د. نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد: فقد أُصيب المضاربون في الأسهم بانهيارات متتابعة خلال الأسابيع الماضية؛ حيث هبطت أسعار كثير من الأسهم أكثر من ستين في المائة، ولا زالت في اضطراب. وقد سمعت وقرأت شيئاً مما أصاب الناس بسبب ذلك، من وفاة بعض المساهمين وجنون آخرين، وهلوسة آخرين، وأصبح هذا الهم هو حديث الناس في مجالسهم، فأحببت أن أواسي إخواني بشيء مما جاء في فضيلة الصبر، وحرمة الجزع والسخط، فأقول مستعيناً بالله ـ تعالى ـ:
أولاً: لا يخفى على الجميع أن جملة من الأسهم المتداولة هي محرمة شرعاً باتفاق العلماء؛ كأسهم البنوك الربوية، ومع ذلك فإنك ترى من يتداولها بيعاً وشراءً، ولا شك أن هذا من السُّحت الذي تُمحق بسببه البركة، قال ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] ، فهذا المرابي خسر ماله في الدنيا وبقي حسابه يوم القيامة إن لم يتب من ذلك. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] ، ولعل ما حدث يكون درساً لهؤلاء وباباً للتوبة. فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما ظَهَر في قومٍ الرِّبا والزِّنى إلا أحَلُّوا بأنفسهم عِقاب الله عزّ وجلّ» (?) . فهذا الذي حدث عقوبة للمرابين، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وابتلاء لغيرهم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] .
ثانياً: لعل من أسباب الانهيار امتناع جملة من المساهمين من إخراج زكاة الأسهم، متعذرين بأسباب واهية كعدم وجود السيولة لديهم؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته» (?) . وقال ـ تعالى ـ ذاكراً عقوبة من منع المساكين حقهم: {إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إنَّا إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33] ؛ فإن قيل: فهناك المزكون وغير المرابين في السوق وقد شملتهم الخسارة؟ أقول: أذكرهم بحديث أم المؤمنين زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: «قلت: يا رسول الله، أنهلكُ وفينا الصالحُون؟ قال: نعم! إذا كثُر الخبثُ» (?) .
ولعل من أهم ما ينبغي فعله عند هذا الابتلاء:
أولاً: الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ وتذكر أحكامه، والعمل بها. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] .
ثانياً: الصبر؛ وهو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش (?) . والصبر: هو الأساس الأكبر لكل خلق جميل، والتنزه من كل خلق رذيل، وهو حبس النفس على ما تكره وعلى خلاف مرادها؛ طلباً لرضى الله وثوابه (?) .
وهو عبادة غفل عنها الكثير؛ لذا لا بد منه، واستحضار الأجر العظيم والثواب الكبير الذي أعده الله ـ تعالى ـ للصابرين، ومن ذلك:
1 ـ محبة الله ـ تعالى ـ لهم. قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] ، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (?) .
2 ـ إن الصبر سبب لرفع الدرجات وتكفير السيئات. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، قال سليمان بن القاسم: كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر (?) .
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته؛ كما تحط الشجرة ورقها» (?) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس من مؤمنِ يُصيبه نكْبةُ شوكة ولا وجع إلاَّ رفع الله ـ عزّ وجلّ ـ له بها درجةً، وحطَّ بها عنه خطيئةً» (?) .
والصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسلِ (?)
3 ـ أنه ـ سبحانه ـ جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور. أي: مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلِّها وأشرفها، فقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] .
وقال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] .
4 ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إنه ـ تعالى ـ جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم. قال ـ تعالى ـ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] ، وقال بعض السلف وقد عُزِّي على مصيبة نالته فقال: ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها؟!» (?) ا. هـ.
صابر الصبرَ فاستغاث به الصبرُ فصاح المحب بالصبر: صبرا
وقيل أيضاً:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمرّ من الصبرِ
5 ـ أنه ـ سبحانه ـ جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به. قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] ، فمن لا صبر له لا عون له (?) .
ثالثاً: أنْ نعلم أنَّ الله ـ تعالى ـ هو المعطي وهو المانع، بيده ملكوت كل شيء. قال ـ تعالى ـ: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، كلُّكم جائع إلا من أطعمتهُ؛ فاستطعموني أُطعِمكمْ، يا عبادي، كلُكمْ عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسُكُم ... » إلى قوله: « ... يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي؛ إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر» (?) .
رابعاً: أن نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخشَ الفقر علينا. فعن عمرو بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف، فتعرضوا له، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهُم، ثمَّ قال: «أظُنُّكم سمعتُم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمَّلوا ما يسُرُّكُمْ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم؛ ولكني أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككُمْ كما أهْلكتْهُم» (?) .
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر؟
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللوحش في الصحراء والحوت في البحرِ (?)
خامساً: سوق الأسهم من أكثر الأسواق صدمات:
فيومٌ علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وقال أبو الأسود:
وإن امرءاً قد جرب الدهر لم يخف تقلب عصريه؛ لغيرُ لبيب
وما الدهر والأيام إلا كما ترى رزيَّة مال أو فراق حبيب
وقيل:
إذ ما أتاك الدهر يوماً بنكبة فافرغ لها صبراً ووسع لها صدرا
فإن تصاريف الزمان عجيبة فيوماً ترى يسراً ويوماً ترى عسرا
قال محمود الوراق:
إني رأيت الصبر خير معوّل في النائبات لمن أراد معولا (?)
لذا لا بد أن يربي المشارك فيه نفسه، ويهيئها على تحمل الصدمات مع الاحتساب، ففي الحديث: «إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى» (?) .
والاسترجاع عند وقوع المصيبة من العبادات التي نسيها كثير من المساهمين. قال ـ تعالى ـ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] ، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها» ، فهذا إخبار الصادق المصدوق بأن من قال ذلك سيُعوضه الله خيراً مما فقد؛ لذا لابد من التزام ذلك والثقة به، مع عدم الاستعجال؛ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يستجاب لأحدِكُم ما لم يَعْجَلْ، يقول: دعوتُ فلم يُستْجب لي» (?) ، وهذا «يقتضي الإلحاح على الله في المسألة، وألّا ييأس الداعي من الإجابة، ولا يسأم الرغبة، فإنه يستجاب له، أو يكفر عنه من سيئاته، أو يدخر له» (?) ا. هـ. فالدعاء تجارة رابحة على كل حال.
وما مسني عسر ففوضت أمره إلى الملك الجبار إلا تيسرا (?)
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «متى مرن العبد نفسه على الصبر، ووطنها على تحمل المشاق والمصاعب، وجدَّ واجتهد في تكميل ذلك، صار عاقبته الفلاح والنجاح، وقلَّ من جَدَّ في أمر تَطَلَّبه، واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر» (?) ا. هـ.
صبرنا له صبراً جميلاً، وإنما تفرج أبواب الكريهة بالصبر
سادساً: أن نعلم أن الصبر يحتاج إلى مجاهدة وتحمل، فهو لا يأتي بسهولة ويسر؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ومن يتصبر يُصبرهُ الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر» (?) .
فصبراً يا بني الأحرار صبراً فإن الدهر ذو سعة وضيق
وهذه سنة الله ـ تعالى ـ الكونية؛ في تغير أحوال الناس كتغير فصول العام، من غنى وفقر وصحة وسقم.
اصبر لدهر نال مننك فهكذا مضت الدهورُ
فرحٌ وحزنٌ تارةً لا الحزنُ دام ولا السرورُ (?)
السابع: لا بد أن نعلم أن من أركان الإيمان: أن نؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره. قال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا غلام ـ أو يا غُليم ـ ألا أُعلِّمُك كلمات ينفعُك الله بهنَّ؟» فقلت: بلى. فقال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلىه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، فلو أن الخلق كُلَّهُمْ جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيء لم يكْتُبْهُ الله عليك لم يقْدِروا عليه، وإن أرادوا أنْ يضرُّوك بشيء لم يكتُبه الله عليك لم يقدِروا عليه، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرْب، وأن مع العسر يُسراً» (?) .
لذا ذكر العلماء أن أنواع الصبر ثلاثة:
صبرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبرٌ على امتحان الله (?) .
«ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان: لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. فالإيمان بالقدر، والرضا بما قدره الله من المصائب، والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان» (?) ا. هـ.
هوِّن عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيُّها ولا قاصر عنك مأمورها (?)
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إنه ـ سبحانه ـ قَرَنَ الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها، فقرنه بالصلاة؛ كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] ، وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً؛ كقوله: {إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] ، وجعله قرين التقوى؛ كقوله: {إنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] ، وجعله قرين الشكر؛ كقوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] ، وجعله قرين الحق؛ كقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] ، وجعله قرين الرحمة؛ كقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] ، وجعله قرين اليقين؛ كقوله: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، وجعله قرين الصدق؛ كقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: 35] ، وجعله سبب محبته ومعيّته ونصره وعونه وحسن جزائه؛ ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً» (?) ا. هـ.
فقد ذكره الله ـ تعالى ـ في مواضع كثيرة قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ: «ذكر الله ـ سبحانه ـ الصبر في القرآن في تسعين موضعاً» (?) ا. هـ.
قال الأبشيهي: «فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأمنى المواهب، لما أمر الله ـ تعالى ـ به رسله ذوي الحزم، وسمّاهم بسبب صبرهم أولي العزم، وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم وسؤالهم، ومَنَحَهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم، فما أسعد من اهتدى بهداهم واقتدى بهم، وإن قصر عن مداهم! وقيل: العسر يعقبه اليسر، والشدة يعقبها الرخاء، والتعب يعقبه الراحة والضيق» (?) ا. هـ.
الثامن: أنْ نعلم أن بعد العسر يسراً. قال ـ تعالى ـ: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود بإسناد جيد من طريق قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشَّر أصحابه بهذه الآية فقال: «لن يغلب عسر يسرين إن شاء الله» (?) .
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه» (?) .
إذا ضاقت بك الدنيا ففكر في «ألم نشرح»
فعسر بين يسرين متى تذكرهما تفرح
وقيل:
أيها البائس صبراً إن بعد العسر يسراً
وقيل:
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير
وقيل:
فكم من رجل رأيناه باكيا فما دارت الأيام حتى تبسّما
وهذه ليست بأول شدة تمرُّ على البلاد أو العباد، بل قد مرَّ عليها غير ذلك وكشفها الرحمن الرحيم.
هي شدةٌ يأتي الرخاء عقيبها وأسى يبشر بالسرور العاجل
وقيل:
وكل شديدة نزلت بقوم سيأتي بعد شدتها الرخاء
وقيل:
اصبر لأحداث الزمان فإنما فرج الشدائد مثل حلِّ عقال
وقيل:
بالصبر تدرك ما ترجوه من أمل فاصبر فلا ضيق إلا بعده فرج
وقيل:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ومن ليس في كل الأمور له كفو
لئن كان بدء الصبر مراً مذاقه لقد يجتني من بعده الثمر الحلو (?)
التاسع: أنه عند حلول المصائب انظر إلى من مصيبته أعظم من مصيبتك، وخسارته أكثر من خسارتك؛ فسيهوِّن ذلك عليك.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ِ-صلى الله عليه وسلم-: «انظُرُوا إلى من أسفل منكم، ولا تنظُرُوا إلى من هو فوقكُم، فهو أجدر ألاّ تزدروا نعمة الله» (?) .
بنا فوق ما تشكو، فصبراً لعلنا نرى فرجاً يشفي السقام قريبا
أما الجزع عند المصائب فهو من المحرمات. عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منَّا من لطم الخُدُود، وشق الجُيُوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (?) ، «وكل هذا حرام باتفاق العلماء» (?) .
للبكاء النساءُ عند الرزايا ولحسن العزاء الرجالُ
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (?) .
قال ـ تعالى ـ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .
ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله عند الإله، وأنجاه من الجزع!
من شدَّ بالصبر كفاً عند مؤلمه ألوت يداه بحبل غير منقطع (?)
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها» (?) .
وجاء في الحديث «ولا يحبط جزعُك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئاً ولا يدفع حزناً، وما هو نازل فكان قد» (?) .
ضجرُ الفتى في الحادثات مذمَّة والصبر أحسن بالرجال وأليق
قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: «ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة» (?) ا. هـ.
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت مأثوم» (?) ا. هـ.
واصبر، ففي الصبر خير لو علمت به لكنت باركت شكراً صاحبَ النعم
واعلم بأنك إن لم تصطبر كرماً صبرت قهراً على ما خُط بالقلم
قال يحيى بن زياد ـ رحمه الله تعالى ـ: «أما بعد: فإن المصيبة واحدة إن صبرتَ، ومصائب إن لم تصبر» (?) ا. هـ.
وقال ابن السماك ـ رحمه الله تعالى ـ: «عليكم بتقوى الله والصبر؛ فإن المصيبة واحدة إن صبر لها أهلها، وهي اثنتان إن جزعوا» (?) ا. هـ.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأُمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب، فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره، والجزع والتسخط والتشكي يزيد في المصيبة ويذهب الأجر» (?) ا. هـ.
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن العبد لا بد أن يُصاب بشيء من الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهو بين أمرين: إما أن يجزع ويضعف صبره، فيفوته الخير والثواب، ويستحق على ذلك العقاب، ومصيبته لم تقلع ولم تخف، بل الجزع يزيدها؛ وإما أن يصبر، فيحظى بثوابها. والصبر لا يقوم إلا على الإيمان، وأما الصبر الذي لا يقوم على الإيمان كالتجلد ونحوه، فما أقل فائدته، وما أسرع ما يعقبه الجزع! فالمؤمنون أعظم الناس صبراً ويقيناً وثباتاً في مواضع الشدة» (?) ا. هـ.
لا تيأسن إذا ضقت من فرج يأتي به الله في الروحات والدلج
وإن تضايق باب عنك مرتتج فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
فما تجرع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه الله بالفرج (?)
ومهما يكن فإنه مع كل ما حدث، وزَعْمِ أكثر المساهمين أنه قد أخطأ في دخول سوق الأسهم، وأنه يتمنى الخروج منه برأس المال، مع ذلك كله وكثرة مرددي ذلك؛ إلا أني أجزم بأن السوق لو ارتد لعادوا إليه، ونسوا كل ما حدث: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] .
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يفرج هم المهمومين، وينفس كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، إنه جواد كريم، والله ـ تعالى ـ أعلم وأعظم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.