أ. د. جعفر شيخ إدريس
نقل البابا عن الإمبراطور البيزنطي كلمته الفاجرة التي قال فيها لمن زعم أنه محاوره: «دلني على شيء جاء به محمد كان جديداً، ولن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بأن تنشر العقيدة التي جاء بها بالسيف. إن الله لا تسره الدماء، ولا تسره التصرفات غير العقلية» . فقلت سبحان الله! رمتني بدائها وانسلت. وهل عَهِدَ الناس أهل دين هم أبعد عن العقلانية وأكثر ولوغاً في الدماء وفي ظلم العباد من المنتسبين إلى ما يسمونه بالمسيحية؟
رددت على السخافات التي جاءت في محاضرة البابا كما رد عليها كثيرون غيري من المسلمين وغير المسلمين (?) ، وبينَّا أن الحروب التي خاضها المسلمون كانت حروباً ضد الظلم، الظلم بكل أنواعه، ظلم المعتدين على المسلمين، وظلم الصادين الناس عن الدين، وظلم الناقضين لعهود أبرموها مع المسلمين، ولم تكن أبداً لإدخال الإيمان كرهاً في قلب أحد من العالمين. وبينَّا أنهم لم يحاولوا ذلك؛ لأنهم علموا من دينهم أن الإيمان مسألة قلبية، وأنه لا مخلوق له سلطان على قلوب العباد.
لكننا في هذا المقال نود أن نقول للبابا: إنه كان يجدر به أن يتكلم عن العنف الذي استعمله قومه الغربيون على مر الزمان لإكراه الناس على قبول دينهم وثقافتهم. ولا نريد أن نفعل كما فعل هو حين استشهد على افترائه بشهادة رجل من بني دينه عدو حاقد مغلوب. لن نستشهد على زعمنا بشهادة رجال مسلمين، وإنما سنُشهِد عليه شهداء من غير المسلمين، فنقول:
أولاً: هذه هي المؤرِّخة الشهيرة (Karen صلى الله عليه وسلمrmstrong كيرن آرمسترونج) تكتب رداً على محاضرة البابا تبين فيها:
1 ـ إن زعم رجال الفاتيكان بأن غرض البابا هو «أن ينمي اتجاه احترام وحوار نحو الأديان والثقافات الأخرى، ومن البديهي نحو الإسلام» ليس أمراً واضحاً في كلماته، وتشبهه في هذا برجل دين مثله في القرن الثاني عشر وجَّه رسالة إلى المسلمين بدأها بقوله: «إنني أريد أن أواصلكم بالكلمات لا بالسلاح، وبالعقل لا بالعنف، بالحب لا بالبغض» . لكنه جعل عنوان رسالته «ملخص لهرطقة العرب الشيطانية كلها» . وتحدث فيها عن «قسوة الإسلام الحيوانية» وزعم أن محمداً وطَّد أمره بالسيف. «هل كان محمد نبياً حقاً» ؟ تساءل ثم أجاب «سأكون أسوأ من حمار إذا وافقت. أسوأ من الأنعام إذا أقررت» .
2 ـ تُنكِر المؤرخة أن يكون الإسلام قد انتشر بالسيف، وهي صاحبة كتاب بالإنجليزية عنوانه «موجز لتاريخ الإسلام» صلى الله عليه وسلم Short History of Islam. .
3 ـ وتذكِّر البابا «بأن بعض الصليبيين الأوائل بدؤوا رحلتهم إلى الأرض المقدسة بذبح كل الجماعات اليهودية الساكنة على ضفاف نهر الراين، وأنهم أنهوا حربهم الصليبية في عام 1099 بعد أن ذبحوا ثلاثين ألف مسلم ويهودي في القدس» .
ثانياً: كتب رئيس حركة السلام الإسرائيلية يوري أفنيري (?) Uri صلى الله عليه وسلمvnery ـ الذي وصف نفسه بأنه يهودي ملحد ـ رداً علمياً على البابا ذكر فيه من بين ما ذكر المسائل التالية:
1 ـ أن الحوار المزعوم أمر مشكوك فيه، وأن الإمبراطور لم يذكر لنا اسم الرجل الذي حاوره.
2 ـ أن الإمبراطو عمانيويل الثاني الذي تولى الحكم في عام 1391 كان على رأس إمبراطورية تحتضر؛ إذ لم يبق لها من محافظاتها إلا القليل، وكان هذا القليل واقعاً تحت تهديد الأتراك.
3 ـ في يوم 29 من شهر مايو عام 1453 وبعد عدة سنين من موت هذا الإمبراطور سقطت عاصمته، القسطنطينية (إسطنبول) في يد الأتراك.
4 ـ إبان حكمه تجول هذا الإمبراطور في أوروبا محاولاً أن يقنع الأوروبيين بمساعدته ضد الأتراك، وأن يبدؤوا حرباً صليبية جديدة، واعداً إياهم بأنه سيوحد الكنيسة. وأن هذه الرسالة كتبت في هذا الوقت لأسباب سياسية.
5 ـ محاضرة البابا بندكت السادس عشر كانت أيضاً خدمة للإمبراطور الجديد جورج بوش الذي يسعى لتوحيد العالم النصراني ضد محور الشر الذي هو في غالبه مسلم، وضد مجيء الأتراك إلى أوروبا.
6 ـ إن قضية معاملة المسلمين لأهل الأديان الأخرى يجب أن يحكم عليها بسؤال بسيط: ماذا فعلوا بهم عندما كانت لهم القدرة على إكراههم على الإسلام؟ إنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا. لقد حكم المسلمون اليونان لعدة قرون؛ فهل صار اليونانيون مسلمين؟ لقد تبوأ اليونان النصارى مناصب كبيرة في الإدارة التركية. لقد عاش البلغاريون والصرب والرومانيون والهنغاريون وغيرهم من الأمم الأوروبية تحت الحكم التركي في وقت أو آخر لكن أحداً لم يكرههم على الدخول في الإسلام، فظلوا على دينهم النصراني.
7 ـ في عام 1099 تغلب الصليبيون على القدس وذبحوا سكانها من المسلمين والنصارى؛ في ذلك الوقت ـ وبعد 400 عام من الحكم الإسلامي كان النصارى ما زالوا أغلبية في القطر.
8 ـ ليس هنالك من دليل ألبتة على فرض الإسلام على اليهود. وكما هو معروف؛ فإن اليهود تمتعوا تحت الحكم الإسلامي في أسبانيا بازدهار ليس له مثيل إلا في ما يقارب هذه الأيام. كانوا كُتَّاباً وشعراء ووزراء وعلماء. لقد كان ذاك هو عهدهم الذهبي؛ فكيف يمكن لهذا أن يحدث إذا كان النبي قد أمر بنشر الإسلام بالسيف؟
9 ـ عندما استولى الكاثوليك على أسبانيا مرة أخرى فإنهم أنشؤوا عهداً من الرعب الديني؛ إذ إنهم خيَّروا المسلمين واليهود بين أن يتنصَّروا أو يُذبحوا أو يغادروا البلاد. أين ذهب اليهود الذين فضلوا البقاء على دينهم؟ هاجروا إلى العالم الإسلامي، وانتشروا فيه من دولة المغرب في الغرب إلى العراق في الشرق، إلى بلغاريا (التي كانت تابعة لتركيا) في الشمال، إلى السودان في الجنوب.
10 ـ إن كل يهودي مخلص يعرف تاريخ قومه لا يملك إلا أن يشعر بالعرفان العميق للإسلام الذي حمى اليهود لمدة خمسين جيلاً، بينما كان العالم المسيحي يعذبهم ويحاول إكراههم بالسيف على التخلي عن دينهم.
ثالثاً: إن استعمال النصارى للعنف في فرض ثقافتهم على غيرهم لم ينته بنهاية القرون الوسطى، وإنما هو أمر مستمر إلى يومنا هذا. استمع إلى (هنتنجتون) وهو يقول في كتابه الشهير (صراع الحضارات) وفي صراحة عجيبة:
«لم يتغلب الغرب على العالم بتفوق في أفكاره أو قِيَمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً» (?) .
رابعاً: إن غزو الغرب للعالم باستعمال ذلك العنف المنظم كان أمراً تواطأ عليه كل الناس في الغرب إلا ما ندر؛ فها هو الأستاذ (إدوارد سعيد) يحدثنا في كتابه (الاستعمار الثقافي Cultural Imperialism) أنه كان أمراً تواطأ عليه السياسيون والمفكرون والفلاسفة والشعراء وكُتَّاب القصص الشهيرة من أمثال ديكنز وغيرهم.
أقول، ونحن كثيراً ما ننسى أمراً يؤيد كلام (إدوارد سعيد) هذا: إن الحركة الإمبريالية الاحتلالية للعالم كانت بقرارات ديمقراطية في كل البلاد الأوروبية، وأن حركة استجلاب الأفارقة من بلادهم واسترقاقهم كانت أيضاً بقرارات ديمقراطية (بينما لم يكن تحريرهم بقرار ديمقراطي كما يحدثنا فريد زكريا في كتابه عن مستقبل الحرية) مما يعني أن غالبية ممثلى الأمة بمن فيهم المتدينون كانوا مؤيدين لها.
خامسا: وهذا (كيفن فيليبسKevin Philips) يصدر كتاباً جديدا يسميه (أمريكا الثيوقراطية) (?) يذكر فيه حقائق مذهلة عن العلاقة القوية بين الدين وسياسة أمريكا الخارجية، بل والتأثير الكبير للدين على سياسة أوروبا طوال القرون.
من هذه الحقائق:
1 ـ أن الاستعمار الأوروبي للعالم ولا سيما العالم الإسلامي كانت له دوافع أو مسوغات دينية، بل كانت هنالك روابط قوية بين التوسع الإمبراطوري وبين الدعاة الدينيين «انظر إلى المبشرين الذين صارت أسماؤهم رموزاً للاستعمار: (ديفيد لفنجستون) المستكشف، (الجنرال غردون) الذي ذُبح في الخرطوم، والجنرال هنري هيفلوك» (ص. 255) .
2 ـ ينقل الكاتب عن المؤرخ آرثر ماروك قوله: «إن كبار رجال الكنيسة أقدموا بحماس على (الحرب المقدسة) » وقوله: نقلاً عن قسيس كاتدرائية سنت جايلز بأدنبرة قوله: «إن الكنيسة قد صارت إلى حد مؤسف أداة في يد الدولة، وأنه في كثير من المنابر الكنسية كان الواعظ قد تقمص مهمة الرقيب العسكري المكلف بالتجنيد، وأن العلم البريطاني ارتفع على كل أماكن العبادة في طول البلاد وعرضها» . (ص255) .
3 ـ أما الدوافع الدينية لبوش وجماعته في سياستهم الخارجية بل والداخلية فأمر لا شك فيه كما يبين الكاتب. فهو يقول إنه ثبت عن بوش قوله: «أعتقد أن الله يتكلم بوساطتي، ولولا ذلك لما استطعت أن أؤدي مهمتي» . وينقل عن توم دي لاي قوله: «إن الله يستعملني دائماً وفي كل مكان للدفاع عن نظرة الكتاب المقدس العالمية في كل ما أفعل وحيثما كنت. إنه هو الذي يدربني» .
4 ـ قبيل الهجوم الأمريكي على العراق في عام 2003 كتبت مجلة نيوزويك مقالاً عن رحلة بوش من العربدة إلى التدين، ذكرت فيه أن الرئيس ينغمس كل صباح في قراءة مواعظ تبشيرية للواعظ الأسكتلندي المتجول أوزولد شيمبرز الذي كان قد قضى أيامه الأخيرة في وعظ الجنود الأستراليين والنيوزيلنديين الذين كانوا قد حشدوا في مصر في عام 1917 تمهيداً لغزو فلسطين والاستيلاء على القدس في يوم عيد الميلاد.
5 ـ بعد عام من استيلاء الجيش الأمريكي على بغداد كانت هنالك ثلاثون منظمة تبشيرية، كما وجدت جريدة لوس أنجلس تايمز في استطلاع لها أخبرها فيه المدير الإداري لرابطة المبشرين القومية: «أن العراق سيكون المركز الذي تنتشر منه رسالة المسيح عيسى إلى إيران وليبيا وكل مكان في الشرق الأوسط» . وقال مسؤول في منظمة أخرى: إن الأحوال في العراق: «حرب من أجل الأرواح» . ولهذا فإنه في غضون سنتين انطلقت سبع منظمات تبشيرية في بغداد وحدها.
أقول: إن ما يحدث في العراق هو ديدن الحركة الإمبريالية منذ بداياتها، إن قواتها تكون دائماً هي الحامية للمنظمات التبشيرية. حدث هذا في السودان حين انتشرت المنظمات التبشيرية في الجنوب وكان من نتائج ذلك ما كان، وهي تنتشر الآن في دارفور.
وأقول: إذا لم يكن كل هذا نشراً للمسيحية بالسيف؛ فلست أدري ما معنى النشر بالسيف؟ لقد كنا نقلل من أهمية الدافع الديني في السياسة الخارجية الغربية، ونعتقد أن الأمر ـ كما يظهر ـ إنما هو مطامع اقتصادية ونزوات سياسية، لكن عزاءنا أنه هكذا كان يظن كثير من علماء السياسة ومنظروها من الغربيين أنفسهم كما يقول صاحب هذا الكتاب، حتى كان غلو بوش هو الذي نبههم إلى أن الأمر ليس كما كانوا يظنون، وأنه إذا كان بوش قد غلا في الأمر، فإنه ليس أول من بدأه، وإنما هو شيء درجت عليه السياسة الغربية ولا سيما فيما يتعلق بالعالم الإسلامي.
فماذا بعد أن انتبهنا وعرفنا الحقيقة؟