاءه مال الغنيمة، أو الفيء، نثره في المسجد يقسمه بين الناس، وبوّّب على ذلك الإمام البخاري فقال: باب القسمة وتعليق القِنْوِ في المسجد (?) ، قال ابن رجب: «المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء، وخُمْس الغنيمة، وأموال الصدقة، ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها» (?) ، وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يأخذون صدقاتهم إلى المسجد لعلهم يجدون من يأخذها منهم من فقراء المسلمين كما في قصة يزيد بن الأخنس ـ رضي الله عنه ـ حين أخذ صدقته إلى المسجد ليتصدق بها (?) . وجاء في وصف سبعين من خيار الصحابة أنهم كانوا يشترون طعاماً لأهل الصُّفَّة القاطنين بالمسجد (?) ، وقال يزيد بن أبي حبيب: كان مرثد بن أبي عبد الله اليزني ـ ويكنى بأبي الخير ـ أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط، إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح يتصدق به (?) . فهذه نماذج تدل على مكانة المسجد، ودوره في تدعيم الجانب الاقتصادي للمسلمين، وأن الصدقات والتبرعات وما شابهها كانت تنطلق منه (?) .

ولعل ما يمر به العمل الخيري من تضييق الخناق عليه، ومن حملات مسعورة تدعو لإيقافه، محفز لنا لإحياء دور المسجد في هذا الجانب، وتفعيل ذلك الدور ولو على المستوى الفردي، وإني على يقين جازم أنه لو اعتنى كل مسجد بهذا الجانب، وقام بأداء رسالته كما كانت في العهد الأول، مع شيء من التنظيم والترتيب الذي يتطلبه مثل هذا العمل، من حيث التوزيع الدقيق للمستحقين، وصرف الصدقات في أبواب البر التي يحتاجها المجتمع، وقبل ذلك وبعده الإخلاص لله في ذلك، لانتفع كثير من المحتاجين، وسُدّت أفواه، وأُشبعت بطون.

ü الوسيلة السابعة: بناء المساجد وتشييدها:

والنصوص الدالة على فضل بناء المساجد كثيرة، من أشهرها حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة» (?) ، وفي رواية «بنى الله له مثله في الجنة» . وإن التوسع العمراني في المدن من أهم الدواعي في الإكثار من بناء المساجد وتشييدها، فينبغي حث أهل الغنى والجِدَة على بناء المساجد خصوصاً في المناطق النائية، أو المجمعات السكنية التي يقطنها أعداد كبيرة من المسلمين، وكذلك الشركات التجارية الضخمة، التي يرتادها مئات الموظفين يومياً.

ومن أهم المحاذير المتعلقة بتشييد المساجد والتي ينبغي الحذر منها: الإسراف والتبذير في البناء ومتعلقاته، ومن أبرز مظاهر التبذير التي قلّ أن يخلو منها مسجد: الزخرفة والتزيين؛ فإن ذلك فضلاً عن أنه منهي عنه (?) ؛ ففيه من الإسراف والتبذير الشيء الكثير، بل فيه إضاعة لأموال المسلمين فيما لا فائدة فيه، وقد نُهِينا عن إضاعة المال (?) بالإضافة إلى إشغال المصلي عن صلاته التي هي سبب وجود المسجد، والأَوْلى صرف مثل هذه الأموال في ما يتطلبه المسجد من حاجات بعد البناء كترميمه، أو تنظيفه، أو نحو ذلك.

ü الوسيلة الثامنة: عمارة المسجد الحسّية:

لا شك أن الاهتمام بعمارة المسجد الحِسِّية من شعائر الله التي أمرنا بتعظيمها. قال الله ـ تعالى ـ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] ، قال قتادة: هي هذه المساجد أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها (?) . وفسر مجاهد رفعها ببنائها (?) : فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى (?) .

ومما يدخل في الاهتمام بالعمارة الحسية للمساجد العناية بتنظيفها وتطييبها بين فينة وأخرى؛ إذ المساجد هي أحب البقاع إلى الله جل وعلا (?) ؛ فهي أوْلى بالتنظيف والرعاية من غيرها. قالت عائشة ـ رضي الله عنها: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور، وأن تنظّف وتطيّب» (?) ، وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن التفل في المسجد خطيئة وأن كفارتها دفنها (?) . ومن ذلك أيضاً أن لا يأتيها الإنسان وهو متلبس برائحة كريهة تصدر من جسمه أو ثوبه أو فمه تتأذى بها ملائكة الرحمن، ويتأذى إخوانه المصلون؛ ففي الحديث: «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يأتينّ المساجد» (?) ، وبيّن في حديث آخر علة هذا النهي المتمثلة في إيذاء الملائكة وبني آدم من هذه الروائح (?) . والأحاديث والآثار الواردة في الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها كثيرة، ويتأكد هذا الأمر في حال اجتماع الناس أوقات الصلاة، أو يوم الجمعة، أو في رمضان، ونحوها من المناسبات.

كما ينبغي توفير وسائل الراحة لرواد بيت الله كبرادات مياه الشرب، وأجهزة التكييف خصوصاً أثناء فترة الصيف في البلاد الحارة خاصة، وكذلك السخانات الكهربائية وأجهزة التدفئة في فترة الشتاء، وأدوات التنظيف والكنس الحديثة، وغيرها من نِعَم الله التي أنعم بها علينا، والتي لم تكن متوفرة إلى عهد قريب، بل ولا تزال كثير من مساجد الله خالية منها؛ فقد كان الخدَم في سالف العهد، يُكلّفون بتنظيف المسجد، وكنسه بأيديهم، وبوّب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب الخدَم للمسجد، وذكر حديث المرأة السوداء التي كانت تقمُّ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (?) ، وفي بعض طرق الحديث أنها كانت تلتقط العيدان والخرق بيديها (?) .

ولا يظنن ظان أننا نهمل عمارة المسجد المعنوية بذكرنا للعمارة الحسية، بل إن الأمر على النقيض من ذلك؛ فإن الله ـ عز وجل ـ جمع العمارتين في آية واحدة، فقال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ... } [التوبة: 18] الآية. وما ذكرنا من وسائل لإحياء دَوْر المسجد هي صور للعمارة المعنوية للمسجد، ولذلك فإن المقصود من إفراد العمارة الحسية للمسجد بالذكر من باب كونها سبباً في تحصيل العمارة المعنوية التي اهتم بها الشارع الحكيم.

ü الوسيلة التاسعة: العناية بمصلىات النساء:

ويشمله كل ما يشمل مصلى الرجال، مع مراعاة الفوارق الشرعية؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهتم بشان النساء في المسجد، فأذن لهن في الحضور إلى المسجد، ونهى عن منعهن من ذلك (?) ، مع إشارته إلى أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد (?) .

ومع إذن الشارع الحكيم للنساء بشهود جماعة المسلمين بالمسجد إلا أنه حدّ حدوداً لا ينبغي تجاوزها، ومن تلك الحدود منع النساء من حضورهن متزينات متعطرات، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وليخرجن تَفِلات» (?) ، وفصلهن عن صفوف الرجال درءاً لوقوع ما لا تحمد عواقبه، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تخصيص يوم للنساء يعظهن فيه ويذكِّرهن (?) .

ومما يؤسف له أن الكثير من المساجد لا تعطي مصليات النساء أهمية كبيرة؛ فمن المساجد ما لا يوجد فيه مكان خاص للنساء أصلاً فضلاً عن أن يُهتم به، ومن المساجد ما لا تعير مصلى النساء اهتماماً، من حيث تنظيفه وتطييبه، بل تجده مهجوراً، وكأنه ليس تابعاً للمسجد، ومن مصليات النساء ما لا يُفتح إلا أياماً محددة كالجمعة من الأسبوع أو رمضان من السنة فحسب؛ وكأن النساء لسن شقائق الرجال كما جاء في الحديث (?) .

إنني أنصح القائمين على بيوت الله أن يعيدوا النظر في أحوال المصليات النسوية بالمساجد، وأن ينظروا ما تحتاجه تلك المصليات، حتى تقوم بدورها كجزء مهم من أجزاء المسجد، وإذا كان هذا الأمر مهمّاً في الماضي فهو أكثر أهمية في الحاضر مع اشتداد الهجمة على المرأة المسلمة وثوابتها.

ü الوسيلة العاشرة: تعويد الصبيان على ارتياد المسجد:

لا سيما المميزين منهم؛ مع تعليمهم آداب المسجد، وكان الصبيان ـ المميِّز منهم وغير المميِّز ـ في عهد السلف يدخلون المسجد، وكل ما ورد من أحاديث في منع الصبيان من دخول المسجد فلا تصح ويردُّها فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة، ولا ينبغي تنفير الأولاد من بيوت الله بحجة أنهم مصدر إزعاج للمصلين، أو سبب لذهاب الخشوع في الصلاة؛ فهذه حجج واهية، وما وسع الصحابة ينبغي أن يسعنا، ومثل هذا الإزعاج إن صدر يمكن معالجته بأساليب صحيحة أخرى، غير الطرد من المسجد، فإن الطرد فيه مفاسد كثيرة، أولها بُغض الصبي للمسجد، ونفرته منه، لا سيما إذا كبر، وكفى بهذه مفسدة، والشارع الحكيم حرص على ترغيبهم في الصلاة بالمسجد لا تنفيرهم منه، بالإضافة إلى أن تعويدهم الحضور للمسجد، فيه فوائد أخرى عدا أداء الصلاة، ومن ذلك رؤيتهم منظر التلاحم بين المسلمين بمختلف فئاتهم، ولمسهم معالم التآخي بين المصلين، فينشؤون على مثل هذه المفاهيم، وإذا حضروا الجمعة تعلموا أدب الإنصات وحُسن الاستماع، هذا إذا كانوا غير مميِّزين، أما المميِّز منهم فإنه لا شك سيستفيد مما يسمع من خطبة أو محاضرة، وسيتعلم الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية، والتي سينقلها إلى أهل بيته لاحقاً؛ فإن الاستجابة في الناشئة أسرع منها في الكبار (?) ، وكما قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوّده أبوهُ

ü الوسيلة الحادية عشرة: مكتبة المسجد:

إن إنشاء مكتبة للاستعارة والمطالعة بداخل المسجد تحت إشراف طلبة العلم المميزين، أو بجانبه، من مستلزمات إقامة الدروس العلمية، والدورات الشرعية، التي سبقت الإشارة إليها (?) ، فلا شك أن طلبة العلم الذين يفترض حضورهم للمسجد، من أجل الدروس والمحاضرات، سيحتاج أكثرهم لشيء من الكتب والمراجع الموثوقة، ويحذر من كتب المبتدعة وأهل الضلال.

ـ ويجب تشجيع أهل المسجد ورواده على زيارة المكتبة، وحثهم على القراءة؛ إذ هي الغاية من وجود المكتبة.

ـ تحديد أوقات معلومة لفتح المكتبة وإغلاقها، ووضع نظام للاستعارة، وكذلك الإعلان عن كل مادة جديدة في المكتبة من كتب وأشرطة كاسيت وأقراص حاسوبية ونحوها.

ü الوسيلة الثانية عشرة: تعيين أئمة وخطباء من أهل العلم والإصلاح:

إن كل ما ذكر من وسائل لتفعيل دور المسجد متوقف على طبيعة القائمين على بيوت الله، ويأتي في أولهم إمام المسجد وخطيبه، وكذلك مؤذنه، والأصل في هذه الوسيلة هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤمُُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله..» (?) ، ففيه بيان أهمية هذه الولاية، وأنه ليس كل أحد أحق بها، وأكثر كتب الحديث وكتب الفقه تحدثت عن الإمامة والخطابة والأذان في أبواب خاصة، حيث يتم ذكر الصفات الواجب توفرها في كل من إمام المسجد، وخطيبه ومؤذنه، بل أُفرِدَ هذا الأمر بالتصنيف في كتب مستقلة لأهمية الدور المنوط بهؤلاء القائمين على بيوت الله. يقول الشيخ خير الدين وانلي: «ولا يمكن للمسجد أن يقاوم السينما والمدارس التبشيرية واللادينية إلا إذا كان المسؤولون عنه ذوي مستوى عالٍ من الثقافة الإسلامية والنخوة الإسلامية والوعي الإسلامي، وإلا إذا حرصت وزارات الأوقاف الإسلامية على العناية بإعداد هؤلاء المسؤولين وكلما كان المسؤولون عن المسجد محتسبين لوجه الله كانت الفائدة منهم أكبر» (?) .

ولعل من الأساليب الحديثة في إعداد مسؤولي المساجد، عقد الدورات التدريبية لهم خصوصاً للأئمة منهم بهدف تعليمهم ما قد يجهلونه من أحكام تخص المسجد وتنمية معارفهم، وهذا التثقيف والتحصيل من متطلبات الولاية التي تقلدوها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ كيف نرجو قيام المسجد برسالته، وبدوره الفعال، والقائمون على المسجد من أجهل الناس، وأدناهم ثقافة ووعياً؟

ولعل من أحسن الأمثلة الدالة على الثمرة اليانعة من تطبيق هذه الوسيلة، ما ذكره الشيخ محمد لطفي الصباغ من قيامه في فترة شبابه أثناء دراسته النظامية بجامعة دمشق ـ الجامعة السورية قديماً ـ قيامه مع عدد من إخوانه الصالحين بإعادة مسجد الجامعة الذي حولته القوات الفرنسية إلى بار، ومن ثم إلى مستودع، أعادوه إلى ما كان عليه قبل دخول الفرنسيين (?) ، ثم قاموا بتشكيل لجنة تُعنى بالمسجد وأموره، فنظموا البرامج التوعوية والأنشطة العلمية، في فترة عصيبة كانت بلاد الشام تعيش بين نارين: التيارات الفكرية المنحرفة والطرق الصوفية المبتدعة، فاستضافوا أهل العلم لإلقاء الكلمات والمحاضرات بالمسجد، كالشيخ مصطفى السباعي والشيخ مصطفى الزرقا (?) ، وراسلوا العلماء للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم، ولا سيما تلك التي تتعلق بالسنن والبدع، فراسلوا الشيخ الألباني للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم. يقول الألباني في مقدمة رسالته (الأجوبة النافعة عن أسئلة مسجد الجامعة) متحدثاً عن ذلك المسجد مثنياً على لجنته.

ü الوسيلة الثالثة عشرة: تفعيل أمر الأوقاف:

من أهم مزايا الوقف في الشريعة الإسلامية أنه مستمر لا ينقطع ودائم لا يتوقف، وبهذا يتم الحفاظ على حياة الجهات التي أوقف عليها، وتاريخ الإسلام حافل منذ القدم على الوقف في وجوه البر المختلفة من مساجد ودور علم ومدارس ومستشفيات ورعاية أيتام وغيرها، حتى أصبح هناك ديوان في عصر الأيوبيين والمماليك خاص لأوقاف المساجد (?) ، وكان كثير من الصحابة والتابعين من الحكام والمحكومين يحبسون ـ يوقفون ـ ما يقدرون عليه من أموالهم في سبيل الله، وإذا كان العلماء اختلفوا في مشروعية الوقف على أمور معينة فقد اتفقوا على مشروعية الوقف على المساجد ودور العبادة (?) .

والواجب على أهل المسجد تفعيل دور الأوقاف كوسيلة لإحياء رسالة المسجد من ناحيتين:

الأولى: نشر ثقافة الوقف على المساجد، وما يتعلق بها من دروس علمية، وحلقات لتحفيظ القرآن، ومكتبات ونحوها، وتوعية الناس بها وحثهم على ذلك.

الثانية: العناية بأوقاف المساجد، والاهتمام بها، والحرص عليها من عبث العابثين؛ فإن الكثير من أوقاف المساجد لا يَرجِع رَيْعُها إلى المساجد، وإن عاد من ذلك شيء فهو نزر يسير جداً، لأن جُلّ هذه الأوقاف قد اندرست أو اغتُصبت، فإذا حرص القائمون على المسجد بالاعتناء بأوقاف المسجد، وضمان أن تعود ثمرة الوقف إلى المسجد، لا إلى جهات أخرى، فإن ذلك سوف يسهم في تأدية المسجد لدوره في الحياة.

ü الوسيلة الرابعة عشرة: اللقاءات مع أهل الحي:

إن قيام المسجد بأنشطة مختلفة: علمية ودعوية واجتماعية وثقافية وغيرها يتطلب تقييماً لمثل هذه الأنشطة بين فترة وأخرى؛ لأنها تبقى أولاً وأخيراً أعمالاً بشرية، يعتريها النقص ويكتنفها الخلل، ومن أحسن الأساليب لعمل مثل ذلك التقييم، عقد لقاء دوري يجمع أهل الحي بإمام المسجد أو من ينوب عنه، لمراجعة أحوال المسجد وشؤونه. ومن فوائد مثل هذا اللقاء ما يلي:

ـ سد أي خلل أو نقص فيما يتعلق بشؤون المسجد عموماً ولا سيما الأنشطة سالفة الذكر.

ـ الاستفادة من مقترحات أهل الحي وآرائهم.

ـ تشجيع المبادرات المتميزة بالمسجد ومكافأة من يقوم بها.

ـ الاطلاع على أنشطة وبرامج المساجد الأخرى للاستفادة منها.

والله أسأل أن ينفع بهذه الوسائل قارئها والعاملين عليها والمشاركين في قيامها ابتغاء مرضاة الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015