مجله البيان (صفحة 5601)

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في مرآة الإبداع والنقد

أ. د. محمد صالح الشنطي

لقد حظيت شخصية الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم- بعميق المحبة والتبجيل من الشعراء خاصة والأدباء عامة من المسلمين عرباً وأعاجم، ومن شريحة عريضة من غير المسلمين، وتعتبر المدائح النبوية مظهراً جلياً ناصعاً من مظاهر هذا الحب النبيل المتدفق، ولست بصدد الحديث المستقصي لما قيل في رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وحسبي هنا أن أشير إلى دراسة مهمة للباحث الدؤوب والناقد المعروف الدكتور «حلمي القاعود» تحت عنوان: «محمد -صلى الله عليه وسلم- في الشعر الحديث» ، تحدث في مقدّمته عن العديد من الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، وقد أومأ إلى ما حظيت به قصيدة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ من اهتمام عبر الدراسات المتعدّدة التي نشرت عنها، ثم ذكر جملة من الكتب التي تشرّف أصحابها بالحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعمّا قيل عنه وفيه من أعمال إبداعية ونقدية، منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي الحديث» ، وقد ركّز فيه في «ثلاثة فصول» على بردة «البوصيري» وبديعية «ابن حجة الحموي» و «مدائح ابن نباتة المصري» ، تحدث عن الجذور الصوفية والأسطورية لهذه النشأة، وما يمارس خلالها من طقوس وعادات مبتدعه.

وثمّة رسالة دكتوراه ضخمة أعدّها الدكتور «صلاح عيد» تتحدث عن المدائح النبوية حتى القرن السابع الهجري، وتناول الدكتور «أنور السنوسي» في أطروحته «المدائح النبوية في الأندلس» ، وأما الدكتور «الجيزاوي» فقد ألمح إلى ذلك في دراستين عن أصداء الدين في الشعر المصري الحديث والعامل الديني في الشعر المصري الحديث.

أما كتاب «محمد في الأدب الحديث» لـ «فاروق خورشيد» و «أحمد كمال زكي» فقد كان الاهتمام فيه متفرداً وخاصاً، على حد تعبير الدكتور «القاعود» .

وهناك العديد من الدراسات حول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، من أبرزها دراسة الدكتور «علي عشري زايد» (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر المعاصر) ، ودراسة الدكتور «ماهر حسن فهمي» (الرسول في الأدب الحديث) .

أما بحث الدكتور «القاعود» فكان شاملاً ومركزاً على مدى القرن الرابع عشر الهجري (1882م ـ 1980م) ، وهو القرن الذي شهد منعطفاً مهماً في الصراع مع قوى الاحتلال في العالم العربي والإسلامي، وبدأت فيه صحوة إسلامية تحاول استنهاض الهمم لمواجهة هذا المدّ العدائي العاتي حضارياً وعسكرياً.

والحقيقة أن هذه الدراسات جميعاً إن دلّت على شيء فإنما تدل على محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومكانته العظيمة في قلوب المسلمين عامة، ولكن لا بد من التنويه إلى أن بعض الدراسات التي تتّسم بشيء من العلمية أو التي لها طابع منهجي قد ظهرت في أربعينيات القرن الماضي الميلادي، لتواجه مدّاً إسلامياً زاخراً، أنشأته الحركات الدينية الإسلامية الناهضة، التي أرادت أن تنفض عن الأمة غبار الجهل والبدع والخمول في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفي مقدمتها حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم بعض الحركات الإسلامية الأخرى متباينة الملامح والسمات، ولقيت التفافاً شعبياً واسعاً، فكان أن عمدَ كبار الأدباء في تلك المرحلة إلى تأليف بعض الكتب عن شخصيات إسلامية مرموقة، وفي مقدمتها رسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأجلاء ـ رضوان الله عليهم ـ فكتب «العقاد» عبقرياته المعروفة، وعلى رأسها «عبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم-» ، وكتب «محمد حسين» هيكل في «منزل الوحي» ، وكتب «توفيق الحكيم» «محمد» ، ثم توالت الكتابات بعد ذلك لمفكرين وأدباء كُثر، أما الدراسات الأخرى فلا يمكن حصرها في هذه العجالة.

وقد كان من همّ بعض هذه الدراسات أن تستوعب ذلك المدّ الزاخر، وتثير بعض القضايا التي جرّت العديدين إلى مربع الجدل حولها، وهي دراسات تستوقف المؤرخ للحركة الثقافية الحديثة التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي.

وحتى لا نسترسل مع الدراسات والأبحاث فإنه يتحتّم علينا أن نستشرف آفاق محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من خلال النصوص التي عبّر فيها أصحابها عن تشوُّفِهم للطلعة البهيّة وحبهم لرسول البشرية عليه الصلاة والسلام، فها هو الشاعر «أحمد الشارف» في مطلع القرن الماضي (وهو شاعر ليبي مشهور من شعراء النصف الأول من القرن العشرين) يقول:

ولو لم يكن في القلب حبُّ محمدٍ لعمّت بك البلوى ودام الضّلالُ

نبي الهدى قد أوجب الله صدقه به الفرضُ فَرْضٌ والمحال محالُ

وقد منح المولى الكريم لذاته جمالاً غشته هيبة وجلالُ

وبعيداً عن شعر المتصوفة أصحاب نظرية النور المحمدي وما انطوت عليه من مبالغات بل مخالفة عقدية، وعن شعر بعض المذاهب الإسلامية المغالية، فإن صورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد احتفظت بصفائها ونقائها وتألُّقها؛ فإننا نجد الشعراء الذين ينتمون إلى مختلف المدارس الأدبية يمدحون بذكره عليه السلام، من الإحيائيين إلى الرومانسيين إلى شعراء القصيدة الحديثة، أما الإحيائيون فعلى رأسهم «أحمد شوقي» صاحب القصائد الشهيرة في مدح رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول:

وُلد الهدى فالكائناتُ ضياءُ وفم الزمان تبسّمٌ وثناءُ

الروح والملأُ الملائك حولَه للدين والدنيا له بشراءُ

والعرش يزهو، والحظيرة تزدهي والمنتهى والسّدرة العصماءُ

وحديقة الفرقان ضاحكة الربا بالترجمان شَذيّة غنّاءُ

والوحي يقطر سلسلاً من سلسلٍ واللّوح والقلم البديع رواءُ

ومن الواضح أن قصيدة أحمد شوقي تفيض بمحبة عارمة فتتبدّى في صور مشرقة بهاءً وروحانية ونوراً؛ فهو يقدم لحظة الميلاد على أنها انبثاق لفجر جديد نشر ضوءه على الكائنات والكون، ويصور الحفاوة السماوية والدنيوية به تصويراً متألقاً. والصورة الشعرية التي يتداخل فيها المُشاهَد والمحسوس من أكثر الصور تأثيراً؛ فالقرآن الكريم ببيانه المشرق وأسلوبه البليغ أشبه بالحديقة التي تتفتح أكمام الورد فيها عن بهاء وصفاء، واسم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مكتوب بأحرف هي الذّروة في جمال الخط وبهائه (واسم محمد طغراءُ) .

أما الرومانسيون الذين مثّلوا اتجاهاً جديداً في القصيدة العربية فقد شغفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حُبّاً فقال قائلهم (وهو مهجري نصراني) جورج صَيْدَح:

أقبلتَ كالفجر وضّاح الأساريرِ يفيض وجهك بالنعماء والنورِ

فرُحت وليل الكفر معتكرٌ تفري بهديك أسداف الدياجيرِ

وتمطر البيد آلاءً وتمرعُها يُمناً يدوم إلى دهر الدهاريرِ

أبيْت إلاّ سمو الحق حين أبى سواك إلاّ سمّو البُطْلِ والزورِ

ولا نلمح في هذه الأبيات ما يميزها عن غيرها مما قال الشعراء المسلمون؛ فمحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- موضع إجماع؛ فـ «جورج صيدح» يرى في طلعته -صلى الله عليه وسلم- فجراً يفيض بالأنوار، يضيء الجبين الوضاح بالحق، ويصدع بأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ يبدّد الظلمات التي تكاثفت وحجبت الرؤيا، فالبركة أديم هطّال، والحق ناصع الجبين، وفلول الباطل مهزومة مولّية الأدبار، وهو يؤكد على معاني البركة والطهر والنبل والفضل والحلم والأخلاق والإجلال والتوقير:

بوركت أرضاً تبثُّ الطهرَ تربتُها كالطيب بثّته أفواه القواريرِ

الدين ما زال يزكو في مرابعها والنبل ما انفكّ فيها جدُّ موفورِ

والفضل والحِلْمُ والأخلاق ما فتئت تحظى بإجلال [ذي لُبٍّ] وتوقيرِ

أما شعراء القصيدة الحديثة فتبرز من بينهم الشاعرة «نازك الملائكة» في قصيدة حب صافية موجهة إلى نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام:

وجاءني طائر جميل

وحطّ قربي

وامتصّ قلبي

صبّ على لهفتي السكينة

ورش هُدبي

براءة، رقّة، ليونة

وقلت: يا طائري! يازبرجد!

من أين أقبلت؟

أيّ نجم أعطاك لينه

يا نكهة البرتقال، يا عطر ياسمينه

وما اسمه الحلو؟

قال: أحمد.

وامتلأ الجو من أريج الإسراء. طعم القرآن

وامتد فوق إغماءة البحر ضوء

من اسم أحمد.

ويتضح في هذا النص مدى التّوق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصدى الحب المتغلغل في الأعماق عبر صور يتقاطع فيها الرمز مع البوح، وما هو مباشر مع ما هو سردي ووصفي؛ فالبراءة والرِّقة ونكهة البرتقال والياسمين وأريج الياسمين وضوء البحر كلها بضع نفحات من عبق النبوة. أما الطائر الجميل الذي امتصَّ قلب الشاعرة وأدخل إلى قلبها السكينة فهو رمز يمثل نسائم الأريج النبوي الطاهر.

أما الأعمال المسرحية التي عالجت السيرة النبوية المطهرة فقد كان منها مسرحية ألفها «محمد محمود زيتون» عام 1948م تحت عنوان «ميلاد النبي» ، وقد فازت بالميدالية الذهبية للتأليف المسرحي في مهرجان الأدب والغنى لوزارة المعارف بمصر، ثم كانت مسرحية «إلى الطائف» من تأليف الشاعر «محمد عبد الغني حسن» ، وقد أشار «محمد زيتون» إلى أنه يعتزم طبع مسرحية أخرى هي «الهجرة الغراء» . أما مسرحية «محمد» لـ «توفيق الحكيم» فهي أيضاً من الأعمال المسرحية المتميزة التي كتبت عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهناك العديد من المسرحيات والملاحم التي كتبت معبِّرة عن أعمق مشاعر الحب لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ونحن إذ نستروح شذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما كُتِبَ عنه -صلى الله عليه وسلم- من أعمال إنما نستذكر عظمة هذا النبي الكريم، ونشير إلى تلك الاعتداءات الدنيئة التي تجرّأ بها رسام دانماركي حاقد على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد شهدنا كيف كان الغضب الإسلامي النبيل الذي امتدّ من البحر إلى البحر، ولم يستطع كبح جماحه أحد، ومع هذا فقول: إن التسامح هو أبلغ درس تلقيناه من رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فالغضب النبيل مشروع والمقاطعة مشروعة، ولكن التدمير والتخريب والاعتداء غير مشروع، وليس من سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015