نور الجندلي
بيتٌ تتصدّع جدرانه، قلبهُ يتوقّف! قذيفةٌ تحيلهُ أطلالاً، تحطّم بقايا الذكريات، وتخنقُ بسماتٍ شاحبة سكنت، واستحالت بعدها إلى قهقهة أشباح.
يحلمٍ فيُغادرُ مسرعاً، فقد أعلنت حالةُ الطوارئ فجأة، وغادرت نساءُ الفلوجة على عجل ... وبقيت شيماء.
الليلُ يطوفُ بوشاحِ الحزن، يعدُّ الضحايا من الطرفين، ويبتسمُ بسخرية مرّة، وتكبّر النجمات.
ـ كُنَّا الأقوى. كما خمّنّا!
تنتزعُ قلبها الباكي من تحت الركام، وتسير على أنقاض النصر الحزين، لتبحث في برد العالم عن ملجأ، قطعة خبزٍ، حفنة جمر، ويدٍ تكفكفُ دمعها.
ليلُ النّكباتِ طويلٌ، يفزعها فيه عواءُ الذّئابِ البربريّة، تتخفّى في هيئة شبحٍ ذكوريّ، لتحمي أنوثتها من لسعات عقارب المدن، أو من نظرات خفافيشها المتعطّشة إلى دماء.
تقطعُ مع الليل مسافات طويلة، تقتاتُ الهمّ كلما لمحت خيال طيرٍ، أو سمعت مواء هرّة.
كم كانت تطربُ لصوتها في ذلك البيت الذي ... كان لها!
قطعُ الجبنِ اعتادت أن تسكن طيّات ملابسها.
أما الآن فإنها أحوجُ من هرّة إلى كسرة خبزٍ جافّة، تذكرها بأنّها ما زالت من الأحياء، هاربة من جحيمِ الموتِ، ومن جنون البشر.
شلاّل الدّماء أهداها منهُ رذاذاً، فتنفّست رائحتهُ مع الفجر وقد وقفت تدعو أن تهتدي إلى مأوى.
لمحت حيّة رقطاء تعود إلى جحرها، لم تقوَ إلا على حسد.
ـ ليتني كنتُ حيّة لأختفي في وكري، ليتني استطعتُ أن ألتفّ على أعناقِ طائراتهم كي تسقط صريعة!
أو ألدغهم بكلّ ما بثّوا في داخلي من سمٍّ، وبكلّ ما جرّعوني من أسى!
ليتني ... ليتني!
تغرقُ في بكاء مُرٍّ، ثمّ تنصبُ عصا الترحال وتمضي.
المدينةُ تبدو ميتةً؛ بلا أضواء، بلا حياة.
لقد نام الجميع وأعينهم مفتوحة، على إثر زلزال أمريكي الهوية.
حتى التسوّلُ قد غفا لحظة في أعينٍ بائسةٍ يئنُّ من وطأة جوعٍ وفاقة.
تناديها مئذنةٌ قريبة، تبتسم أخيراً بمرارة!
تهرولُ مسرعةً إلى المسجد، يحدّقُ بها بعضهم بنظرات ملأى شكوكاً.
ـ من أنتَ؟ من أينَ أتيتَ؟ ما اسمكَ؟ هيّا اعترف! ما أهدافك؟ سُنّيٌّ أم شيعيّ؟
لا تدخل قبل أن تبرز سلاحك!
وبصوتٍ ممزوجٍ بتراب الأسى يخفيه لثام ...
ـ اسمي عبد الله، أتيت من الفلوجة، أخوكم سُنّيٌّ، مسلم! ولا أحملُ أيَّ هويّة.
تتلاشى النّظرات المُتّهِمة.
ـ أهلا بالبطل، تعالَ واسترح، وتوضأ وصلِّ، وخذ بعضَ الزادِ ولا تُطلْ! المعركةُ ستحتدمُ قريباً، والمسجدُ لن يسلم من حقد، وما نراكَ إلا هارباً من بؤسٍ إلى بؤس.
على السّجادة الطّاهرة تغفو أخيراً، لتفزعها أصوات الرّصاص ...
تهبُّ مدافعةً بلا سلاح!
أخبروني ماذا أفعل؟ كيف أُعين؟
بلهفةٍ تسأل:
بلا سلاحٍ أنا، بلا قلبٍ أصبحتُ، فبِمَ أقاوم؟
يعطيها مسدّساً وبضعَ طلقات ...
ـ اذهب إلى الجهة الشرقية، وقاوم هناك.
تركضُ مسرعةً، تبتعد، تقفُ برهةً لتلتقط أنفاس الدّخان ...
ينكشفُ لثامها عن أنوثة، وتجلس لا تدري أن الصيّاد يراقبُ من خلف الشجرة.
يبحثُ عن غنيمة ... نساء يريد ... فقط نساء!
التجارةُ عنده مربحةٌ، وجيوبهُ امتلأت دنساً ومرارةً تتقاطر من عيون الشّوارعِ السوداء التي شهدتْ اختطاف العفّة والمروءة.
جرائمُ ترتكبُ في وضح الحقيقة، على مرأى من ملأ ماتت فيهم الروح، بعد أن سادت الحرب فأحرقت كلّ مكان.
تُدركُ بلمحةِ عينٍ مغزاه.
باعد بين الحركتين
يقتربُ وفرحٌ آثمٌ يغمرهُ.
ـ ما اسمكِ؟
وبعزّة:
ـ اسمي شيماء.
ـ من أين أتيتِ؟
ـ من الفلوجة.
ـ لا بدّ وأنك بلا مأوى، تعالي ... سأضمّك إلى بعض الصديقات!
ـ لا حاجةَ لي بكَ، فاغرب عن وجهي أيها النجس.
بنتُ الفلوجة ترفعُ سلاحاً، تصوّبهُ بلا رحمة! يبتسمُ ساخراً من اضطراب اليدين، وتطلقها رصاصة ألم، تحمّلها مرارة البداية، وألم النهاية.
كانوا هناكَ خلف الجدرانِ يراقبونَ ويسمعون.
سمعوا الطلقة فأسرعوا نحوها مسلّحين، حاقدين.
توحّدت مع الهواء فطارت كورقة خريفيّة ...
واجهت نخلةً شمّاء ...
كم تشبهها بالشموخ والشعرِ الغجريّ!
احتمت بها، وقالت: أنا شيماء.
أغمضت عيناها تنادي: الله أكبر ... أخيراً تحررت.
وتنطلقُ قذيفة محمومةٌ تحيلها والنّخلة إلى أشلاء.