مجله البيان (صفحة 5819)

الشجاعة

محمد بن عبد الله السحيم

إن مما اتفق على استحسانه وامتداح صاحبه خلقي الشجاعة والكرم، وعليهما كان يدور عامة فخر الشعراء ومدحهم، والعكس بضده، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقاً (?) ، وقد جاء الشرع بتأييد هذا، وتوجيهه وتهذيبه، قولاً في الوحيين، وتطبيقاً من سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ومنهجاً في سيرة سلف الأمة وهداتها؛ فبهما فضَّل الله السابقين فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (?) .

يقول ابن كثير: «وقد كان للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم بِبركة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطاعتهم فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم، والفرس، والصقالبة، والبربر، والحبش، وأصناف السودان، والقبط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين عاماً» (?) .

وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن شرّ خلال المرء الجبن والبخل؛ فقال: «شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع» (?) ، واستعاذ من ذلك فيما يكرره من دعائه الذي يقول فيه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل» (?) ، وأخبر عن نفسه حين خُطِفَ رواؤه بعد قفلته من حنين، فقال: «أعطوني روائي! لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً» (?) ، ووصفه ملازمه وخادمه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فقال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرسه، وقال: وجدناه بحراً» (?) ، بل إن هاتين الصفتين ـ الكرم والشجاعة ـ هما الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله؛ يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته ـ سبحانه ـ» (?) . وعليها تأسيس الفضائل، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل» ، ثم قال: «والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وَتحْملُه على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» . وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على خصمه» (?) .

يقول الطرطوشي: «واعلم أن كل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تحقق إلا بالشجاعة» (?) ، وقال الأبشيهي: «اعلم أن الشجاعة عماد الفضائل، ومن فقدها لم تكمل فيه فضيلة يعبر عنها بالصبر وقوة النفس. قال الحكماء: وأصل الخير كله في ثبات القلب» (?) .

ونظراً لاتساع نطاق هذه الأخلاق، وتغلغلها في عروق ممارسات الناس الجالبة للخير والدارئة للشر قولاً وفعلاً؛ يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم؛ بيّن ـ سبحانه ـ أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38] (?) .

ولا شك أن صلاح الدين والدنيا أساس السعادة، وللشجاع وقرينه الكريم من ذلك النصيب الوافر إن حققاهما على مراد الشرع؛ يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدراً، وأحصرهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له إلا من جنس ما للحيوان البهيمي، وأما سعد الروح ولذتها، ونعيمها وابتهاجها، فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل» (?) .

والحاجة إليهما في وقت الفتن والشدائد أشد وأشد؛ يقول شيخ الإسلام: «فهذه الأخلاق (الشجاعة والسماحة) والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموماً، وخصوصاً في أوقات المحن والفتن الشديدة؛ فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم، ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم، ويحتاجون أيضاً إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيراً على من يسره الله عليه، وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح» (?) . وتزداد حاجة الفرد إليها أكثر حينما يكون كبير قوم، فمن الفوائد التي ذكرها الحافظ في شرح حديث (3148) : «وفيه ذم الخصال المذكورة، وهي: البخل والكذب والجبن، وأنَّ إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها» (?) .

تلكم المقدمة على طولها وميض مختصر في بيان منزلة الشجاعة وقرينها الكرم، وفيما سيأتي سيحصر الكلام على مسائل الشجاعة، وهي كالتالي:

أولاً: ما هي الشجاعة؟

جاء في اللسان: «الشجاعة: شدة القلب في البأس» (?) ، وبتفصيل أكثر يقال: الشجاعة: «الإقدام بصبر وثبات على الأمور النافع تحصيلها أو دفعها» (?) .

وهذا التعريف شامل لعناصر الشجاعة، وأصلها، ومجالاتها.

ثانياً: عناصر الشجاعة:

ثمت خلط لدى الكثير في تحديد عناصر الشجاعة المكونة لها، مما أدى إلى تداخل مفهوم الشجاعة بغيره من الجرأة والتهور وشجاعة اليأس؛ فما هي عناصر الشجاعة؟

بالنظر إلى التعريف السابق، يلوح أن للشجاعة خمس دعائم تقوم عليها، إن اختل منها واحد لم يصدق مسمى الشجاعة على ذلك الفعل أو القول، وهي:

1 ـ العلم بنفع الفعل أو القول (قنوات الشجاعة) :

يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «والمحمود منها [أي من الشجاعة] ما كان بعلم ومعرفة؛ دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد» (?) .

والعلم إما أن يكون بيقين أو غلبة الظن، والنفع إما أن يكون نفعاً بلا مضرة مطلقاً، أو بوجودها وتغليب المصلحة الراجحة عليها، أو بدفعها تغليباً على المصلحة المرجوحة؛ تطبيقاً للقاعدة المقررة شرعاً: «يختار أهون الشرين لدفع أقواهما» .

«فالشجاعة المحمودة تتوسط خلقين مذمومين، وهما الجبن والتهور» (?) . وهكذا ينبغي تناول العلم بشقيه الشرعي والواقعي (?) ؛ بأن تكون القناة غير مخالفة للشرع، ممكنة التطبيق والتعلم، بعد الاستخارة والاستشارة.

2 ـ الإقدام:

بأن يُقدِمَ على الشجاعة مختاراً بعد علمه، فأما المغلوب على أمره فليس بِشجاع كما تقدم، والإقدام إما أن يكون تحركاً لتحصيل النفع ومبادرة إليه، وإما أن يكون مُلازَمَةً له وثابتاً عليه، كثبوت الإمام أحمد على القول بعدم خلق القرآن في تلك الفتنة الشعواء.

3 ـ وجود المخاطر والمخاوف والمكاره:

وهذا ما يستدعي الصبر والثبات؛ فالإقدام في غير مخاطرة لا يعتبر من الشجاعة، بل هو نشاط وهمة (?) .

فالشجاعة في القتال يكتنفها القتل والأسر والجرح، والشجاعة في طلب العلم يعتريها التعب وغلظة المعلم وقلة ذات اليد، والشجاعة في التجارة يعتريها الخسارة والسلب والغش، وهكذا تتعدد المخاوف وتتفاوت وتتباين في كل مجال توجد فيه.

4 ـ الصبر:

يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «وقد تقدم أن جمع ذلك [أي الشجاعة] الصبر. والصبر صبران؛ صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة، كما قال الحسن: «ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة» ، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم. وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم» (?) .

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لبعض بني عبس: «كم كنتم في يوم كذا؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتواكل ونفشل، ولم نقل فنُذل. قال: فبِمَ كنتم تظهرون على أعدائكم ولستم بأكثر منهم؟ فقال: كنا نصبر بعد الناس هنيهة» (?) .

فيقول الشاعر (?) :

ويومٍ كأن المصطلين بحرِّه

وإن لم يكن نار قيام على الجمرِ

صبرنا له حتى تقضّى، وإنما

تُفرّجُ أيام الكريهة بالصبرِ

وقيل: الشجاعة صبر ساعة.

«وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمله، وانتظار الفرج» (?) . فمن رام خير عيش فليلزم الصبر، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «وجدنا خير عيشنا بالصبر» (?) .

5 ـ الثبات:

وذلك أن الأمر مكتنف بالمخاوف والمكاره، فربما صبر المرء في أوله وخار بعده، فلابد من ثبات لتحصيل المراد، ولا سيما أنه أقدم عليه بعد كدحِ نفعه، وخوض لججه، وينبغي ألاّ تشغله المكاره عن تلمس طرق الفرج؛ إذ ذاك من الصبر والثبات عليه، قال هشام لمسلمة: «يا أبا سعيد، هل دخلك ذعرٌ قط لحرب أو عدد؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبّه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي، قال هشام: هذه البسالة» (?) .

تلكم هي الدعائم الخمس التي يقوم عليها قصر الشجاعة العتيد، فإن نقص أحدها أو سقط، فلا قيام لذلك البناء.

ثالثاً: أصلها:

الشجاعة خلق محله القلب، ويظهر أثره في الأفعال والأقوال والتروك، يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته» (?) .

رابعاً: أنواعها:

الشجاعة كسائر الأخلاق منها الفطري والمكتسب، يقول عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومرؤته خلقه. والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء؛ فالجبان يفر عن أبيه وأمه، والجريء يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف. والشهيد من احتسب نفسه على الله» (?) .

كما إن النوع الفطري والمكتسب متفاوت بين أهله. ومما يدل على إمكانية اكتساب هذا الخلق قوله -صلى الله عليه وسلم- لأشج بن عبد القيس حين سأله، بعد أن أخبره بمحبته ـ سبحانه ـ للأناة والحلم اللتين فيه، فقال: «خلقين تخلّقتُ بهما، أو جبلني الله عليهما؟» ، فقال: «بل جبلت عليهما» (?) . يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف» (?) . والعرب تقول: «تشجع الرجل: إذا أظهر ذلك من نفسه وتكلف، وليس به» ، وتقول: «شجّعه: إذا جعله شجاعاً وقوّى قلبه» (?) .

خامساً: مغذياتها ووسائل اكتسابها:

تقدم أن الشجاعة خلق فطري ومكتسب، وله وسائل تغذيه وتقويه وتوجده، فمن تلك الوسائل والمغذيات:

1 ـ الإيمان بأركانه الستة: (بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خير وشره) .

يقول ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ، ويقول ـ تعالى ـ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] . فالله «يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله. وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء» (?) .

والحديث عن أثر الإيمان في تقوية القلب وتثبيته يطول، ولنأخذ أثراً واحداً موجزاً لركن واحد من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقضاء والقدر؛ فالإيمان به يورث القلب طمأنينة تامة تجاه أشد المخاوف وأعتاها؛ إذ قد تقرر في عقيدته الراسخة ألا تكون مصيبة إلا بقضاء الله وعلمه ومشيئته وخلقه، فالأمر أمره، فإن أصابه ما يكره بعد تمثله المنهج الشرعي؛ رضي به، وسعى في دفعه دون جزع أو تسخط؛ فأنى لهذا أن يخذل أو يستكين؟ ولا سيما أنَّ الله قد حف عبده المؤمن برعايته ووعده بالدفاع عنه، بسكينة يتنزلها على قلبه، أو جند من جنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] .

2 ـ التوكل على الله:

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، فالتوكل بشقيه المكونين له؛ الثقة بالله وحسن الظن، مع مباشرة الأسباب المشروعة، عاملٌ أساسي في إمداد القلب بالشجاعة، فـ «متى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا مَلَكتْه الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه.

فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الحذر والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة؛ فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسراً، وترحه فرحاً، وخوفه أمناً» (?) .

كتب أنوشروان إلى مرازبته: «عليكم بأهل الشجاعة والسخاء، فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى» (?) .

3 ـ الإكثار من ذكر الله:

إذ إنه الاتصال بالقوة التي لا تُغلب، والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، وله أكبر الأثر في الثبات الذي هو بدء الطريق إلى النصر (?) ، يقول ـ تعالى ـ معلماً عباده المؤمنين آداب اللقاء، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء (?) ، في مواطن من مواطنها، وما عداها مقيس عليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] . «فأمر ـ تعالى ـ بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم؛ فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه؛ بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم تلك» (?) .

«فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:

الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرفاه والبغي» (?) .

ولهذا الذكر صور شتى من الاستغفار، والدعاء، وتلاوة القرآن، واستحضار عظمة الله ... ، ونصوص الوحيين كثيرة في ذلك، كقصة طالوت وجنده، وموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في: بدر، وأحد، والخندق، واستعاذته من الجبن والخوف، وإرشاده إلى دعاء الكرب والخوف ... إلخ (?) .

4 ـ اليقين بسلامة المبادئ، ووضوحها، ومقاصدها:

وهذا من العوامل الرئيسة للثبات والصبر، يقول شيخ الإسلام: «ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئنُّ به، ويتنعم به ويغتذي به، وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيراً من العافية؛ فسلوهما الله» (?) . وهل الشجاعة إلا صبر؟ (?) .

والمتأمل في حال أغلب الناكصين لَيَجدُ أن قناعاتهم ومبادئَهم لم تكن متقررة بأسس سليمة مبنية على ما تحقق علمه وتيقن مصدره، أو كانت ولكن لم تتقاصد. ومن أبرز الأمثلة الدالة على هذا السبب، قصة غلام الأخدود؛ الذي ثبت على حداثة سنه ومخالفة بيئته، وضحّى بروحه في نصرة مبدئه. وخير ما تؤسس به القناعات والمبادئ نصوص الوحييْن وإجماع الأمة والعقلاء، وهل كان من مقاصد التذكير إلا ذلك؟

5 ـ الإقناع:

فللإقناع تأثير فعال في غرس الأخلاق أو تهذيبها في الأنفس، فمن عرف فضيلة الشجاعة وفوائدها ـ وهو ماذكر في التمهيد ـ ورذيلة الجبن ومضاره، وأقنع نفسه بأن معظم مثيرات الجبن لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها؛ تكونت لديه عناصر مهمة مساعدة على اكتساب خلق الشجاعة، وكذلك سائر الأخلاق (?) .

6 ـ البيئة المناسبة، والتدريب (?) :

إذ المرء ابن بيئته؛ فتجد أهل البادية يتمتعون بشجاعة اجتياز المفاوز ومقارعة خطوبها، وأهل الجبال يتمتعون بشجاعة ارتقاء شواهقها واختراق عقباتها، وأهل السواحل يتمتعون بشجاعة ركوب البحار وخوض غمارها. وبإمكان الإنسان خلق بيئة مناسبة له تمده وتعينه على ذلك الخلق، إما بالمعايشة الحياتية، أو بقراءة سير الشجعان في شتى مجالاتها، والبحث عن أخبارهم، وهكذا بالتدريب العملي؛ «فإن الشجاعة، وإن كان أصلها في القلب؛ فإنها تحتاج إلى تدريب النفس على الإقدام وعلى التكلم بما في النفس، بإلقاء المقالات والخطب في المحافل، فمن مرّن نفسه على ذلك، لم يزل به الأمر حتى يكون مَلَكَةً له، كذلك يدرب نفسه على مقارعة الأعداء ولقائهم والجسارة في ميادين القتال، فيقوى بذلك قلبه ونفسه، فلا يزال به الأمر حتى لا يبالي بلقاء الأعداء ولا تزعجه المخاوف» (?) .

وهكذا يدرب نفسه على عدم الركون إلى الدنيا، والقعود على شظف العيش، إذ التعلق بها من أبرز أسباب الجبن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة منها: «الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» (?) ، ومن التدريب أيضاً أن يتعود على رباطة الجأش، وأخذ التنفس العميق، إلى غير ذلك مما هو معروف ومثبت بالتجارب، ولا نغفل أهمية الالحتاق بالدورات المهارية في ذلك، والعناية بتنشئة الصغير في هذا الميدان كي يشب عليه، ولا بد في ذلك من مراعاة سنن التدرج، وإعمال قاعدة المصالح والمفاسد، وخلق جو التنافس كما كان ذلك هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ كي تؤتي الشجرة ثمرها.

والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015