مجله البيان (صفحة 5792)

العمل والتربية الحياتية من منظور إسلامي

د. بركات محمد مراد

الأصل هو أن العمل ضروري لكسب المعيشة وتحقيق المستهدفات الأخرى في الحياة. والعمل له أيضاً وظيفة اجتماعية ونفسية؛ فهو يسبغ على صاحبه قيمة معينة، ويساعده في تحقيق الذات، ويعطيه جملة من المشاعر الإيجابية نحو نفسه ونحو الآخرين. وفي المجتمع العربي والإسلامي نجد الدين الإسلامي والتراث ومختلف أدوات التنشئة من مناهج تعليمية وبرامج إعلامية وغيرها تحرّض على العمل وتدعو إلى احترامه.

ويعتبر العمل واجباً إسلامياً على كل فرد؛ حيث إن قواعد الإسلام، وسلوك الأنبياء والصالحين تشير إلى وجوب العمل في مختلف أشكاله. فقد عرف الأنبياء ـ عليهم السلام ـ قيمة العمل على هذا النحو؛ حيث كان إدريس خياطاً، وزكريا بحاراً، وموسى أجيراً، ومحمد تاجراً مع عمه أبي طالب، ثم لحساب خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها، وكذلك كان راعياً للغنم. ولا يجوز لنا أن نستهين بأي مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة القيمة؛ فإنها في النهاية لها أهميتها في حركة الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونها، والتوجيه النبوي يقول: «اعملوا؛ فكل ميسَّر لما خُلق له» (?) .

والعمل الذهني مثله مثل العمل العضلي كلاهما ضروري لحركة الحياة ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وقد كان أنبياء الله جميعاً يمارسون بعض الحرف وفي مقدمتها رعي الغنم، ولم يقلل ذلك من قيمتهم ومكانتهم. ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أكل أحد طعاماً قطُّ خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده» (?) .

وهنا يقول ابن حجر العسقلاني شارحاً: «في الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره. والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله ـ تعالى ـ وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي -صلى الله عليه وسلم- قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد ... إلخ» (?) .

كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» (?) . ويقول: «من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له» (?) . وفي الأثر أنه قبّل يداً وَرِمَتْ من العمل، وقال: «هذه يد يحبها الله ورسوله» . ومن قبل قال لقمان لابنه: «يا بني! استعن بالكسب الحلال على الفقر؛ فإنه ما افتقر أحد قط، إلا أصابته ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاثة استخفاف الناس به» (?) .

وقد عرف المسلمون هذا الأمر، فقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «قيمة كل امرئ ما يحسن» (?) . وقال ابن مناذر: «سألت أبا عمرو بن العلاء: متى يحسن المرء أن يتعلم؟ قال: ما دامت الدنيا تحسن به» (?) كما قال الغزالي: «من العلوم الشرعية علوم محمودة، ترتبط بها مصالح أمور الدنيا كالطب، والحساب» (?) .

إن الإنسان ـ كما أكدت دراسات الروح المعنوية في الصناعة، ودراسات الإشباع الاجتماعي المهني ـ لا يعمل لمجرد الحصول على الأجر أو لمجرد الحصول على الطعام والمأوى، وإنما بجوار ذلك الهدف فهو يعمل لإشباع مجموعة من الحاجات، كالحاجة إلى الأمن، والاحترام، والتقدير، والحاجة الفسيولوجية، والحاجة إلى تحقيق الذات وسعادتها.

\ العمل بين الإسلام والتراث الغربي:

إذا كانت مهمة الإنسان في هذه الحياة هي إعمار الأرض؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] ، فإن ذلك لن يتحقق إلا بالعمل من أجل البلوغ إلى تحقيق الهدف. فالحياة بلا عمل موات، والإنسان قد أعطاه الله من القوى والطاقات ما يجعله قادراً على قيادة سفينة الحياة بالعمل الجاد المنتج الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم.

ومن هنا كان اهتمام الإسلام بالعمل اهتماماً بالغاً؛ فالإسلام يربط بشكل مستمر بين الإيمان والعمل الصالح. وهذا العمل الصالح يعني كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته ويقصد من ورائها وجه الله ـ تعالى ـ ونفع الناس ودفع الأذى عنهم، وجلب المصالح والمنافع لذاته ولأهله ولكل من هو مسؤول عنه. وكل عمل يشتمل على ذلك فإنه يندرج أيضاً تحت مفهومي العبادة والتقوى.

وآيات القرآن الكريم التي تشتمل على الربط بين الإيمان والعمل الصالح تفوق الحصر، وقد جاء في الآثار ربطٌ حكيم بين الإيمان والعمل بقول الحسن البصري: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في الصدر وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم الأماني، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» (?) .

ومن شأن العمل أن يؤدي إلى تطوير الحياة. ومن خلاله يحصل الناس على أقواتهم فيزرعون ويحصدون. والقرآن الكريم يأمرنا أن نجوب الأرض بحثاً عن الرزق، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] . والحياة سلسلة من الأعمال متصلة الحلقات، والذي يقعد عن العمل مع القدرة عليه لا يستحق الحياة؛ لأنه بذلك يصبح عبئاً على غيره، ويصير طفيلياً على الحياة ذاتها؛ فالقعود عن العمل كسل ممقوت. ومن أجل ذلك يقول عمر بن الخطاب: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإن الله ـ تعالى ـ يقول: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} .

[الجمعة: 10] »

وهذا يعود إلى أن الإسلام ـ بنصوصه وروحه ـ دستور ونظام، وعقيدة وشريعة، والإسلام عمل للدارين: الآخرة والأولى، وهما في الإسلام موصولتان. والفقه الإسلامي شقان متكاملان متلازمان: عبادات ومعاملات «فإلى جانب أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج، نجد أحكام الشراكة والمزارعة والمساقاة والمضاربة والوكالة والكفالة والحوالة إلى آخر هذه الأمور التي تتصل أوثق اتصال بالحياة الدنيا، والتي تستوعب الأبواب الكثيرة للمعاملات، ونجد أوامر بالوفاء بالعقود وبأداء الأمانات إلى أهلها، وبرد المظالم، وإعطاء كل ذي حق حقه.

والعمل قيمة ينبغي الحرص عليها؛ فالأخذ بها يؤدي إلى التقدم والارتقاء، والتخلي عنها يؤدي إلى التخلف والجمود والموت.

ونحن لا نقصد هنا بالعمل القيمة المطلقة للعمل فحسب، كشيء فطري في الخلق، وإنما نعني بالعمل ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المفصل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق. فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية؛ فهو لم يعد شغوفاً بالفلسفة النظرية والتأملية الخالية من المعنى، بل إن العمل يُعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية. وقد كان هذا طابع العمل دائماً في الحضارة العربية والإسلامية، بخلاف كثير من الحضارات السابقة، التي نظرت إلى العمل نظرتها إلى شيء دنئ ومنحط، ولذلك أعلت من شأن الفكر وحياة التأمل، وأعرضت عن حياة العمل والممارسة والتجربة؛ بخلاف التوجه الإسلامي الذي دعا الإنسان إلى الاهتمام بالصناعات بقدر اهتمامه بتحصيل العلوم النظرية والسعي إلى فهم الكون والوجود فهماً عقلياً وروحياً.

فللعمل ـ في الإسلام ـ شرف كبير ليس له مثله في غيره من الأديان والثقافات. فالتراث الإغريقي ـ مثلاً ـ وهو الذي ترك آثاره واضحة في الفكر الغربي ـ لا يقف عند تجاهل شرف العمل، بل يرى بعض العمل عاراً؛ فقد كان العمل غير الذهني ـ عند الإغريق ـ وصمة اجتماعية توجب لصاحبه التحقير، وكانوا يرون أن الاضمحلال البدني الناشئ عن هذا العمل يستتبع انحطاط الروح، وكانوا يرون المواطن الصالح لا يكون أبداً من العمال (?) .

واليهودية والنصرانية ـ مثلاً ـ تعتبران العمل عقوبة رمي الله بها البشر جزاء بما عصاه أبوهم آدم في الجنة؛ فقد كان من نتائج هذه المعصية أن طرده الله، وقال له: «ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها أيام حياتك» (?) ، « ... بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض» (?) .

وحتى بعد قيام الثورة الصناعية في أوروبا في بداية العصر الحديث، ظل بعض الشعراء والقصصيين الغربيين أمثال شيلرSchiller، ووردز ويرثWordsworth وكير جارد Kieegaed وفولكنر Fau Lkner ظلوا يحطون من شأن المجتمع الصناعي باعتبار أنه ـ في رأيهم ـ يقضي على القيم الإنسانية.

أما في الإسلام، فيكاد يكون من المعلوم منه بالضرورة أن العمل شيء يُطلب، ويُحث عليه، وتحصل بسببه المثوبة. وقد نوَّه القرآن الكريم ببعض الصناعات الهامة على عهد نزوله بالنسبة للمجتمع الإسلامي، تنويهاً يشير إلى عظيم آثارها وجليل فضلها، وإلى أنها من أكبر النعم التي يمنُّ بها الله على عباده؛ فقد نوه بمختلف الصناعات والحِرَف البشرية مثل:

| صناعة الحديد والمعادن: حيث يقول ـ تعالى ـ: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ، ويقول في الحدادة: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] . ونوه بصناعة التعدين؛ حيث يقول: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] ، أي النحاس المذاب الذي يستعمل في صنع الجفان والقدور. وكذلك يقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17] ، كما أشار إلى صناعة الدروع بقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] ، وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10 - 11] .

| وصناعة الكساء: في قوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] وحيث يقول: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ} [النحل: 80] . ويقول: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] ، ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92] .

| وصناعة الجلود: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ} [النحل: 80] .

| وقال في بناء المساكن: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] ويقول: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] .

| وفي صناعة السفن: يقول: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] ، ويقول: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] ، ويقول: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن: 24] ، ويقول: {وتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 12] .

| وفي الصيد وصناعاته: يقول ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] ، ويقول: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] ويقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . ويقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] .

| وفي الفلاحة: يقول: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] .

ومما أشارت إليه السنَّة أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مع علو درجتهم كان العمل طريقهم: فآدم احترف الزراعة، ونوح النجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة، كان يكتب التوراة بيده، كل منهم قد رعى الغنم، وكان زكريا ـ عليه السلام ـ نجاراً (?) . وفي الآثار أيضاً أن إدريس كان خياطاً، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص، وعيسى يأكل من غزل أمه الصدِّيقة (?) وقد عمل هو نفسه في حداثته صباغاً (?) . ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ حياته عاملاً؛ ففي صباه رعى الغنم لأهل مكة تلقاء قراريط، وفي شبابه عمل في التجارة لحساب غيره. وأصحابه الأدنَوْن، عمال مثل: خباب بن الأرت الحداد (?) ، وعبد الله بن مسعود الراعي، وسعد بن أبي وقاص صانع النبال، والزبير بن العوام الخياط، وبلال بن رباح العبد الخادم، وسليمان الفارسي الحلاق، وعلي بن أبي طالب الذي سقى بالدلاء على تمرات ... إلخ (?) .

وقد كان عمر بن الخطاب يقول: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أَلَهُ حِرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط في عيني» (?) . وعمر ـ في ظل الروح الإسلامية ـ لا يستثني القراء، مع أنهم أهل رأيه ومشورته، ومحل ثقته وتقديره، على الترفع عن أن يكونوا عالة على الناس، يقول لهم: «معشرَ القراء! التمسوا الرزق، ولا تكونوا عالة على الناس» (?) .

\ العمل فريضة إسلامية:

والعمل بقصد الاكتساب فرض عين على المسلم؛ لأن إقامة الفرائض تقتضي حتماً قدرة بدنية ونفسية، وهذه لا تتأتى إلا بطعام ونفقة «وما لا يتوصل إلا به إلى إقامة الفرائض يكون فرضاً» (?) وفي الحديث: «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة» (?) . كما أن العمل للاكتساب للإنفاق على العيال من زوجة وأولاد فرض عين كذلك؛ لأن إنفاق المرء على زوجته وأولاده مستحق عليه. قال الله ـ تعالى ـ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] . وقال ـ عزَّ وجل ـ: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] . وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (?) والتحرز من ارتكاب المأثم فرض؛ كما أن الكسب الحلال طريق إلى رحمة الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله امرأً اكتسب طيباً» (?) .

والسعي على العيال، والهموم في طلب المعيشة تكفر ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به، ودينار أنفقته على أهلك: أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» (?) .

كما أن الإسلام يمنح كل الأعمال احتراماً بعيد المدى، ما دامت مشروعة. ومن إكرام الإسلام للعمل والعمال، أن رب العمل ملزَم ـ بنص السنة ـ أن يعتبر خدمة إخوته، وعليه أن يطعمهم مما يطعم، ويلبسهم مما يلبس، ولا يكلفهم من العمل ما يغلبهم؛ فإذا كلَّفهم أعانهم. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إخوانكم خولكم (أي خدمكم وحشمكم) فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» (?) .

\ العالم الإسلامي والصناعة:

ومن هنا أصبح العمل ونشاطاته المختلفة، خاصية أساسية من خصائص الحضارة العربية الإسلامية، فاندفع المسلمون يمارسونه على المستوى العقلي والعملي، ويطبقون كل النظريات العلمية التي يتوصلون إليها تطبيقاً عملياً بما ينفع الناس ويرتقي بمستواهم الحضاري والاجتماعي، ومن هنا كان ازدهار الحضارة الإسلامية لقرون عديدة في كل المجالات العلمية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة حين توفر العقيدة الإسلامية لأتباعها أهم مقومات النظر السليم في التعامل مع الواقع، ومع البيئة المسخرة لهم من قِبَل الله ـ تعالى ـ وَفق تشريعات حكيمة بنظم الحياة في كل جوانبها ومرافقها، وعندما يتصالح الفكر مع الواقع يكون الإنسان أكثر قدرة على بناء صرح الحضارة المتوازنة روحياً ومادياً.

وإن استخدام هذه الخاصية في الحياة العقلية والثقافية للحضارة، وفي السلوك العام للإنسان مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكر بالواقع، ويربط العمل بوسائله المكافئة بشكل واضح يحكمه؛ فالعملية كذلك تعني كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه؛ وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً، بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانيات (?) .

ولنا في تاريخ الإسلام خير مثال، عندما أنتج علماء المسلمين فكراً يتلاءم مع واقعهم، وقدموا للعالم حضارة زاهرة معمرة، كما قدموا حلولاً شافية للمشكلات البيئية التي واجهتهم على المستويين الفكري والعملي، ذلك أن العلم والفكر اللذين لا يعمر بهما الكون، ولا تصلح بهما البيئة والواقع، ولا ترقى بهما الحياة، في جانبيها الروحي والمادي معاً، هما علم وفكر قاصران وضررهما أكبر من نفعهما (?) .

ولذلك قامت في المجتمع الإسلامي، منذ قديم، صناعات عامة اقتضت بطبيعتها تجميع أعداد كبيرة من العمال والصناع، ومن ثَمَّ كان الإنتاج كبير الحجم؛ فقد قامت مثلاً صناعة الأسلحة في مصر، وكان هذا طبيعياً جداً في بلد بلغ جيشه أيام الطولونيين حوالي مائة ألف جندي وأيام الإخشيديين أربعمائة ألف جندي. وكانت القاهرة مركزاً لتلك الصناعات الحربية (?) كصناعة الدبابات والمنجنيق وصناعة السفن والمراكب الحربية، وقد أنشأ ابن طولون مائة سفينة حربية، كما أنشأ المعز الفاطمي دار الصناعة بالمقس بالإسكندرية، وأنشأ بها ستمائة مركب «لم يُرَ مثلها في البحر على ميناه» (?) .

كما كانت في مالقة بالأندلس «دار صناعة لإنشاء المراكب» (?) . ومما يذكر أن الأوروبيين في العصور الوسطى أخذوا لفظ «دار الصناعة» عن العربية، فهو في الإيطاليةصلى الله عليه وسلمrse nale صلى الله عليه وسلمrzenale وفي الإنجليزية والفرنسية والإسبانيةصلى الله عليه وسلمrsenal. ولما أنشأ محمد علي داراً للصناعة أخذ اللفظ الأجنبي المحرف، وزدنا في تحريفه، فكان «الترسانة» .

كما عرف المسلمون استخراج المعادن، وفي حديث ابن مماتي عن الصناعات في مصر يقول: «وبها معدن الذهب، ومعدن الزمرد وليس في الدنيا معدن زمرد إلا في مصر» (?) ويقول في موضع آخر: «وبها حجر السنباذج الذي تقطع به سائر الأحجار» (?) . وفي كرمان مدينة رهزان يقول عنها ابن الفقيه: «هي مدينة كبيرة واسعة، وبها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر» (?) وكانت «مالقة» بالأندلس مختصة «بصنائع الحديد كالسكاكين والمقص ونحوها» (?) .

وعرف المجتمع الإسلامي ـ كما يقول د. لبيب السعيد (?) ـ مؤسسات صناعية تحدثت كتب الفقه تفصيلاً عن مشتملاتها ومواصفاتها، وحالة العمل فيها. ومن هذه المؤسسات: بيت الدهان، والطاحونة، وبيت الطحانة، والمجمدة، والمثلجة، والملاحة، وعين القير أو النفط، وبيت الطراز (?) . وعُني المجتمع الإسلامي بصناعات النسيج، واشتهرت مصر بأنواع الحرير والكتان النقي الفاخر خاصة «تنيس» و «دمياط» وامتازت بعض البلاد المصرية بصناعة المنسوجات الصوفية كالملابس والشيلان والأبسطة. وقلد أهل «أسيوط» النسيج الذي اختصت به بلاد أرمينيا وصنعوا نوعاً من العمائم لا نظير له في العالم، واشتهرت «طحا» بعمل الثياب الصوفية الرفيعة (?) . كما اشتهرت «القصير» بعمل الثياب والأنسجة من الصوف.

وقد ترافق ازدهار الحضارة العربية مع نشوء المدن الكبيرة وتزايد حاجات المجتمع، ونمو جهاز الدولة بإداراته العديدة وما تدعو الحاجة إليه من إعداد الجيوش وبناء الأساطيل، وفي الوقت نفسه نمت التجارة الدولية وحدثت الثورة الزراعية العربية، وقد أدى كل ذلك إلى تزايد الطلب على المنتجات الصناعية، فنمت الصناعات وتطورت وتنوعت، ولقد ازداد عدد الحرفيين والصناع نتيجة لذلك ونمت خبراتهم، وكان ضمن كل صناعة عدد من الصناع من اختصاصات مختلفة، ويمكننا أن نعرف أسماء مختلف الحرف من كتب الحسبة (?) والجغرافيا والتراجم والتاريخ، وكذلك فإن الكتابات والنقوش على المباني التاريخية، وعلى التحف المتبقية تعتبر مصدراً له أهميته (?) ، وقدر عدد الحرف اليدوية في القاهرة في عهد الفاطميين والأيوبيين بأكثر من 265 حرفة، وقدرت مختلف الحرف والصناعات في دمشق في أواخر القرن التاسع عشر بأكثر من أربعمائة كان نصفها تقريباً من الحرف الإنتاجية (?) .

أدى العدد الكبير من الصناعات والحرف واختلاف طبيعة كل منها إلى تنظيمها في أسواق متخصصة، وكان مثل هذا الفصل ضرورياً؛ إذ إن بعض الصناعات تولد الدخان والروائح وهذه كانت تقام في أطراف المدن، وكان لهذا التنظيم فوائده للجمهور وللتجار وللحرفيين أنفسهم، كما أنه ساعد السلطات على مراقبة جودة المنتجات.

\ التربية الحياتية والعمل:

الحديث عن الجانب الحضاري والمادي المتصل بالإنشاء والبناء والخاص بالحضارة العربية والإسلامية، حديث لا يمكن الإحاطة به، وخاصة أن الحضارة الإسلامية قد ازدهرت وامتدت في مساحات شاسعة من العالم، كما أنها استغرقت من الزمن الكثير من القرون، جمع فيها الإنسان المسلم بين التقدم العلمي والتطبيق التكنولوجي، بشكل غير مسبوق، وذلك لاحترام الإسلام للعلم، وكذلك لاهتمامه بالعمل، ولاعتباره أن رسالة الإنسان في هذه الحياة بعد عبادة الله ـ تعالى ـ وتوحيده والإعمار المستمر والعمل الدؤوب.

من هنا كان اهتمام الإسلام بالسعي في بناء الحضارة وازدهار المدنية يتوازى مع العمل للآخرة والسعي لما بعد الموت، ولقد حقق الدين الإسلامي وحدة ثقافية عالمية ارتبطت بلغة أدبية وعلمية هي اللغة العربية التي سرعان ما حلت محل لغات قومية عديدة، وأصبحت أداة التعليم والاتصال. ولا ننسى أثر الدين الإسلامي في الاهتمام بالحضارة وفي قيام المدن وإعمارها وازدهارها، وتحقيق الرخاء المادي الذي ساعد عليه قيام صناعات محلية بها، ساندتها تجارة محلية وعالمية نشطة، وحرية الانتقال وسهولته عبر مسافات هائلة من العالم، وهو الأمر الذي أوجد تكاملاً اقتصادياً حقيقياً، وصاحب ذلك تبني سياسة تعليمية رشيدة، انفتحت على تجارب العالم، والأمم السابقة والمعاصرة لها، إلى جانب اهتمام غير مسبوق بإنشاء المكتبات والجامعات والمراصد والمستشفيات، وهي تلك المؤسسات التي أصبحت من بعد مثالاً يُحتذى في الحضارة الأوروبية الحديثة، والتي ترسخت من خلالها قيم رفيعة للبحث العلمي المثمر، وما كان هذا الإنجاز العلمي والتكنولوجي ليتحقق في الدولة الإسلامية لولا الرعاية والحماية التي كان يحظى بها العلماء والباحثون وطلاب العلم (?) .

وقد تأثر الغرب بتوجيهات الحضارة العربية والإسلامية، في الاهتمام بالحياة الدنيا والسعي للارتقاء بها، بعد أن كان سكان أوروبا في العصور الوسطى يعيشون في جهالة دامسة، ويخضعون لخرافات مسيطرة انتشرت بفضل الفهم القاصر لكنائس العصور الوسطى والتي كانت تدعو إلى الزهد والرهبانية، وعدم الالتفات إلى هذا العالم الذي هو مدنس بالخطيئة والواقع تحت سيطرة الشيطان.

وفي بداية العصر الحديث أخذ العمل طابعاً إيجابياً، حيث سما لمكانة اجتماعية مرموقة، وأصبح ذا مسؤولية أخلاقية، وقد أدخل (مارتن لوثر) ومن بعده (جون كالفن) القول المأثور الذي يقول: «إنك عندما تعمل فإنك تحقق رغبة الرب» . وفي العصر الحديث جاء (جون ديوي) (?) مؤكداً دور العمل حيث قال: «إن العمل بالنسبة للتلاميذ الأسنِّ يقوم بدور في النمو التربوي للأنشطة الفطرية الفجة يضارع دور اللعب لدى التلاميذ الأحدث منهم سناً» (?) . ومن خلال هذا التوجه الحضاري برزت حركة حديثة يطلق عليها «التربية الحياتية» Career صلى الله عليه وسلمducation تنادي بإعداد الأفراد للقيام بأدوارهم الحياتية أو المعيشية بشتى أشكالها.

وفي الحقيقة نشأت حركة التربية الحياتية نتيجة لمشاكل اقتصادية واجتماعية أجبرت القائمين على المؤسسات التربوية على البحث في إيجاد مجتمع يُلِمُّ أفراده بالمهارات والخبرات المعيشية. كما أن الاهتمام الذي تبديه المجتمعات المتطورة بالحركة يرجع أيضاً في أساسه إلى الافتراض القائل بأن شباب العصر الحالي لم يعد يرغب في القيام بشتى الأعمال بدرجة الأجيال السابقة.

ويشير المربون التربويون إلى أنه عند مناقشة أولياء الأمور حول طموحاتهم في تعليم أبنائهم ـ خاصة في العالم العربي ـ تبرز أسطورة مهنية وراء الأسباب التي تدفعهم إلى متابعة واستمرار تعلم الأبناء وهي الحصول على الشهادة الجامعية. في حين يرى الاقتصاديون والسياسيون ورجال الأعمال المهتمون بالإنتاجية Productivity بأنه يجب ألا يمنع التعليم في الجامعة، غير أنه ينبغي ألا يستمر في إعلانه الطريق المقبول الفعلي والوحيد للتهيئة للحياة الوظيفية والمهنية، وبأنه ينبغي عدم التشديد على أن الشهادة الجامعية شرط أساس للنجاح المهني في الحياة، حيث إن ذلك يتجاهل العلاقات الوثيقة المتزايدة بين التربية والعمل.

وينتقد هؤلاء الافتراض السائد بأن أفضل طريقة لتهيئة التلاميذ للعالم الواقعي هو بقاؤهم منعزلين عن ذلك العالم، ويؤكدون على أن تقوم المرحلة الابتدائية بتدريس المهارات الأساسية اللازمة للنجاح في كل أنواع الوظائف باعتبار أن التعليم أداة لإكساب المهارات والخبرات الحياتية، ولذلك يؤكد الباحث سعد الهاشل (?) على ظهور التربية الحياتية في العالم المتقدم بشكل واضح في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتدور حول ربط مناهج التعليم بالواقع الوظيفي والحياتي، وبإبعاد العزلة القائمة بين التعليم النظري وبين التعليم التطبيقي، وبإعداد التلاميذ سواء من يكمل الدراسة الجامعية أو من لا يكملها، لمجالات حياتية مختلفة بتركيز المقررات التدريسية الحالية حول تلك المجالات.

ومن هذا يتضح أن التربية الحياتية تبحث في ربط الدراسات النظرية في المراحل التعليمية وما بعدها بالعالم الوظيفي وإبعاد العزلة الحالية الموجودة بينهما، وأنها تركز على المشاركة الفعلية للمنزل، والمجتمع بمؤسساته المختلفة في إكساب الأفراد المعرفة والمهارات الوظيفية. وعلى الرغم من هذا ما زالت النظم التعليمية العربية، وخاصة في جامعاتنا تصطنع المواجهة بين النظري التجريدي وبين التطبيقي العملي. وتصل الأمور إلى حد التمييز بين جامعات تصطبغ تجربة البحث العلمي فيها بالنظري التجريدي، وجامعات تصطبغ تجربة البحث العلمي فيها بالتطبيقي العملي. وفي هذا السياق ترتفع الأصوات وترفع الشعارات لجعل الجامعة مختبراً للمجتمع ومركزاً استشارياً لمؤسساته وهيئاته.

\ فلسفة التربية الحياتية وأهميتها:

هنا تأتي أهمية التربية الحياتية، والتي تبدأ مع تنشئة الطفل العربي في مراحل دراسته الأولى، وخاصة أن فلسفة هذه التربية ـ كما ذكرها «كينيث هويت» Kenneth Hoty في كتابه عن التربية الحياتية، تقوم على أساسين:

الأول: أن جوهر السعادة البشرية هو الشعور بالقيمة الشخصية، مع عمل يكون المقوم الأساسي لهذا الشعور عند الأفراد.

والثاني: أن النجاح في الحياة العملية لا يتطلب المهارات الضرورية للقيام بحرفة من الحرف فقط، وإنما يتطلب بالإضافة إلى ذلك الاتجاهات والقيم والقدرات العامة التي تؤثر في مقدرة الفرد عند العمل وتقوده إلى أن يكون شخصاً منتجاً على مدى الحياة (?) .

ومن هذا يتبين أن العمل ليس المصدر الرئيس للدخل فحسب، وإنما هو أيضاً مصدر في تقدير الذات ومنحها الإحساس بالسعادة. وبحكم أن السعادة تعتمد اعتماداً كبيراً على القيمة الشخصية والتي تعتمد بدورها على الإنجازات الحياتية، لذا أصبح دور التربية في إعداد الأفراد للإنجاز الذي يشكل مصدر السعادة هدفاً ذا أهمية بالغة، يتطلب من المدرسة والمؤسسات الوظيفية والمجتمع أن تكرّس كامل طاقاتها لبلوغه. ولهذا أكد «فرانك براترند» في بحث قدم في مركز التعليم الفني والمهني في (جامعة أوهايو) على أن أحد أهداف وظائف النظام التربوي هو مساعدة الفرد على تحقيق ذاتهFuifillment Self بطرق مقبولة اجتماعياً.

كما تحاول «التربية الحياتية» أن تسهم في تنمية مهارات العلاقات البشرية وفي المحافظة على الصحة العقلية والبدنية، كما تحرص في الدرجة الأولى على الإلمام بالمفاهيم لدى أصحاب العمل والتي تدور حول العلم والتكنولوجيا، بالمهارات والاتجاهات الكامنة والمستخدمة لدى أصحاب العمل والتي تعتبر ضرورية لسوق العمل.

وقد أشار (ألفن توفلر) صلى الله عليه وسلمlvin Toffler في كتابه «التعلم من أجل المستقبل» إلى أن الأطفال لا يكتسبون مهارات التكيف وتقنيات التخطيط من خلال المحاضرات والتلقين العادي وإنما هم يتشربون ويتعلمون من خلال الممارسات والخبرات التي تساعدهم في التعرف على الاختيارات البديلة الممكنة، وذلك لإيجاد بيئة مستحبة ومرغوبة لهم وللعالم البشري الذي يتعاملون معه (?) . كما يجب أن تركز البرامج التدريسية في الصفوف الأولى على تنمية الإدراك الحياتي بربط مناهج المهارات الأساسية بهيكل المعلومات الحياتية، كالتطرق لما يعمله الناس من أجل العيش وطرق معيشتهم ... وأن تصبح مهن أولياء الأمور (الطبيب، النجار، الشرطي.. إلخ) موضوعات لدروس القراءة، وتمارين الكتابة، ودروس التاريخ والجغرافيا، حيث إن هذه الدروس والمتطلبات تساعد الطفل على تشكيل سلوكه وتنمية فكره وإحساسه بالعالم المحيط به.

وقد أورد «ميلتون» أن سلوك الطفل يتشكل بناء على المتطلبات الخارجية المفروضة عليه من قِبَل المجتمع، وإن إجاباته لتلك المتطلبات تساعد على نموه العقلي (?) .

وأخيراً: تجدر الإشارة إلى الفرق بين التربية الحياتية Career صلى الله عليه وسلمducation والتربية المهنية Vocational صلى الله عليه وسلمducation وفي الحقيقة هناك تشابه بين المفهومين في بعض النقاط؛ وذلك أن كليهما يُعنى بالعمل، وأنهما متشابهان في بعض النقاط والاستراتيجيات كاستخدام الورش والمختبرات عند العمليات التدريسية. إلا أن مفهوم التربية الحياتية أكثر شمولاً من التربية المهنية؛ حيث إن هذه الأخيرة هي جزء من التربية الحياتية، ولذا فإن نجاح التربية الحياتية يثبت عند حسن اختيار المتعلم لمهنة من المهن وفقاً لميوله ورغباته وقدراته الفردية من ناحية ومعرفته المهنة المختارة من ناحية ثانية.

وبالرغم من ذلك التشابه إلا أن هناك بعض الاختلافات تظهر أن الأفراد الذين يتلقون برامج التربية المهنية هم في الواقع من يرغبون في التدريب على مهنة ما، كما تهتم التربية المهنية بإعداد المهندسين ومساعدي المهندسين والفنيين لمختلف الحرف. في حين أن التربية الحياتية تهتم ببناء الإدراك عند الأفراد حول عالم العمل، والفرص المتاحة، وبالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم كمواطنين، وأرباب أسر، ومستهلكين، كما تحرص التربية الحياتية على مساعدة الأفراد في كيفية قضاء وقت الفراغ، وفي اكتساب المهارات اللازمة في صنع القرارات.

إن هدف التربية الحياتية ليس العمل في الدرجة الأولى، بل تهيئة التلاميذ للحياة المعيشية باكتساب المعارف والمهارات والاتجاهات التي تساعدهم على القيام بأدوارهم الحياتية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015