ربيع الحافظ (*)
حقوق تقتضي الذود عنها، ومفاهيم ينبغي الوقوف عندها، ومحظورات لا ينبغي تجاوزها، ولكن يبقى لكل محظور ضرورات تبيحه.
لنتوقف أمام مكونات الصورة التالية القائمة في العراق، ثم نستأنف الموضوع:
احتلال أجنبي/ تحالف بين الاحتلال والطوابير الطائفية المحلية/ حكومة تتشكل من ميليشيات الطوابير/ تهميش الكتلة السياسية الكبرى وهم العرب السنة (42% حسب الانتخابات) / حرب أهلية غير متكافئة/ محاصرة الدولة للمدن السنية/ فِرَق موت بإشراف وزارة الداخلية/ تطهير عرقي وطائفي تحت عيون الدولة/ انتخابات مزورة/ دستور يقنن تقسيم البلاد/ رفض العَلَم العراقي/ فدرالية إقليمية تتجاوز العاصمة/ اتفاقيات لصالح الشركات «المفضلة» / تصفية علماء السُّنَّة ونخبهم وعسكرييهم/ مصادرة المساجد وقتل الأئمة والمصلين/ خطف النساء/ حملات إعلامية وثقافية واقتصادية بتمويل إيراني/ انتشار المخابرات الإيرانية في المدن/ هيمنة إيرانية على الحوزة الشيعية العربية/ شيوع اللغة والعملة الفارسية في المدن الجنوبية/ زخم شعوبي لشيعة عراقيين من أصول هندية وفارسية/ دور إيراني مستقبلي في العراق/ إغلاق المناطق الكردية في وجه العرب/ إيقاف تدريس اللغة العربية في المناطق الكردية ... والقائمة تطول.
السؤال: كم أبقت هذه الصورة من معاني الوطن والمواطنة؟ وماذا بمقدور السياسي فعله في مناخ كهذا المناخ؟
صادفت أحد الأصدقاء، وهو كاتب ومحلل سياسي، فسألته عن سبب احتجابه عن الكتابة، فرد بالقول: هذا زمان عندما ينطق فيه القلم تردُّ الرصاصةُ، ومقارعة الحجة بالحجة فيه وسيلة لا توصل إلى غاية. ذكَّرني قوله بحديث آخر، وهو أن الشعوب عندما تُهَدَّد في وجودها، فإنها تبحث لا عمن يثبت مظلوميتها أمام محافل حقوق الإنسان، وإنما عمن يحقق لها الأمان على الأرض، ويتراجع في هذه الحقب الأداء الفكري لصالح «الأداء العضلي» . هذه حقيقة، وهي تفسر جانباً من أسباب بقاء الشعوب العربية حقباً طويلة تحت حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيون التي توصف بأنها حقب عسكرية.
لم تكن «الحقب العسكرية» في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية حقب عطاء ثقافي، لكنها حفظت الأنفس وصانت الدين أمام أعاصير ثقافية ومذهبية وشعوبية عصفت بشعوب الحضارة. وتكررت خلال هذه الحقب مشاهد الانتشال السياسي للعرب على أيدي الشعوب غير العربية في منظومة الحضارة العربية الإسلامية، بل إن امتدادها هو الأطول في السلم الزمني للحضارة، وكان آخر فصولها رفض الأتراك العثمانيين بيع فلسطين، لتضيع في حقبة المسار القومي العربي الوريث.
وبلغة العصر: يمكننا أن نقول: هامش الخيارات أمام العرب السنَّة كان ضيقاً، وانحصر الاختيار بين البقاء على قيد الحياة السياسية، ولكن في مقعد خلفي، أو الاختفاء من الخريطة، فاختاروا الحياة.
عنصر آخر يضاف إلى مكونات الصورة السابقة، وهو أن سُنَّة العراق المحاصرين في الداخل، لا يجدون عند «دول الطوق» العربية رغبة في إلقاء أطواق النجاة إليهم، أو مصلحة في إعادة خلط الأوراق لمصالحهم.
يبدو أن البر التركي هو الأقرب والمنظور من على متن سفينة أهل السنة المتعبة، ويذكر العالم أن هذا البر، وفي ذروة الإعداد لحرب أمريكا على العراق، وتقسيم بوش لأمم الأرض إلى فسطاطين: «معنا أو ضدنا» ، وتسابق الأمم إلى فسطاط «معنا» كان قد منع نزول الجيش الأمريكي على رماله، ورفض أن يكون معبراً إلى غزو العراق، مثلما كانت مياه إيران وسماؤها التي تحولت إلى معبر للقلاع الطائرة (ب 52) الأمريكية القادمة من قواعد المحيط الهندي والذاهبة لإنزال الدمار فوق العراق.
دنو السفينة المتعبة من هذه الشواطئ والرسو في مياهها يبدو أسهل مما هو عليه واقع الحال.
لندع البحر ونعود إلى اليابسة، هناك نجد أن حقبة الدولة العربية المعاصرة التي انهارت في 9 نيسان 2003 كانت فاصلاً زمنياً طويلاً بين حقبتين من سجال مذهبي ذي امتدادات سياسية دولية على أرض العراق، كان قطباه الدولة العثمانية وإيران الصفوية، وكان قيام الدولة المعاصرة نهاية للحقبة الأولى وبداية لهدنة غير معلنة، وجاء سقوطها في 9 نيسان 2003 استئنافاً للسجال.
ما ميز فترة الهدنة غير المعلنة هو غياب الحضور العثماني عن العراق بجميع أشكاله، وخروج العراق والعرب ـ الذين شاركوا العثمانيين نظامهم السياسي أربعة قرون من جدول أعمال الدولة التركية الوريثة، وتبني هذه الدولة للقومية الطورانية، وتخليها عن أدوار الدولة الإقليمية الكبرى، واكتفائها بشؤون الأقليات التركمانية.
على الجانب الآخر من الحدود، أوجدت أدبيات الدولة القومية جُدر فصل ثقافي شاهقة على امتداد الحدود، اعتبرت الحقبة العثمانية حقبة احتلال أجنبي، لينشأ طور من الصراع الأيديولوجي بين شركاء الأمس.
في المقابل، لم يكن على امتداد حدود العراق مع إيران موانع ثقافية بين الفرس والشيعة العرب، ولم تمر الشراكة الشيعية (الفارسية ـ العربية) التاريخية في فترة انقطاع خلال حقبة الدولة الحديثة، التي واصل الشريك الفارسي حضوره في العراق فيها بأشكاله الكاملة: البشرية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وظلت إيران على الدوام الرقم الحاضر الغائب في المعادلة الداخلية العراقية، والعمق الاستراتيجي والروحي المهيمن على الحوزة، حتى لحظة سقوط بغداد، وهو حضور طوّر الخلاف المحلي السني الشيعي، واختزل فرص الوفاق.
مما أعان على الحضور الإيراني هو حذر الأنظمة السياسية الإيرانية المتعاقبة الدائم من الزعامات العراقية العربية، السنية بشكل خاص، باعتبارهم عصب الجيش والمصدر التقليدي للانقلابات العسكرية، فكان التغاضي ـ بل تفضيل ـ العنصر الفارسي في الحوزة الشيعية العربية ومرافق أخرى في الدولة، ولم يخرج صدام نفسه عن هذه الحسابات بالكلية، حتى أثناء الحرب مع إيران، وكان أول اصطدام لحكومة البعثيين مع المؤسسة الدينية في مطلع السبعينيات ضد أهل السنة وليس الشيعة كما هو شائع وهماً.
يمكن القول: إن 9 نيسان 2003 كان عودة للسجال، لكنها عودة أحادية القطب هذه المرة، وفي مناخات مختلفة من التركة الثقافية للدولة المدنية (بالنسبة لأهل السنة) ، حيث لا ميليشيات للدفاع عن الذات، ولا مصادر تمويل ذاتية، ولا ثقافة سوى ثقافة المدرسة، ولا مؤسسات خدمية بموازاة مؤسسات الدولة، لذا كان أهل السنة هدفاً رخواً وصيداً سهلاً لإيران والميليشيات العاملة تحت إمرتها التي تتمتع بنظام مؤسساتي شامل وعالي الإعداد بموازاة مؤسسات الدولة، وكان 9 نيسان بحق محطة تاريخية هامة في التقويم الصفوي، ختمت بها إيران فصلاً مهماً من سجالها الطويل مع محيط الأغلبية من حولها.
أحاديث الماضي العثماني هذه كانت، وحتى عقدين ماضيين، غزْلاً على نول الماضي العربي في فردوس الأندلس الضائع، وشأناً من أدبيات المدرسة الإسلامية، التي يفترض أن عصر الدولة القومية تجاوزها. لكن التدهور الذي يعيشه النظام السياسي العربي، والتسيب السياسي الإقليمي، وانفراد العولمة الأمريكية بدُوله، الواحدة تلو الأخرى، استفز القناعات الفكرية في الطيف السياسي العربي، ودفع هذا المفهوم باتجاه مساحات جديدة من الطيف، لم تُستثنَ منها النخب القومية التي كانت حتى الأمس القريب تفك «الوثاق التركي» عن المعصم العربي.
ليس من المبالغة القول: إن حالة من البحث عن انتماء إقليمي يعيد للمنطقة تماسكها تجتاح الطيف السياسي العربي، في مواجهة واقع التردي الإقليمي، وحجم التدمير الذي يمكن أن تلحقه قوة خارجية بالمنطقة بأسرها، كما وقع في العراق.
يقول محمد حسنين هيكل في هذا السياق: «باتت تركيا ودولة الصهاينة الدولتين الوحيدتين المؤهلتين سياسياً لتزعم المنطقة، إذا تأخر أحدهما ظفر الآخر. وبالرفض الطبيعي للمرشح الصهيوني تبقى تركيا المؤهلة لزعامة المنطقة واستئناف أدوار تاريخية في حفظ التوازن السياسي الإقليمي» .
سيكون من السذاجة بمكان توقع استدارة تركية مفاجئة بمقدار 180 درجة باتجاه جوارها الجنوبي. في المقابل، فإن الـ «لا» الأوروبية الأخيرة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، هي في تقدير الكثيرين مجرد مسألة وقت، ولن تكون الـ «لا» المنتظرة هي اللحظة التي ستشرع فيها تركيا في البحث عن بدائل جديدة، وإنما لحظة اعتماد البدائل الجاهزة التي لا بد أنها منكبة عليها منذ الآن وتهيئ لها الأوراق.
في الوقت نفسه، فإنه ليس من قبيل السباحة في الخيال توقّع أن تضع موازنات السياسة الدولية بين يدي تركيا ونسختها من «الإسلام السياسي المعتدل» ، ومذهبها السني، أوراقاً مهمة في العالم العربي الإسلامي ذي الغالبية السنية الساحقة، والذي يشكل الفراغ السياسي فيه مصدر صداعات أمنية وسياسية متصاعدة للعالم الغربي.
المتابع للمشهد يلحظ مؤشرات متتالية، وتوطئة لأدوار تركية محتملة قادمة، لعل أحدثها استباق أنقرة الآخرين، وإعلانها المبكر عن رغبة في إرسال جيشها إلى الجنوب اللبناني، الذي هو منطقة نفوذ المحور الإيراني ـ السوري، وإعلانها مؤخراً عن أن تقسيم العراق ليس شأناً محلياً، ووساطتها في الشأن الفلسطيني، بل وتشاور الفلسطينيين معها في أكثر من مرة.
الحديث عن عودة دور إقليمي تركي في المنطقة العربية يقبل به العرب ـ ناهيك عن استدعائهم له ـ كان وحتى 9 نيسان 2003 أقرب إلى استغراقات البحوث الأكاديمية منه إلى الواقع.
لكن مستجدات كبيرة أخرجت هذه الأحاديث من الأروقة الأكاديمية إلى الورشات العملية، منها:
1 ـ إقليمية: الهزة الإقليمية العنيفة التي أحدثها احتلال العراق، في منطقة هشاشة سياسية، في وقت تنهمك فيه الشعوب الأخرى في عملية إعادة اصطفاف وبناء تكتلات إقليمية بإمكانها قول «لا» (كما في أمريكا اللاتينية) ، هذه الهزة وجهت لكمة قاسية للأداء الأمني المحلي والإقليمي للدولة القُطرية، وقدرتها على الصمود منفردة في وجه مشروع إقليمي عبثي بحجم مشروع الشرق الأوسط الجديد.
2 ـ محلية: نشوء محاور قوى بين أقليات المنطقة ودول خارجية على حساب مصالح الأغلبية السياسية التاريخية فيها، كتحالف القطاعات الشيعية الرئيسية في العراق مع إيران وأمريكا، واستقوائها على شركاء الوطن من السنَّة، الذي عُدّ انسحاباً من العقد الوطني بأوضح أشكاله، وإعذاراً للطرف المعتدى عليه للانصراف نحو استراتيجيته، والبحث عن عمقه التاريخي الطبيعي وروابطه الثقافية، وهي أدوار كان السنة قد رضوا بحذفها من العقول والمناهج عند تأسيس الدولة الحديثة، لصالح صورة من التوفيق (أو الترقيع) الثقافي مع الأقليات الذي سمي (الثقافة الوطنية) وأحرقوا بذلك جسور العودة إلى عمقهم الإقليمي الطبيعي، مما أوقعهم في تناقضات فكرية لصالح مشروع ثبت لهم اليوم أنه كان قصير النظر.
(يمكن إدراج نظام الأقلية النصيرية في سورية في سياق الدور التقويضي المحلي والإقليمي، الذي فتح أبواب سورية العربية السنية على مصراعيها أمام غزو فارسي استيطاني، وحملات تشييع طائفية منظمة، في بلد لا يتجاوز الشيعة فيه نسبة 1%، وتساهل أمام نشر اللغة الفارسية، ورهن اقتصاد البلاد وأمنها وسياستها للدولة الإيرانية، وفعَل الشيء ذاته في لبنان إبان احتلاله له. ويندرج تحته التحركات الطائفية في مصر المدعومة من إيران، التي أعلن علماء ومثقفو مصر عن تذمرهم منها وتجاوزها لحدود الاختلافات المذهبية) .
نزول القطاعات الشيعية العراقية الرئيسية في «المستنقع الصفوي» ، (مصطلح المفكر الإيراني علي شريعتي للتعبير عن سياسة تأليب القوى الأجنبية على الجوار عند الصفويين) ، مَثَّل تدويلاً للجانب السياسي من الخلاف بين الشيعة والسنة، الذي هو أقرب إلى حالة التظلم المحلي، التي لن تستعصي على الحل في مناخ متبادل من الجدية والصدق.
مما أصبح مسلَّماً به لدى الطيف السياسي العربي من أقصاه إلى أقصاه، أمام المعطيات الآنفة الذكر، وتسارع إيقاع الأحداث، أن الجسد السياسي العربي الكسيح بحاجة إلى عمود فقري سليم يمكّنه من النهوض، وإلى عوامل ثقة تمنح صاحبه الشجاعة وتدفعه لإجراء العملية، مثلما كانت ألمانيا العمود الفقري لمنطقة وسط وغرب أوروبا (الاتحاد الأوروبي حالياً) ، وكان اقتصادها المتين هو المفهوم الإقليمي الذي أحدث أولى الثغرات في الجُدُر القومية العازلة بين شعوب أوروبا، لتتوالى الثغرات وتتسارع وتتعدد أشكالها.
ليس في المنطقة اليوم ـ كما مر ـ سوى مرشحين اثنين لزعامتها، إذا تأخر أحدهما ظفر الآخر، ولا زال العرب أمام تركة تسعة عقود من الجدر العازلة مع المرشح الطبيعي، وأمام بناء المفاهيم التي ستفتح الثغور الأولى في الجدر العازلة.
كان أروع ما أقدم عليه عقلاء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التصميم على إيجاد تكتل سياسي بين شعوب القارة المنهكة، وإخفاء النُّدَب الثقافية والمذهبية التي تعلو وجه القارة، وتوفير أسباب الحياة للتكتل المنشود، فالتفوا على التاريخ الدامي بالاقتصاد الواعد.
ليس من المصادفات أن ينجح تكتل سياسي على فسيفساء كأوروبا، وبين شعوب لم تعرف حقبة سلام متواصل بينها أكثر من ستين عاماً. لقد أعاد الأوروبيون تعريف مفاهيمهم، وبالغوا في ذلك، واعتبروا ضرورات المصلحة العامة مسوغاً لتجاوز المحظورات، وإن اصطدمت بثوابت الديمقراطية والسيادة، وهو ما فعله الاتحاد الأوروبي عندما حاصر النمسا، بعد فوز حزبها اليميني في الانتخابات، بزعامة رئيسه ذي الذيول النازية، وإرغامه على التنحي والتواري السياسي، وحدث ما أراده الاتحاد؛ إذ لا حرية مطلقة أو شعارات شاذة للدولة أو الشعب ضمن الكتلة الإقليمية، مثلما أنه لا حرية مطلقة للفرد ضمن الوطن.
ü التحالف المشبوه مع المحتلين:
يجدر في هذا السياق التذكير بأن الأحزاب الشيعية المتحالفة مع المحتل الأمريكي، كانت قد أعادت لنفسها ولجماهيرها تعريف مفاهيم الاستقلال والسيادة والمقاومة، من منظور يستقيم مع اعتباراتها التاريخية والمذهبية وحساباتها المستقبلية.
شعوبنا، وفي أجواء الهشاشة الإقليمية القائمة، بحاجة حقيقية إلى إعادة تعريف مفاهيم السيادة والاستقلال فيما بينها، على أسس من التاريخ والدين والحضارة المشتركة يحقق لها اصطفافاً جديداً، تفتح الطريق أمام عوامل تعاضد مقيدة الآن، وتمنح شعوب المنطقة شخصية جديدة ذات مدلولات واضحة.
إن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليست مهمة مستحيلة على الدوام، فقد حُمِلت شعوبنا عليها (أي إعادة صياغة الشخصية) قبل مئة عام فقط، وفي الاتجاه المعاكس لـ 14 قرناً كاملاً من النسق التاريخي والسياسي. لم تكن مهمة منظري القومية العربية المشرفين على المشروع يومئذ نزهة فكرية، لكنهم وصلوا إلى نتائج مهمة نعاينها ونعاني منها اليوم.
فزع شعوب المنطقة من المتغيرات السياسية الجارية والقادمة هو قاسمها المشترك اليوم، وهو سر تماسك الأمم، الذي إذا لم يكن موجوداً أوجدته، وما القرن الواحد والعشرين الأمريكي، والحرب على الإرهاب، وترحيب الشعوب بإهدار أموالها لصالح الحروب، إلا ظواهر لمؤسسات قائمة على قاعدة الفزع، وإن كان زائفاً.
المساس بعقارب الساعة هو أكثر واقعية اليوم من أي وقت مضى، يؤيده في ذلك استعداد النفوس ـ أو شوقها ـ لمعرفة الاتجاه الذي كانت عليه العقارب قبل حقبة التيه هذه، وتدفع باتجاه ذلك مجريات الأحداث.
في هذا السياق لا زال أهل السنة ورغم إدراكهم الجيد لأبعاد الاحتلال، يُخضِعون مواقفهم إلى مفاهيم تجاوزتها الأحداث وأسقطها الآخرون، ويقطعون الطريق دون عمد أمام مجريات سُنَّة التدافع بين الأمم، التي تعيد التوازنات السياسية وتخدم الحاجة الراهنة، ولولاها لهُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً.
من الراجح اليوم، وبعد ما يزيد عن ثلاثة أعوام من حمامات الدم الصفوية المتوقعة سلفاً، أن رفض المقاومة لدخول مبكر للجيش التركي، واعتباره احتلالاً أجنبياً يجب محاربته أسوة بالقوات الغازية قد سجل تراجعاً اليوم، إن لم يكن عند النخب؛ فعند الناس العاديين، الذين يأخذون بالاعتبار الأدوار المفصلية التي كان يمكن أن يقوم بها الجيش التركي في حماية المدن والأحياء والحرمات السنية المستباحة من الميليشيات الشيعية والإيرانية، وفي تأثيره على الموازنات السياسية التي تتصرف بها المخابرات الإيرانية، وتعطيله للمشاريع الانفصالية.
رغم الانسحابين الواضحين الشيعي والكردي من العقد الوطني، وامتداداتهما الخارجية، لا زال أهل السنة يتحركون بأوراق محلية فقط، وتثنيهم مفاهيم يكفر بها «شركاء الوطن» صباح مساء عن قرارات مصيرية.
مفاهيم أهل السنة في المقاومة والاستقلال والسيادة والهوية، أمور لا تلبيها الأوراق التي بين أيديهم. الخطورة هي أنّ تعذُّر التلبية يعني شيئاً واحداً: تعاظم فرص المشروع الصفوي في العراق، وإنجاز أجندته على وجهه الأكمل من دون ثلمة. (وبالمفهوم نفسه، فإن مطالب شعوب المنطقة، لا تلبيها الأوراق المتاحة لدولها كل على انفراد) .
مرة أخرى: هامش الخيارات أمام أهل السنة العرب ضيق، ومستقبلهم السياسي ينتظر قرار الحسم.
ومن غير المفترض أن تستفز الاستراتيجية الإقليمية للأغلبية السياسية في المنطقة الأقلية «المنتصرة» في هذه الجولة؛ فقد كان لهذه الأقلية السبق في تفعيل «ضروراتها» التاريخية والمذهبية الخاصة بها، التي أباحت انتهاك محظورات الدين والحضارة والوطن والعروبة، لتلتقي مع ضرورات إمبراطورية مارقة اسمها أمريكا، انتهكت المحظورات الدولية وغزت دولة مستقلة، لينشأ «العراق الجديد» ومن بعده الشرق الأوسط الجديد.
نظرة سريعة إلى محطات الحضارة العربية الإسلامية، تظهر أن اقتحام دولة بحجم وثقافة أمريكا قلبَ العالم الإسلامي ومعقل حضارته، يشكل محطة كبرى تبعد عن أقرب مثيلاتها قروناً من الزمن، وأن المناخ السياسي والثقافي الراهن يفصله عن مناخات الانقلاب السياسي في تاريخ الحضارة جهد غير يسير، ومع ذلك فهذه هي خصائص النهضة في هذه الحضارة، التي لا تأتي إلا مسبوقة بتعافٍ ثقافي وسياسي.
ونظرة سريعة إلى سنن الأمم والشعوب، تظهر أنه ما من كتلة من غير مركز ثقل، ولا حضارة من دون طيف ذي مقومات أكبر وصلاحيات أوسع، ولا معتقد إلا وفيه مدرسة هي الأقرب إلى فطرة الإنسان أو أواسط الأمور، وجميعهم يؤدي دور القاطرة، ويشكل موضع الزخم؛ فالأمم كالأفراد في سلوكها، تبحث عن القوي وتلتف حول من يمنحها الاطمئنان.
الحضارات لا تقودها الأقليات، وإنما تتسع للأقليات وخصوصياتها، وحقها على الأقليات أن تحترم مفاهيمها فتكون جزءاً من كيانها، وهي أقلية فكر ومذهب، لا أقلية عدد وعرق، وإذا كانت اتفاقية سايكس ـ بيكو قد جزأت رقعة الحضارة، وجعلت من الأقليات أكثريات عددية هنا وهناك، فإن المفاهيم لا تتجزأ كلما تجزأت الجغرافيا وتبدلت الحدود.
ليست الأغلبية التاريخية في وارد إعادة تعريف مفهوم الأقلية والأكثرية، على أسس سايكس ـ بيكو، أو الشرق الأوسط الجديد، وإنما هي في وارد إحياء وتصويب المفاهيم، وإعادة الأمور إلى نصابها، بعدما طفح الكيل، وحل الصغار محل الكبار.
صحيح أن الناس استفاقوا على ثغرات فكرية ومذهبية سهلة، ولج منها المحتل وشركاؤه المحليون، لكن الثغرات لا تزال مكشوفة من الناحية الميدانية، ولا تزال سالكة أمام الاحتلال ولا سيما في طوره المدني المسمى (حكومة وطنية) .
إن التسليم بحتمية إعادة الاصطفاف السياسي والإصلاح الثقافي، وسد الثغرات، هو مبعث الأمل والتفاؤل الوحيد في هذه المعركة ـ بعد الله عز وجل ـ وإن بدا بطيئاً، وهو الظهير السياسي الذي تحتاجه كل مقاومة مسلحة في أشواطها الميدانية المتقدمة.
وعلى العكس، فإن الاعتقاد بوجود حلول سريعة لحدث بهذا العمق هو خروج على سنن التاريخ، ومواجهة للخصم بظهر مكشوف، وتفعيل من جديد لدور الثغرات المكشوفة، وهو التثبيط عينه، وليس هذا تعارضاً مع الحاجة إلى الوسائل الآنية والموضعية على طريق الحلول الدائمة.
مرة أخرى، لقد صاغت أوروبا لشعوبها شخصية جديدة ومفاهيم تنسجم مع تحديات القارة، ورصدت لذلك علماء اجتماع، ولم يكن من قبيل العبث إطلاق اسم الشخصية الجديدة على العملة النقدية الأوروبية. إنها ضرورات إجرائية لقرارات حتمية.
الفارق الإيجابي هو أن الشخصية الأوروبية مصطنعة، مادتها الاقتصاد، ومنشؤها السوق، ومن صنيع الحكومات الذي يتعارض بالأصل مع رغبات الشعوب الأوروبية. وشخصيتنا طبيعية، مادتها الإسلام والعروبة، ومنشؤها الحضارة، وشريان حياتها فصول التاريخ، وهي من صنيع الشعوب الذي تعترض النظم السياسية طريقه.
مهمتنا أقل مشقة من مهمة الأوروبيين، وهي في حكم المنجَز الذي لا يعوزه سوى المصادقة السياسية ليكون نمط حياة.
ستبقى منطقتنا بحاجة إلى مفاهيم تنقل التماسك القائم بين شعوبها من صوره العاطفية العفوية في شوارع إستانبول ودمشق وعمان وبيروت والقاهرة، إلى صيغة أيديولوجية منهجية في أروقة السياسة، وتفعّل جهاز المناعة الإقليمي الذي يقيها آثار الصدمات العنيفة، ويملأ الفراغ السياسي والأمني في رقعتها المهمة، ويؤهلها لنادي الكبار.