أمين سليمان الستيتي
قراءة في مجموعة مسرحيات قصيرة للكاتب: محمد علي البدوي ـ يرحمه الله ـ المجموعة التي نشرتها البيان في سلسلة منشوراتها برقم (61) ، والتي قدم لها أ. د. حسين علي محمد، يلفت النظرَ فيها غلافٌ بلون الأرض الخصبة، والتي اكتسبت لونها من دماء الشهداء الذين شاركوا في فتحها، ورفع راية الإسلام فوقها، فخامرت حمرتها نفحات النور، ولفحت وجهها ومضات النار التي أسرعت بالشهداء إلى الجنة ـ فيما نحسب ـ والتي تبدو للناظر خلف تداخل أنوار اللهب مع لون التربة التي شكلت أعالي اللوحة. ولو جعلها زرقاء ممتزجة بسواد الأدخنة الليلية القسمات، والتي تختلط بدماء الأرض الطيبة، لترك خيالنا يسبح في ذاك الفضاء، عبر طموح إيماني جامع لتنسّم ريح الجنة.
ونقلب الصفحة الأولى لنرى الإهداء (إلى كل من بات وهمُّه أمر المسلمين، وهو منهم ... إليه بعض همومهم وواقعهم؛ فعسى أن تحرك حسّاً أو تبعث نفساً..) ص 4، فإذا كان هؤلاء القوم معه ويشعرون بما يعانيه، وقد يزيدون، فَلِمَ يهدي إليهم همومهم؟ أليس من الخير لو أهداها لغيرهم ممن لم يصلوا إلى مشاعر الهم والانتماء، عسى أن تحرك فيهم ما لم يحركه الواقع، ليكون الإهداء ( ... إلى كل من لم يبت همّه أمر المسلمين ... هو منهم ... ) ، أمثال على أحمد باكثير ـ رحمه الله ـ.
وقد بيَّن أ. د. حسين علي محمد أن الكاتب قد (نشر عدداً من النصوص في مجلتَيْ: الأدب الإسلامي والبيان ... وهو يسير على خطى الكُتّاب المنتمين لهذه الأمة، المدافعين عن قضاياها ... ) في قراءة مقتضبة، جعلها الكاتب تحت راية القبول والرضا، وضمّنها مقتطفات طويلة من المشاهد، تخللتها بعض التعليقات، في مثل قوله: (ولا يخفى على المتلقي أن النص يشير إلى رئيس دولة أمريكا ... وهذا يتضح في نقطة الصعود في النص) و (عن زمن القهر العراقي يقدم حكاية ـ أبو منقاش ـ التي يكون فيها في زمن مقاومة العدوان الأمريكي ـ يعني أبا منقاش ـ بطلاً يُسقط طائرة الأباتشي) ، ويختم قراءته بشهادته أن الكاتب ـ يرحمه الله ـ (يضع رجله على الطريق الشاق، طريق المسرح الصعب، حين نراه صوتاً من أصوات المنتمين إلى هذه الأمة، المقاومين لحظات التخاذل والسقوط) ص 12.
ولعل سماعي لبعض النقد الذي قدمه في بعض الندوات، هو الذي جعلني أضع قراءته هذه تحت هذه الراية؛ ذلك أنه لم يبين الجوانب الفنية التي اعتمدها الكاتب، أو أتقنها، وإلى أي مدى، ولا الهدف الذي حققه كل نص منها، ولا أين يمكن وضعها من أدب المسرح؛ فهل هي من المسرح الواقعي؟ ولماذا؟ وما أسس المسرح الواقعي الفنية؟
وهل استفاد منها الكاتب ـ يرحمه الله ـ أو أضاف إليها؟ أو أنقص؟ أم هي من المسرح المأساوي (التراجيدي) ؟ أم المسرح السعيد (الكوميدي) ؟ أم الطبعي (الرومانسي) ؟ وهل أتقن الكاتب الأسس الفنية للمشهد المسرحي من حيث الزمن والمكان، والشخصيات؟ أم أنه لم يتجاوز أن سجل حواراً تخيّله على خشبة المسرح، ورأى أنه يعبر عن الآلام التي تعيش في قلب كل مسلم مهتم واع في هذا العصر؟
لا شكَّ أن الأُوار هذه الأيام امتد ليشمل ساحة العراق؛ ولا لوم لمن يجعل كل حروفه تدور في هذا الفلك، لكن لا بدَّ من التنبيه فنياً على أنَّ الأدب المرتبط بالحدث ينتهي أثره بانتهائه. فإذا كان الكاتب ـ يرحمه الله ـ قد بحث عن الخلود لنصوصه الأدبية، فلا بد أنه كان ينبغي أن يربطها بأصول الأدب الخالدة، التي تجعله يمخر عباب العصور، وينأى بها عن الآنيَّة. فحيثما تمكَّن الكاتب من الارتقاء بالمعالجة الأدبية إلى مستوى الخلود؛ فإن أدبه يسمو، ويعبر عن أحاسيس إنسانية خالدة، يتفاعل معها المتلقي كمسلم من جهة، وكإنسان من جهة أخرى في أيِّ صقع كان.
والصراع الدائر في العالم هذه الأيام لا يخرج من دائرة الصراع الأبدي بين الحق والباطل، أو كما يعبر الأدباء بين الخير والشر. ولما دأب الشر على خلط الأوراق، صار من مهمات الأديب أن يعيد الفرز، ويعرض الصور الواضحة، من خلال التعبير الراقي، الذي ينقل للمتلقي الأحاسيس والمشاعر التي تدفعه نحو المواقف السليمة، وتجعله يتحسس برَّ الأمان بيديه وقلبه.
وكاتبنا ـ يرحمه الله ـ ما فتئ يصوغ تعبيرات هذه المجموعة بأسلوب حواري رشيق؛ لتكون مشاهد مسرحية، لكنه حملها بين أنفاس القصة الواقعية التي تحاول الرمزية، فجاءت رمزيته يسيرة قريبة المنال، تحمل أنَاتٍ كثيرةً من الوضع الذي يعيشه المسلمون، بل جعلها أحياناً صرخاتٍ عاليةً، لكنها لا تلقى مسامع تحتويها، أو تربت على كتفيها ... ووقف ـ يرحمه الله ـ ولو شاء ـ سبحانه وتعالى ـ له أن يثبِّت الأسهم الضوئية، التي تشير إلى الدواء الناجع، والطريق الذي لا رجعة عنه، ولا منه، لكانت شفافية الأدب تجلت في رؤيته عيْن الحقيقة، وصياغتها.
فعسى أن يورق هذا الأمل قريباً عند كُتّابنا الأحياء، ويزهر، فيثمروا لنا مجموعات مسرحية، معتمدين على هذه البدايات الطيبة، وتكون فيها الأسس الفنية متمكنة، ويظهر فيها حَذَقُهم المأمول في رسم الشخصيات وتنميتها، من خلال الحدث والحوار المسرحي السامي، القادر على عرض الموقف المطلوب، عبر الحبكة المركبة، أو المفردة، التي تقود إلى النهاية المبتغاة، والتي لا بد أن يجعلوها حلولاً سعيدة؛ ليأخذوا بيد أبناء الأمة إلى النصر، وينزعوا من قلوبهم عقدة الهزيمة العضال.
إن هذا ليس بعيداً عن كُتّابنا، بل أراهم يحومون في حومته؛ ففي المشهد الأخير والذي جعله محمد علي البدوي ـ يرحمه الله ـ تحت عنوان (الإمام) ، إذ كان الأمل في خاتمته مضيئاً بقوله:
(ابن سعود:.. أبشر.. أبشر يا إمام بالنصرة والمساعدة.
الإمام: وأنت أبشر بالعزة والتمكين والعاقبة الحميدة) .
ختم بها مشهده، بل ومجموعته كلها، وكأنه لخص أمل الأمة في كل مواقعها ومواقفها في (البشرى) ؛ ذلك أن أمر المؤمن كله خير: إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له.
على أن النضج في اختيار العنوان، والشخصيات، تيسرت للكاتب ـ يرحمه الله ـ في كثير من مشاهده، في مثل (نار القصاص) ، وقد فتح له هذا المشهد أبوابه كي ينمو بالشخصيات أكثر ليظهر الحق حقّاً، والباطل باطلاً، لا في أعين المسلمين وحسب، بل في أعين المشاهدين أيّاً كانت دياناتهم، ويجعل صورة السلطان المسلم العادل عدالةً قسماتها من شرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيرينا صورة الرشيد، أو المعتصم، أو حتى الحجاج الذي سيَّر الجيوش لنجدة امرأة مسلمة اعتدى عليها قراصنة الديبل، فسخر الله ـ سبحانه وتعالى ـ كل ذلك لتنضوي بعدها كل تلك الديار تحت راية الإسلام، وإلى يومنا هذا.
ومع كل ما يمكن أن يقوله النقاد؛ فقد كان كاتبنا حقاً ـ يرحمه الله ـ صوتاً من أصوات أبناء هذه الأمة، المقاومين في لحظات التخاذل والسقوط.
أسأل الله أن يجعل أعماله كلها في ميزان حسناته، وأن يبدل له بقيتها حسنات، ويجعله مع الشهداء الذين أحبهم، ودافع عنهم في حياته؛ فقد أفضى إلى ربه، ونسأل الله أن يجمعه بهم في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.