أحمد حسن محمد (*)
من سنن الله ـ سبحانه ـ أن تكون هذه الدنيا حلبة صراع بين خلق الله جميعاً، يكون الحق في جانب والباطل في جانب آخر، إنه صراع الخير والشر، بين المعروف الذي تستقيم عليه فطرة البشرية الراشدة، وبين المنكر الذي تأباه النفس الإنسانية الطاهرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} [البقرة: 36] .
وقضية الإيمان في كل وقت وزمن إنما تدور حول هذا المفهوم لتحمي الإنسان صاحب التقوى من أن يكون في جانب الباطل أو الشر أو داعياً لمنكر. ومن رحمة الله بعباده أنه دلّهم على المعالم السلوكية التي تقودهم نحو جانب الحق والخير والمعروف عندما تحتدم مواقف الصراع، وتتشابك المواقف ويظهر العداء واضحاً أمام أهل الصلاح وجماعة الإيمان.. وقد بيّن لنا القرآن الكريم كيف يواجه المؤمن مواقف العداء والاعتداء، كما أوضح لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النموذج العملي لهذه المواقف، من خلال سيرته الطاهرة وهديه الراشد. وما دام الصراع والعداء لأهل الدين وحملة الدعوة إلى الله أمراً واقعاً؛ فإن التمسك بما جاء في الكتاب والسنة أمر لازم لتحقق الصبر والفلاح، ثم النصر والغلبة بإذن الله تعالى؛ حيث الابتلاء اختبار وامتحان للعبد الصالح. قال ـ تعالى ـ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] .
ويوم يواجه المسلم الصادق مثل هذه المواقف فإن عليه أن يعيد الموازين إلى مواقعها الصحيحة مسترشداً بهدي الله وسنة نبيه الكريم، والتي منها:
أولاً: إحسان العودة الخالصة إلى الله والتوبة الصادقة واللجوء إليه ـ سبحانه ـ والاجتهاد بالدعاء والتوسل والإنابة؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو المؤيد بوحي الله عندما يواجه الأعداء وتتخلى عنه أسباب الدنيا، يستحضر ثقته بربه؛ فيوم أن تنكّر له الناس ولم يجد الجوار من أحد منهم وقابلوه بتحريض سفائهم وصبيانهم عليه، ركن إلى الله ـ تعالى ـ ودعاه: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس..» (?) . وعلّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن نلجأ إلى الله بالدعاء من شر الأعداء: «اللهم اكفنيهم» (?) ، وقد كان هذا هو هدي أنبياء الله من قبلُ؛ فقد توجه نوح ـ عليه السلام ـ إلى ربه داعياً على أهل الكفر عندما تمادوا في العداء والنكران والسخرية من نبي الله: {وَنُوحًا إذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 76 - 77] ، فكان أمر الله بتأييده.
ثانياً: الثبات وطلب القوة والعزة والنصر من الله، حيث إن المؤمن لا يسعى للعداء ولا يتمناه؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموه فاصبروا» (?) . أما إذا كان الأمر لا محالة؛ فلا ينهزمْ أمام أعدائه، ولا يخفهم، بل عليه إذا ما وقع الصدام وظهر العدو بغدره وحقده أن تكون المواجهة لا الفرار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 - 16] . وثبات المؤمن أمام أعدائه إما أن يكون طريقاً إلى النصر والغلبة، أو طريقاً إلى رضوان الله ومثوبته، وكلاهما نصر وفوز ـ بإذن الله ـ طالما أن المسلم ملتزم بأدب الإسلام وهدي وأحكام شرع الله عز وجل.
ثالثاً: التزام خُلُق الصبر، وهو من أخلاق الإيمان المنجية: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ، وكان هذا دأب فئة الإيمان وجند الله المخلصين؛ حيث وصفهم الله بالصبر، وبه كانت معية الله لهم ... {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ، ومن هنا كان أمر الله للمرابطين في سبيله والمجاهدين من أجل رفع كلمة الحق والدِّين أن يلزموا الصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، وهكذا كان دعاء جند طالوت ربَّهم أن يزوّدهم بالصبر: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] .
وأمة الإسلام اليوم ـ أفراداً وجماعات ودولاً ـ تواجه أعداء كُثُراً يسعون للنيل من دينهم والظهور على أممهم وشعوبهم والنيل من وحدتهم؛ بإشاعة الفرقة بينهم، مستخدمين كافة الوسائل المادية والفكرية والمعنوية؛ وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فقد تجمع أهل الكفر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى: {زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] ، فكان السبيل للخلاص هو اللجوءَ إلى الله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ، ودعاءه والتزام مواقف الثبات والمقاومة الإيمانية بما يسّره الله لهم من أسباب الطبيعة: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11] ، وما يسره ـ سبحانه ـ من أسباب السماء: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] . كما كان الصبر سلاحاً احتمى به أهل الإيمان وأصحاب الدعوة الراشدة استجابة لنصيحة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «صبراً يا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة» (?) ، فالصبرُ من بعدُ مجلبةٌ لتأييد الله عباده، ومجلبة لمدد لهم: {بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .
إن أمة الإسلام اليوم أشد ما تكون حاجة إلى هذا الأدب القرآني والهدي النبوي الراشد وهي تعيش فترة عصيبة من تاريخها، ولا سبيل لها إلا العودة إلى ربها والتمسك بوحدتها تحت مظلّة شريعتها الهادية ومحاربة كل أسباب الفرقة والشتات والنزاع: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، ولقد عاتب القرآن الكريم صحابة رسول -صلى الله عليه وسلم- ـ وهم أكرم منا وأفضل ـ عندما رغب بعضهم في أسلاب الدنيا يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] ، يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذٍ» (?) .
بهذه الصفات الحميدة والسلوك الإيماني تتميز أمة الإسلام، وتكون لها قدرة المواجهة لأعداء الله؛ لأنها أمة تتعامل مع ربها وخالقها، وترجو رحمته وتخشى عذابه، فتختلف بذلك عن عصابات الكفر والإفساد في الأرض ممن لا همَّ لهم إلا الحياة الدنيا: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] . ويوم أن ينتصر الإيمان في قلب الأمة المسلمة، وتنحاز بكل قدراتها ومواردها انتصاراً لكلمة التوحيد وشهادة الإسلام يكون نصر الله لا محال؛ وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . ومن أسباب هذا النصر ومقوماته إفساح المجال واسعاً أمام أهل العلم الشرعي وأهل الرأي والمشورة وذوي الخبرة والتجربة؛ للاستفادة من آرائهم وتوجهاتهم، حتى تكون الأمة على رشد من أمرها، وتجمعها كلمة واحدة لا تتهددها الانفعالات العارضة أو المواقف أو ردود الأفعال المتسرعة والتي تقود المجتمع إلى بثّ الفرقة وضياع الثقة بين أفرادها وتهديد أمنها واستقرارها الذي هو منّة الله على عباده المخلصين: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، إنه وعد الله الذي وعد به عباده المؤمنين أن يبدّل خوفهم أمناً، ويمكّن لهم على أعدائهم وينصر دينهم، وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .