د. عبد الكريم بكار
لا نعني بالثقافة (المعرفة) ، وإنما نعني هنا ذلك الجوَّ المكوَّن من مجموعة العقائد والأفكار والمفاهيم والنظم والأخلاق والقِيَم والعادات والطُرُز السائدة في مجتمع محدد. أو بعبارة أخرى: أسلوب الحياة السائد في بيئة معينة والأسس الفكرية والنفسية والاجتماعية التي يقوم عليها ذلك الأسلوب.
أما الجاذبية الثقافية؛ فنعني بها قدرة الثقافة على توفير درجة جيدة من إرضاء أبنائها بالأوضاع والأحوال السائدة، بالإضافة إلى لفت انتباه أبناء الثقافات الأخرى ودفعهم في اتجاه تقليد سلوكيات أبناء الثقافة الجاذبة.
أثبتت الجاذبية الثقافية على مدار التاريخ الإسلامي أنها الوسيلة الأفضل لنشر الإسلام ومبادئه وقِيَمه؛ فقد دخل في هذا الدين أعداد هائلة من البشر من غير أن يروا عسكرياً واحداً من جيوش المسلمين، وقد تم انتقالهم إلى الإسلام ببطء؛ حيث تمثّل الناس مبادئه بأناة ومن غير ردود أفعال تُذكَر من الثقافات الوطنية التي كانت سائدة آنذاك، ولم يكن الأمر بتلك السلاسة وذلك النقاء في البلدان التي فُتحت عن طريق القتال.
دعونا نتساءل الآن: ما السّمات الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في أيّ ثقافة حتى تصبح جذابة؟
في مقاربة أولية نقول: ربما كان أهم تلك السمات الآتي:
1 ـ التضحية: وهي تعني وجود شريحة واسعة في المجتمع، تملك القدرة على التخلّي عن بعض ما تملك، وتبذل شيئاً من جهدها ووقتها في سبيل تحقيق أمور خيِّرة لا تعود عليها بنفع مباشر. ويدل على هذه الشريحة ما تتمتع به الأمة أو المجتمع من مؤسسات (لا ربحية) ، تسدّ حاجات الناس، وتستدرك على القصور الموجود في نظام العدالة الاجتماعية السائد. ولا شك أن الدول المتقدمة تُعد غنية جداً بهذه المؤسسات اليوم؛ وهذا ما نلمحه في المجتمعات المسلمة أيام ازدهار الحضارة الإسلامية.
2 ـ العدل: حيث يغلب على ظنّ الناس أنهم قادرون على الوصول إلى حقوقهم كاملة دون رشوة أو واسطة، وبناء على قواعد واحدة تطبق على الجميع.
وهذا يكون في أحسن حالاته حين يتوفر نظام قضائي حرّ ومستقل، ويتولى إصدارَ الأحكام أشخاص نزيهون، أو أشخاص يدفعون ثمناً غالياً في حالة إصدار أحكام جائرة ليس لها أي مخرج قانوني.
3 ـ التعاون: والذي يعني وجود أرضية عقدية وأخلاقية تجعل تواصل الناس بعضهم مع بعض واسع الانتشار، فالمؤسسات الخيرية الكثيرة والمتنوعة تعني ـ على نحو بَدَهي ـ وجود أعداد كبيرة من الناس القادرين على التفاهم والتعاضد في سبيل إنجاز أشياء مشتركة لخير الجميع.
4 ـ الأمانة: وهي تعني نمو جوانب خلقية واجتماعية جيدة إلى حدود ومستويات عالية. الأمانة التي أعنيها هنا هي التي عنتها ابنة شعيب حين قالت لأبيها عن موسى ـ عليه السلام ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . الأمانة تعني الصدق والمصداقية والثقة وحفظ الأسرار والمحافظة على الحرمات؛ وهذه الأخلاق ذات قيمة جوهرية في المنهجية الإسلامية وفي التربية الأخلاقية لدى المسلمين.
5 ـ الجدّية: المقصود بالجدّية، توفّر نُظم وتقاليد وأعراف وأوضاع، ترفع عتبة النشاط أو ترفع سوية الاهتمام بالعمل والإنتاجية إلى مستويات عالية تحاكي ما هو متوفر لدى الأمم الصناعية الكبرى. الأمم الجادة تهتم بالتفاصيل، وتفكر في التخلص من دقائق المشكلات، وتحتاط في معظم شؤونها.
6 ـ العملية: الثقافة التي توصف بأنها ثقافة عملية يقل الكلام لدى أبنائها على مقدار تكاثر الأساليب الفنية التي تنمّي من خلالها الجوانب المختلفة في حياتها العامة، كما أنها تعالج بواسطتها المشكلات المعاصرة على نحو حاسم وفعّال.
هذه السّمات هي موضع إجماع بين كل الأمم. وجميع الشرائع تحثّ على التحلّي بها، ولهذا؛ فإن الثقافة التي تتوفر فيها هذه الصفات على نحو ظاهر وقوي؛ تجذب إليها أبناء الأمم الأخرى الذين لا يجدون في ثقافاتهم مثيلات لها. وهذا الجذب الثقافي يزداد اليوم بسبب ما توفره وسائل البثّ والاتصال الحديثة من تواصل وتقارب عالمي على نحو لم يسبق له مثيل.
الحديث عن الجاذبية الثقافية يدعونا إلى الحديث عن (الافتتان الثقافي) والذي يعني انبهار أبناء أمة من الأمم بما لدى أبناء أمة أخرى من قِيَم وأخلاق وأوضاع ثقافية. وإنها لفتنة شديدة أن تجد المبادئ التي يجب أن تتمسك بها ضامرة في مجتمعك، مزدهرة لدى عدوّك أو منافسك!
كل ما قلناه عن الجاذبية والفتنة الثقافية، ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الأمم والشعوب، وإن من واجبنا ـ إذا ما أردنا تحصين الأجيال القادمة من التبعية الثقافية للآخرين ـ أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل إنعاش القِيَم التي أشرنا إليها وترسيخها في الحياة الإسلامية، وإلا فإن هويتنا ستكون مهددة، حتى إننا إذا لم نخف ذلك؛ فإن التديُّن الحق يدعو إلى بذل ذلك الجهد تعبُّداً لله ـ تعالى ـ وتقرُّباً.