د. وليد الطبطبائي (*)
لا يوجد نظام تعليمي في العالم إلا وتعديل المناهج وتطويرها جزء أساسي من اهتماماته، وهذا التطوير والتعديل عملية مستمرة يقوم بها صائغو المناهج كلٌّ في اختصاصه، وحسب تطورات نظام التعليم وحاجات المجتمع، وما يستجد من معارف ومكتشفات ونظريات علمية وأحداث تاريخية.
وتطوير المناهج عملية أكاديمية بحتة يقوم بها المختصون في كل فرع من فروع التعليم ومواده، وهي عملية مستمرة واعتيادية، ولا ينبغي أن تلفت انتباه أحد، أو أن تكون حدثاً موسمياً أو طارئاً أو مستعجلاً، كما أنه ليس مستساغاً أن يكون تعديل المناهج استجابة لرغبة سياسية أو طغيإن أيديولوجي؛ فهذا لا يحدث إلا في دول الحكم الشمولي وفي ظل الأنظمة الشيوعية والفاشية والبعثية؛ حيث يقرر القادة السياسيون أو الزعماء الحزبيون ما يجب إن يتعلمه الشباب، وما ينبغي إن يؤمنوا به، والطريقة التي ينظرون بها إلى العالم.
إن المشكلة الأولى في ما أصبح يُعرَف في السنوات الأخيرة بـ «قضية تغيير المناهج» إن هذه القضية طُرحت من قِبَل الدوائر الغربية وخصوصاً الأمريكية ضمن تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ ولذلك صارت لها صبغة سياسية فاقعة؛ وإن حاول كثير من الليبراليين عندنا، في العالم العربي، إيجاد تبريرات ومسوغات أكاديمية وتربوية لها، ولا أدل على ذلك من أن أكثر التعديلات المقترحة تتعلق بمناهج التربية الإسلامية واللغة العربية والاجتماعيات، أي المواد الأكثر تعلقاً بهوية وثوابت المجتمعات العربية.
وزد على ذلك أن التعديل والتغيير في هذه المواد لا يهدفان إلى تحسين أسلوب تدريسهما بما يجعلهما أكثر جاذبية وسلاسة للطلبة ويبعد عنهما الجمود، بل التعديل للمواد يمس الأفكار والمبادئ الجوهرية؛ وكأن معدِّل أو منقِّح هذه المناهج لا يقوم بذلك وهو ممسك بقلم التربوي الخبير والأكاديمي المتخصص، بل يقوم به وهو ممسك بمبضع الجراح يريد أن يقتطع من اللحم، بل قل إنه ممسك بـ (ساطور) الجزار يريد كسر عظام وقطع أشلاء الثوابت الثقافية للأمة.
لقد أثار موضوع تغيير المناهج خوفاً وقلقاً واعتراض كثير من التربويين وخصوصاً الإسلاميين في العالم العربي بسبب توقيت طرحه والجهات التي نادت به، وكيف لا؛ وهم يرون الغرب بحكوماته وإعلامه وبمفكريه يمارسون كل هذا الخلط والتخبط في فهم علاقة الهجمات الإرهابية في نيويورك وواشنطن بالإسلام والمسلمين؟ وكيف لا نقلق والإدارة الأمريكية التي تنشئ مكاناً مثل «غوانتنامو» وتعتبر مقاومة الاحتلال الصهيوني إرهاباً، وتعاقب الفلسطينيين لممارستهم انتخابات حرة نزيهة هي التي تطالب بتغيير المناهج، وهي التي تحدد ما هو معتدل وما هو متطرف، وما هو مقبول أو مرفوض في ثقافة إسلامية عربية عمرها 1400 عام أو يزيد.
نعم! إننا نسمع من بعض الليبراليين عندنا أن مطالبتهم بتغيير المناهج لا علاقة لها بالمطالب الأمريكية، وأنهم يريدون تطوير المناهج؛ لأنها لم تُطَوَّر منذ زمن بعيد، وأن هناك مسوغات كثيرة لتغيير بعضها يتعلق بمخرجات التعليم وحاجات سوق العمل، وبعضها بحاجة للتبسيط والاختصار، ونحن لا نعترض على أي تغيير ينبع من رؤية أكاديمية وتربوية متخصصة؛ لكننا نسأل: ألم تكن هذا المسوغات للتغيير موجودة قبل 11 سبتمبر 2001؟ ولِمَ أصبح التغيير مُلِحّاً الآن؟ ولماذا حماستكم للتغيير تنصبُّ على التربية الإسلامية واللغة العربية والاجتماعيات دون غيرها من المناهج؟
إن قلقنا من شعار «تغيير المناهج» مشروع ومحق، وهناك جملة مؤشرات على عدم موضوعية أو أمانة بعض المطالبين بتغيير المناهج لما يلي:
(1) إن التغيير في الأساس فكرة غربية ـ أمريكية ناتجة عن أحداث معينة ورؤية معينة للعالم الاسلامي، ولأغراض سياسية معينة.
(2) إن قسماً مهماً من التغييرات التي يقترحونها تنصبُّ على فكرة التطبيع مع العدو الصهيوني وقبول الصلح معه، وتصنيف مقاومة الاحتلال إرهاباً. والحقيقة أن استهداف المناهج التي تعزز في نفوس الطلبة الموقفَ العقائدي في مواجهة العدو سبق أحداث 11 سبتمبر، وبرز عندنا في الكويت عام 1994 على يد وزير التربية السابق د. أحمد الربعي الذي حاول حذف بنود ومواد في منهج التربية الإسلامية تتعلق باليهود والصراع معهم بما في ذلك شطب عدد من الآيات الكريمة من المنهج.
(3) إن التغيير يتم بناء على ضغوط خارجية وخصوصاً من الولايات المتحدة ضمن ثقافة ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب» ، وهذه الضغوط الخارجية تعززها في كل بلد إسلامي ضغوط داخلية من العلمانيين المرتبطين بالغرب سياسياً أو ثقافياً.
(4) إن اتجاهات التغيير نابعة من فهم خاطئ أو ماكر لقضية الجهاد والعمل المسلَّح في الإسلام، وقد تم استغلال كل الممارسات الخاطئة المنسوبة إلى تنظيم «القاعدة» وحوادث العنف الموجه ضد الأبرياء من أجل تشويه وإبطال مفهوم الجهاد في الإسلام، وجَعْلِ كل مسلم يحمل السلاح في وجه الاحتلال والظلم سواء كان في فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو غيرها إرهابياً.
(5) إن اتجاهات التغيير تنحاز بقوة إلى العلمنة والثقافة الليبرالية الغربية وتجعلها معياراً للقيم الاجتماعية والاخلاقية وخصوصاً قضايا المرأة والأسرة.
(6) ولكونه ضمن ثقافة ما يسمونه «القبول بالآخر» يريد بعض الغربيين من المسلمين أن يقدموا تنازلات في العقيدة وفي ما حدده الإسلام من رؤية للديانات الأخرى وأسلوب التعامل مع غير المسلمين، ومع أن الاسلام أكد على قيم التسامح والتعايش السلمي ودعوة غير المسلمين بالموعظة الحسنة؛ إلا أن ما يريده الغربيون هو حذف أو تهميش ما نص عليه القرآن من آيات واضحة عن انحراف الأديان الاخرى عن العقيدة الصحيحة.
(7) ومما يقلقنا من فكرة تغيير المناهج أنها صارت مناسبة لكل من يريد النيْل من ثوابت الإسلام أو الطعن في قيمه، وسمعنا بعضهم يريد حذف مبادئ أساسية في عقيدة التوحيد ومفهوم البراءة من الشرك في مناهج التربية الإسلامية في الكويت بحجة أن هذه المبادئ «تكفيرية» .
(8) وصارت فكرة تغيير المناهج أيضاً فرصة لمن يريد الانقضاض على التاريخ الإسلامي والعبث به بحجة إعادة كتابته بطريقة علمية عصرية، وهؤلاء فريقان:
الأول: يريد تجريد تاريخنا من مشاهد البطولة والعزة.
والثاني: يريد اعادة تفسير التاريخ من منطلقات ظلامية سيئة النية.
إن كثرة المغرضين والمشبوهين الدائرين حول فكرة تغيير المناهج يجعلنا نقلق من أن الغرض من ذلك ليس موضوعياً، وإن ميل بعض الدول العربية لهذه الفكرة تحت ضغوط غربية معروفة يجعلنا أكثر تشككاً تجاهها؛ فتطوير المناهج لم يكن يستحق كل هذه الضجة لو كان أمراً أكاديمياً ينفذه المختصون؛ ولو أنه تم بهذه الصورة لكنا من المرحبين به، أما وقد اكتنفته كل تلك الشبهات فلنا الحق أن نتوقف في هذه المسألة، وأن نشدد الرقابة عليها.