مجله البيان (صفحة 5759)

حتى لا يكثر المتجرئون على الفتيا!

فيصل بن علي البعداني

دخل رجل على فقيه المدينة ومفتيها ربيعة الرأي ـ رحمه الله تعالى ـ فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، بعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السُّرَّاق (?) .

وما ذاك منه ـ رحمه الله تعالى ـ إلا لأن الفتيا عظيمة الخطر، كبيرة الموقع، جليلة المنزلة؛ إذ هي توقيع عن الله ـ تعالى ـ ووقوف بين الله ـ تعالى ـ وخلقه. وقد جاءت النصوص والآثار محذرة من الإقدام عليها قبل امتلاك أدواتها، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وقال ـ عزّ وجلّ ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (?) . وعن حِبْر الأمة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «من أفتى بفتيا يُعَمَّى عليها فإثمها عليه» (?) .

ولهذا الترهيب الشديد وَجِل من الفتيا الأئمة وخاف منها السلف، وأقوالهم المنبهة على ذلك أكثر من أن تحصى. يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون» (?) ، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مثله (?) . وعن البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا» (?) ، وقال ابن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسْألُ أحدُهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول» (?) . وقال عطاء: «أدركت أقواماً يُسْألُ أحدُهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد» (?) ، وقال سفيان: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا» (?) ، وقال مالك: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك» (?) ، وقال أبو إسحاق السبيعي: «كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يُدفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب؛ كراهيةً للفتيا» (?) . وكان سعيد بن المسيب «لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني» (?) . ويزيد العلاَّمة ابن القيم الأمر إيضاحاً فيقول: «كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى» (?) .

ومن أجل أن لا يتصدر للفتوى كل أحد وضع العلماء شروطاً لا بد من توافرها في المتصدر للفتيا من أبرزها: العدالة، والاجتهاد. قال النووي: «واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين» (?) . وقال أبو يعلى: «من لم يكن من أهل الاجتهاد لم يجز له أن يفتي ولا يقضي، ولا خلاف في اعتبار الاجتهاد فيهما عندنا» (?) . والمتأمل في واقع الصحوة المباركة اليوم يلحظ حدوث تطاول متكرر على مقام الفتوى من بعض أبنائها، قد يصل بالأمر من كثرته إلى درجة المشكلة، وليس هذا مقصوراً على صغار أبناء الدعوة، بل إن ممن خاض في ذلك شخصيات مشهورة تزعم نفسها أمام الملأ أنها من قيادات الصحوة وكبار دعاتها وإدارييها، وصدق فيهم قول أبي الحصين الأسدي: «إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر» (?) .

وهو أمر محزن، يزيد من شدته ومرارته إدراك أن الفتوى لا تجوز بالتقليد؛ فكيف تجوز بمحض الجهل؟ (?) . وبمقارنة حال هؤلاء بمثل حال الأئمة يظهر الفرق؛ فهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ سئل عن مسألة فقال: لا علم لي، ثم قال: «وَابَرْدَها على الكبد! سُئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم» (?) ، وهذا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] » (?) و «جاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء، فقال: لا علم لي بها، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نِعْمَ ما قال ابن عمر، سئل عَمّا لا يعلم فقال: لا أعلم» (?) . وهذا فقيه المدينة القاسم بن محمد يقول: «لأن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يفتي بما لا يعلم» (?) . وهذا شيخ الإسلام ابن سيرين «كان إذا سئل عن شيء من الفقه: الحلال والحرام، تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان» (?) . وهذا أبو حنيفة النعمان يقول: «من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه» (?) ، وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس ـ رحمه الله تعالى ـ كان ربما يُسأَل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها (?) ، وكان يقول: «من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها» (?) ، «وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يُسأَل عنه يوم القيامة» (?) . وقال أبو داود: «ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول: لا أدري» (?) .

وكل ما يُخشَى منه أن يكثر المتجرئون على الفتيا (?) ، وأن تزداد أصواتهم ارتفاعاً، وحركتهم انتشاراً، فيسدلوا الستار على أهل العلم والاختصاص، فيحولوا بينهم وبين كثير من خواص الأمة فضلاً عن عامتها، وبخاصة أن كثيراً من هؤلاء الجسورين على الفتوى لا يعرف أنه جاهل، ولا يدرك أن قيمة المرء ما يحسن، ولذا فقد أخذ يتحدث في كل شيء بدءاً بأصول الشريعة ومقاصدها، ومروراً بنوازل الأمة وقضاياها الكبرى، وانتهاء بأقسام المياه وأحكامها، ورحم الله ـ تعالى ـ أيوب السختياني حين قال: «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً باختلاف العلماء، وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء» (?) . وكل ما يُخشى منه أن يأتي اليوم الذي يكون فيه المتصدرون للفتوى - ممن لم يبلغ مرتبتها - أكثر من طالبيها.

حقاً إن استفحال هذه الظاهرة أمر يستدعي من العلماء والمربين سرعة المعالجة حتى لا يكون ذلك بوابة لفُشُوِّ أمراض أكثر خطورة، مثل: ضعف الخشية، والإعجاب بالنفس، وعدم احترام العلماء وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله ـ تعالى ـ إياها، وفشو ظاهرة التعالم، والجرأة على النص، والخروج عن فهم السلف وطريقتهم في العلم والعمل والدعوة، وإضلال الناس، وتعلقهم في مسائل الشريعة برؤوس جهال ... ونحو ذلك من الأدواء الفتاكة. ولله در علماء السلف الصالح الذين كانوا ينكرون على العُبَّاد إقدامهم على الفتوى مع معرفتهم بكثير من العلم؛ لأنهم لم يجمعوا شروط الفتوى؛ فكيف لو رأوا في أيامنا هذه تخبيط بعض أبناء الصحوة وجرأتهم على اقتحام بوابة الفتوى دون رسوخ في العلم فضلاً عن قلة التعبد.

ولعل من أبرز ما يعين على معالجة هذا الأمر: أن يقوم العلماء بدورهم في سد الفراغ الذي تحتاجه الأمة، والذي لولا التقصير فيه لما لجأ أفراد من الأمة إلى استفتاء هؤلاء؛ لأنه - كما قيل -: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

ومما يعين أيضاً: جدية الدعاة والمربين في نشر العلم الشرعي في أوساط أبناء الصحوة وفق سلم علمي معتبر؛ لأن المرء كلما ازداد معرفة كلما عظم إدراكه لجهله وأنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً. ومما يعين أيضاً: التعريف بأهل العلم وبطرائقهم في التعلم والتعليم والعمل؛ لكي ينغرس إجلالهم في نفوس أبناء الصحوة، فيهابوا العلم، ويُنزلوا العلماء المنزلة التي أنزلهم الله ـ تعالى ـ إياها.

اللهم قِنَا الضلال والفتنة، ولا تجعلنا من رؤوس الجهالة، الذين يأتون الناس بالعجائب، ويفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون، بجود منك وإحسان يا رحمن يا رحيم! وصلى الله وسلم على النبي الكريم، وعلى الآل والأصحاب أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015