دعوة للمراجعة
فيصل بن علي البعداني
ولجَ بعض رجالات الأمة ودُعاتها في بعض الدول في خضمِّ المعترك السياسي، سواء أكان ذلك في الجانب التشريعي أم التنفيذي؛ بهدف مدافعة طليعة الغرب وأذنابه في بلداننا من دعاة المدِّ العلماني الجارف بكافة أطيافه والذي سُلِّط على الأمة وتسرّب إلى مناحي حياتها المختلفة، والسعي لتخفيف ضرر جنايته، وحماية الأمة ودعوتها المباركة من بعض شروره، وإبقاء بعض الفضاءات متاحة أمام الجهود الخيرة التي يمكن أن تنتشل الأمة من مرحلة الهوان والتبعية وفترة التسلُّط القاسي التي تمرُّ بها.
وبكل تأكيد فقد صاحب هذه التجربة جوانب نجاح وإخفاق، وبغضِّ النظر عن ذلك فمن صدقت نيّته من أولئك الفُضلاء، وتخلّص من حظوظ نفسه فهو دائر بين الأجر والأجرين، والله ـ عز وجل ـ غفور رحيم جواد كريم.
وليس الهدف بالأساس هنا تقويم التجربة أو الحكم عليها فلذلك رجاله وساحاته، إلا أن المشاهَد في هذا الاتجاه في الآونة الأخيرة فشو بعض المظاهر شديدة الجنوح عن المنهج النبوي الراشد في الإصلاح والتغيير، ومن ذلك:
والحديث هنا ليس عن أصل المشاركة، فتلك قضية اجتهادية، المشارك فيها والمحجم عنها كلاهما على خير إن شاء الله، وإنما الحديث عن تصريحات الخلط وخُطبه ومحاضراته، وعمليات الدفاع المستميت الذي يتصدر له بعض الجهلة من المحسوبين على الدعوة؛ بغرض إعطاء تلك المزالق التي تبنّتها جماعاتهم بُعْداً شرعياً، وإظهارها بمظهر المتوافق مع الشريعة، لا بل والمنطلق منها!
ونتيجة لذلك وجدنا ـ مثلاً ـ بعض طلبة العلم المنتمين إلى بعض تلك الفصائل الدعوية الخائضة في هذا الجانب من يصف من يراد تقديمه للعامة من المرشحين بالزهد والربانية، مع أن ذلك الرجل لا تظهر عليه بوادر الاستقامة فضلاً عن أن يُعدَّ من أهل الدعوة! في الوقت الذي يرى المرء فيه في المقابل سخرية شديدة، وهزءاً حادّاً من دعاة وطلبة علم شهيرين في الساحة لا ينتمون لتلك الفصائل ولا يرون مناسبة الخوض في خضمِّ المعترك السياسي وقتاً أو رؤية، حتى إن بعض كبار الخطباء وقيادات العمل الفاضلة التي ولجت في هذا الباب قامت بإسقاط آيات النفاق عليهم، وكأن شعار (لنعمل فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) ـ مع التحفظ النسبي عليه ـ لا يطبق إلا في داخل الأسوار المغلقة لتلك الفصائل، أو مع حلفائها من خارج الساحة الدعوية! فيا لله كم صرْنا في زماننا نبصر الكثير من الخلط والعجائب!
فكيف إذا انضافت إلى ذلك الخطل شرور أخرى؛ كتصدير بعض الجهلة ورقيقي الديانة، واستمراء الكذب، وممارسة الخداع والغش والتزوير، تماماً كما يمارسه العلمانيون ومن يدور في فلكهم من أهل الأهواء والشهوات، وإن كان بحجم أقل، تحت مبرّر المعاملة بالمثل، وأنه كذب للدين وتزوير من أجل الفضيلة، متناسين ما قد تقرَّر في محكمات الشريعة من أن الوسيلة القذرة لا تبررها الغاية النبيلة البتة.
وفي هذا السياق أؤكد أن المشاركة السياسية التي يُعْمَل من خلالها على جلب بعض المصالح ودَرْء بعض المفاسد قد تكون مفهومة بل ومقدّرة، في حال أعطيت حجمها، ووضعت في سياقٍ عمليٍّ تكامليٍّ مع المقاصد الكبرى للدعوة، أما أن تتحول من وسيلة إلى غاية، في مقابل تسطيح الطرح النظري والتبنِّي العملي لأصول الدعوة، وليس هذا فحسب، بل ويمارس دوراً إقصائياً لكل طرح يدعو للتوازن والانضباط في هذا الجانب من داخل الصف أو خارجه، وتسقط عليه نصوص التخذيل وبعض خِلال المنافقين، في وقت يتحالف فيه مع قلاع العلمنة وعتاة أهل الأهواء والبدع، وتفتح فيه بوابات التحاور والتنسيق المشبوه مع بعض السفارات الغربية تحت مبرر حماية الدعوة، والظهور بمظهر الاعتدال والوسطية، مع أن المولى القدير يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، فهو أمر غاية في الغرابة بل والخطل، ويزداد الأمر شناعة حين يُغرس ذلك القصور والتمييع في نفوس الأتباع، ويتحول في السياق التربوي والطرح الفكري لبعض الفصائل الكبرى للعمل الإسلامي اليوم إلى مظهر رشد وحنكة، وشعور عالٍ بالمسؤولية، وقاعدة راسخة ونهج تطبيقي ثابت!
ولو أردنا أن نحلِّل الأسباب التي أدَّت إلى تلك المظاهر الخطرة لوجدنا أن من أبرزها:
وما لم يُبثّ علم الوحي المطهر في الأمة، وينتشر الفقه، وتزكى النفوس، وتربى على الإيمان، فإن الانتقال إلى المراحل التالية ـ فيما أحسب ـ استعجالٌ وجرٌّ للأمة إلى مرحلة لم تتهيأ لها بعد.
وأمام هذا الواقع فالدعاة إلى الله ـ تعالى ـ مطالبون بجملة من المعالجات التي قد تعين على الخلاص من جوانب النقص والقصور في هذا الباب، ولعلَّ من أبرز عناصرها:
والمسؤولية تقع في هذا الجانب بالأساس على العلماء والمفكرين، إذ الضعف ضعفهم، والتقصير تقصيرهم، وإن من أمانة العلم ومسؤولية حفظ الدين التي استرعاهم الله ـ تعالى ـ عليها أن لا يتركوا الأمة ينهشها الزيغ العقدي والانحرافات الفكرية، وتغرق في بحور الشهوات، وعندهم من الله ـ تعالى ـ وصف علاجها.
وختاماً: فلا بد من سلوك نهج النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الإصلاح والتغيير؛ لأن دين رب العالمين على مرِّ تاريخ البشرية الطويل لم يقم به وينصره إلا نبي أو سائرٌ على نهج نبي، على أن مرمى هذا الحديث هو الدعوة للمراجعة فقط، وليس تقويماً للتجربة، كما أنه لا يصلح أن يُعدَّ بمثابة أرضية لإعطاء صورة متكاملة عن المشاركة السياسية للدعاة؛ لأنه بمثابة الحديث الانتقائي الذي يركز على بعض جوانب الخلل التي قد تدقّ أو تجسر، بغرض معالجتها والمبادرة إلى تلافيها.
وأرجو أن لا يفهم من خلال هذا الطرح أنه بمثابة دعوةٍ إلى الإقدام أو الإحجام عن الخوض في هذه التجربة إذ ذاك ليس من هدف المقالة، كما أنها لا ترمي بحال إلى تبرير موقف طائفة فضلى من أهل العلم والدعوة انكفأت على نفسها وفشلت في مواكبة واقعها، ولم تستطع حتى الآن على الأقل أن تواكب الأحداث الجسام التي تمرّ بها أمة الإسلام في أكثر من موقع وعلى أكثر من صعيد بالصورة المرجوة.
اللهم وفّق دعاة الإسلام المصلحين في كل مكان، واحفظهم، وبارك فيهم ولهم، وألهمهم رشدهم، وسدّد رأيهم، وجنّبهم الوقوع فيما لا يرضيك عنهم بفضلٍ منك وإحسان يا أرحم الراحمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.