مجله البيان (صفحة 5589)

الخطاب الإسلامي بين الأصالة والانحراف

أكرم عصبان الحضرمي

هبت رياح عاتية بعد أحداث سبتمبر 2001م أتت على الخطاب الديني المقيَّد بأعنة الكتاب والسنة، ونادت عليه بالتغيير والتعديل والتبديل، وفي المقابل أفسحت المجال لخطاب بمواصفات معينة، فاغتنمها دعاته في إبراز مضامين فكرهم، وبذلك انتعش أمرهم وبقيت مراكزهم في منأى عن قوة هذه الهجمة الشرسة.

فالدعوة التي تتبنى الإسلام بمفهومه الشامل وتنابذ الجاهلية وتشد بيديها على هذا المفهوم ولا تحيد عنه نرى أن الأبواب أمامها تؤصد، وجميع تحركاتها تُرصد، ويمارَس ضدها كل الأساليب لمساومتها في التخلي عن بعض هذا المفهوم حتى يؤول الأمر في نهايته إلى الاستفزاز من الأرض، وتلك سنَّةٌ ماضيةٌ، وطريقة باقية، تواجهها الدعوة حين لا تغضي على ضيم الأعداء ولا تنعم عيناً مع وجود الباطل.

أما الدعوات التي تنتسب إلى الإسلام، وتتخلى عن المنهج الرباني والإرث النبوي الذي بنيت عليه الدعوة في خطابها، وتصدف عن مفهومه الصحيح، طلباً للسلامة حيث لا يصيبها العنت، نجد الأعداء يلوون في تفسير الدين عليها، ويسندون القياد إليها، ويفتحون أمام أربابها الأبواب، فلا عجب أن ترى أعلامها منشورة، وإبانة الإسلام عليها مقصورة، ذلك أنهم لما مالوا بعض الميل، وتحدثوا فطففوا في الكيل، طمعوا في خطابهم، وأمالوا برؤوسهم نحوهم، وخاصة أن الحاجة ماسة إلى الخطاب الديني بعد أن فرضت الصحوة المباركة نفسها في الواقع، وتراجعت الشعارات التي كانت سبباً في ضعف الأمة، وسقطت أوراق العلمانيين وغاب دورهم فلم يعد يعوَّل على رأي النخب منهم.

وحديثنا هنا يكون على محورين: أحدهما: بيان طبيعة خطاب المنهج النبوي المتمثلة في العبودية لله وحده، وإقامة نظام الله على الأرض وإزهاق ما علق بالنفوس من تصورات الجاهلية. وثانيهما: ذكر نماذج من الخطاب الديني الذي مد الأعداء له الحبال حين انحرف عن الجادة، ونأخذ منه ثلاثة: خطاب أهل التصوف، والإرجاء، والجبر.

- الإسلام هو الاستسلام لله وحده:

لقد جاء الإسلام بالعدل الذي أُرسلت من أجله الرسل، وأُنزلت لبيانه الكتب، وهو النظام للحياة كلها؛ حيث ينقل الناس من الوثنية التي ألفوها إلى النظام الإسلامي الذي يتميز بالشمولية والاتزان. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وذلك من خلال غرس العقيدة الإسلامية لتكون أساساً تنطلق منه الدعوة لتحقيق تغيير شامل للحياة واصطباغها بصبغة الحق تكون العبودية لله وحده، وتمحى بها كل تصورات الجاهلية التي سادت حيناً من الدهر وأدت إلى الانحراف عن الفطرة.

فالإسلام بهذا المفهوم (يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص لقوله ـ تعالى ـ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ} [الزمر: 29] فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قول (لا إله إلا الله) فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك؛ والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ) (?) .

- الحنفاء وقريش:

وقد أدرك (ورقة بن نوفل) طبيعة هذا الخطاب من أول وهلة، وأن الجاهلية لن تدعه يقوِّض خيامها لكونه يحمل منهجاً تغييرياً، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ـ حين قص عليه ما حصل له في الغار ـ: «ما جاء رجل قَطُّ بمثل ما جئت به إلا عودي» (?) . صرح ورقة بهذه القالة مستشرفاً المستقبل المحفوف بالمخاطر، والإخراج من الأرض، مرجعاً نظرته إلى خلفية استقاها من أسفاره إلى أهل الكتاب، ودراسة أسفارهم، و (ورقة بن نوفل) هذا مع (زيد بن عمرو بن نفيل) يعدان من أبرز الباحثين عن الحق من قريش قبل الإسلام. قال الذهبي في السِيَر: (فأما ورقة فتنصر، واستحكم في النصرانية، وحصّل الكتب، وعلم علماً كثيراً.. ولم يكن فيهم ـ الحنفاءَ ـ أعدل شأناً من زيد اعتزل الأوثان، والملل إلا دين إبراهيم، يوحد الله ـ تعالى ـ ولا يأكل ذبائح قومه) (?) . وهؤلاء الحنفاء الذين فارقوا ما عليه قومهم من عبادة الأصنام، وأكل ما ذُبح عليها، ووأد البنات وغيرها من المنكرات لم يكونوا يحملون خطاباً عاماً لقومهم؛ ولذلك لم تشن قريش ـ بمجموعها ـ حرباً عليهم؛ إذ لا يشكلون تهديداً حقيقياً على المعتقدات؛ ومن ثَمَّ لم يتعرضوا للنفي إلا ما كان من شأن زيد مع عمه الخطاب (وكان عمه الخطّاب قد آذاه، فنزح عنه إلى أعلى مكة فنزل حراء، فوكَّل الخطّاب شباباً سفهاء لا يَدَعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً) (?) .

- العداء السافر لدعوة النبي:

أما دعوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي سفَّهت أحلامهم، وعابت أصنامهم، وجاءت بالعبودية لله وحده؛ فقد رأت فيها قريش أنها تريد تغيير دينها، وموروثاتها السابقة التي شاخت عليها، وتسلبها نفوذها الذي يكسبها قداسة عند الناس من حولهم، وتذهب بسلطانها الذي يحقق لها مكاسب مادية، فلجأت إلى العداء السافر الذي أخذ أشكالاً مختلفة، منها حصار الشِّعْب الذي دام ثلاث سنوات أرهق الفئة المسلمة أيما إرهاق، ومنها حرب نفسية تمثلت في رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- بألقاب منفرة كالقول بأنه شاعر أو كاهن أو مجنون لتنقض قريش غزلها الذي نسجته بالأمس في مدحه عليه السلام، ومنها الأذى الجسدي؛ غير أن المسلمين لم يستكينوا لهذه الأساليب كلها، وكان زوال الجبال أهون عندهم من الحيدة عن المنهج قدر أنملة، ولسان حالهم لقريش هو لسان الشاعر في قوله:

فرُمْ بيديك هل تسطيع نقلاً جبالاً من تهامة راسياتِ؟!

- المساومة في المنهج:

ولما رأت قريش أن قناة المسلمين قوية لا تلين لغامز، عاجت (?) على مكر أمضى تأثيراً مما سبق ذكره، هو الاعتراف بالإسلام مقابل التخلي عن بعض مقومات خطابه، واعترافه بالجاهلية أولاً، وقد حشدت لهذا كل طاقاتها، وأبدت لِيناً، وسعت في تحقيقه حتى كاد السعي أن ينجح لولا أن ثبت الله نبيه بثبات من عنده، فباءت هذه الجولة أيضاً بالفشل.

فعقد من بيده الحل والعقد من مشركي مكة مؤتمراً مهماً بدار الندوة قرر المجتمعون فيه قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو استفزازه من الأرض بكل ما يكمن وراء هذه اللفظة القرآنية من معان، وذكر القرآن هذا المسلك في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 73 - 77] .

وهكذا ينتهي بنا تحديد الخطاب في منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت وموقف الأعداء منه حين لم يتخلَّ عن مقومات الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ ليستلهم المسلمون منه أهم المعالم فلا يتعجبوا بعد ذلك من سهام المخالفين حين تسدد إليهم عن قوس واحدة.

أما المحور الثاني فيكون عن بعض المناهج المخالفة وهي (الصوفية، والمرجئة، والجبرية) التي أصلها انحراف في الخطاب عن طبيعة المنهج النبوي الذي سبق تقريره، ووضح تحريره، وفرعها استغلال الأعداء لهذا الخطاب واستئناس بعض الجاهلين به.

- أولاً: التصوف:

إن التصوف قد بدأ بالزهد والازورار عن الحياة حين أبدت زخرفها، ثم فسد حين أخذ من سوق الفلاسفة تهذيب النفس عبر المقامات، وتغلظ الفساد بالخوض في الإنسان الكامل، ومجاراة الغلاة في إثبات منزلة له فيها خصائص الربوبية، تحت مسمى الغوثية والقطبية، أوقعت الأتباع في عقائد فاسدة، وغالب المتأخرين منهم اشترى من هذه البضاعة الكاسدة.

إذاً فمصطلح التصوف لم يقف عند حقيقة النشأة فحسب، بل ما فتئ يتطور وينمو حتى استقر على صيغة نهائية ينصرف إليها الاسم عند الإطلاق، ومن يحصره على المعنى السلوكي من ترقيق القلوب، وتزكية النفوس، ويتوارى عن الجانب الفكري، فإنه يقطع سير الصوفية إلى الغاية التي اتجهوا نحوها من حيث أراد تنزيههم، ولم يراعِ لهم حقوقاً، ومن البر ما يكون عقوقاً.

فالرياضة والمجاهدات ذات الطابع العملي وإن كانت ملوثة بالتواجد والسماع، والخنوع للشيوخ، والتنقيب في أشياء كالجوع والسهر والخلوة لم ينقب فيها السابقون لم يقف الصوفية عندها بالوصيد، بل كسروا الباب، ومضوا إلى الجمع والبقاء ذي النزعة الفلسفية الذي قاد إلى الشطح ومقام القطبية ونحو ذلك من السراب.

وحقيقة التوحيد تتمثل في مقام الفناء حين يفارق الواصل التمييز والشعور ويخرج عن عهدة التكاليف، وإذ تحدث فيه فلا يكاد يبين، بل يتكلم بما يدعونه (الشطحات) الناتجة عن مقام السُّكْر، ثم يعود إلى مقام القطبية والغوثية والإنسان الكامل؛ ومبنى ذلك كله على الحقيقة أو علم الباطن، ومناطه التسليم.

قال أبو مدين الذي تنسب إليه الطريقة المدينية المغربية:

فلا تلم السكران في حال سُكْره فقد رُفِعَ التكليفُ في سُكْرِنا عنا

وسلّم لنا في ما ادعيناه إننا إذا غلبت أشواقنا ربما بُحنا

ويحتاج المريد السالك لهذا الدرب إلى شيخ يسير بسيره إلى الغاية، ويتحكم له فلا يخالفه البتة ولو على خلاف الظاهر ـ ويحتجون بقصة الخضر ـ بل يكون عنده كالميت عند مغسله:

وكن عنده كالميت عند مغسِّل يقلبه ما شاء وهو مطاوع

وفي قصة الخضر الكريم كفاية بقتل غلام والكليم يدافع

ويعد الشيخ هو المحور الذي تدور عليه الطريقة وتتميز به عن غيرها من الطرق الأخرى؛ ومن هنا نشأ تقديس المشايخ وأنهم محفوظون. والقول بالقطبية والتصرف في الكون وغيرها من العقائد التي أخذ بعضها من كيس الشيعة فأُشرِبَتْها الصوفية وتلقتها عنهم، ولذلك تجدهم ينهمكون في عمل الموالد عند أضرحة المشايخ ويطيلون الوقوف عند عتباتهم، وينسبون الخوارق والحكايات والخرافات إليهم، ويغلون فيهم غلواً يقع الخلط فيه بين الولاية والربوبية.

والتصوف بهذا المفهوم المنحرف لا يحمل منهجاً يحدث تغييراً في الواقع؛ إذ هو محصلة من الخمول والمحو والفناء والغيبة والسكر وهي مترادفات تشير إلى البعد عن الواقع ونتيجة يسبقها الجوع والسهر والخلوة والصمت، فأنَّى لمثل هؤلاء أن يبارزوا جاهلية منظمة؟ وكيف بمن يفنى عن الكون فلا يقوم بالعبادات الواجبة فضلاً عن المندوبات أن يقوم بالتغيير؟ وكذا مجذوب لا يدري شيئاً، وهائم في القفار على وجهه أنى له أن ينشد النظام الإسلامي؟

- شاهد عدل:

ولنأخذ مثلاً على بعض مفردات هذا الفكر ـ الذي يُفسح المجال لخطابه الديني ـ في عصرٍ طغت فيه الطرق، ومِصْرٍ انتشر فيه أصحابها انتشاراً عظيماً؛ وذلك حين عطلت طقوس طرائق الصوفية في مصر إبَّان الغزو الفرنسي، ثم ما لبثت أن أعيدت على عين الاحتلال بعد أن بَلَوْا أخبارها؛ فما نقموا منها شيئاً، ومحصوا أفكارها؛ فإذا بها تكشف لهم عن وجه فيه من المخالفات ما تقر به العيون، فجعلوا يشجعونها على إعادة ما تقوم به من الموالد وغيرها من مفردات التصوف.

ولْنُعْطِ القوس باريها في هذا المجال وهو المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يحدثنا عن ذلك الواقع الذي أزرى بالدين في تاريخه المسمى (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) .

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدثوك فما راءٍٍ كمن سمعا

قال الجبرتي: (إن أهل مصر جَرَوْا على عادتهم في بِدَعهم التي كانوا عليها، وانكمشوا عن بعضها، واحتشموا خوفاً من الفرنسيس، فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد، ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها، وانهمكوا في عمل موالد الأضرحة التي يرون فرضيتها، وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك، وتقربهم إلى الله زلفى في المسالك) (?) .

ولنأخذ مثالين لأشهر تلك الموالد التي تحدث عنها الجبرتي وهما:

1 ـ المولد الذي ابتدعه بدوي فتيح:

في شهر شعبان سنة 1213 هـ وفي يوم الأحد سادسه نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل المولد الحسيني ـ الذي ابتدعه بدوي فتيح ـ وشدد في ذلك وأوعد من أغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريالات فرنسية مكافأة (?) على ذلك!

وكان بدوي قد اعتراه مرض الحب الإفرنجي، فنذر نفسه في عمل هذا المولد إن شفاه الله تعالى واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين لم يزدد الناذر إلا مرضاً ومقتاً، وفيه رتب فقهاء يقرؤون القرآن بالنهار مدارسة، وآخرين بالمسجد يقرؤون بالليل دلائل الخيرات للجزولي، وقد انضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية (?) .

2 ـ مولد علي البكري:

في عشرين ربيع الثاني سنة 1214هـ نودي بعمل مولد (علي البكري) وذلك أن الناس لما حضر الفرنساوية تشاغلوا عنه، وأُهمِلَ شأنه في جملة المهمَلات، وتُرِك مع المتروكات؛ فلما فتح أمر الموالد والجمعيات..... ورخصت الفرنساوية لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي، وفعل المحرمات، وأمر الناس بوقود قناديل بالأزقة في تلك الجهات، وأذنوا لهم بالذهاب والمجيء ليلاً ونهاراً من غير حرج.

وكان (علي البكري) رجلاً من البُلَهِ يمشي بالأسواق عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين، وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به، واستمر على ذلك مدة سنين، ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى ميل الناس واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر في أمثاله، فحجب عليه، ومنعه من الخروج من البيت، وألبسه ثياباً، وأظهر للناس أنه أُذِنَ له بذلك، وأنه تولى القطبانية، فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم، وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم كراماته وأنه يطَّلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس، فأقبلوا بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شيء، فاتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البَوِّ العظيم؛ فلم يزل إلى أن مات في سنة سبع بعد المائتين.

فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حُجِرَ عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع، وعمل عليه مقصورة ومقاماً، وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويفرقون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبائهم وجيوبهم (?) ....

- أمور غريبة من أفعال بعض الصوفية:

ومن غريب أمر بعض الصوفية حين يذهب الاعتقاد بهم في تقديس شيوخهم قولهم إن البلاد تُحمَى بسرِّهم، وتُحفَظ ببركتهم، كما نقل (رشيد رضا) في تفسير المنار أنه يُحكى عن مسلمي بُخارى أن شاه نقشنبده هو الحامي لها، فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها! وما كان يُحكى عن مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب!) (?) .

وأغرب من ذلك من يلوذون بالشيوخ إذا دخل المستعمر ليخلصهم ضريحُه من شر هذا المستعمر كما نقل بعضهم في ذلك شعراً بقوله:

يا هاربين من التترْ لوذوا بقبر أبي عمرّْ

وأشد غرابة من ذلك حين يوغل البعض في الغلو إيغالاً بعيداً يفوق خطابهم الذي طمعوا فيه، ويتعداه إلى مساعدة الأعداء في احتلالهم كما قال (رشيد رضا) يخاطب بعض أهل الطرق الذين اتهموه بأنه ينكر كرامات الأولياء: (وها هي ذي فرنسا استولت على بلادهم كما أنذرهم ـ يعني نفسه ـ وظهر أن أكبر مشايخ الطرق نفوذاً ودعوى للكرامات بالباطل كالتيجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرنسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية من حيث يدرون أو لا يدرون) (?) .

وقد قام بعض شيوخ الطريقة التيجانية في الجزائر والمغرب بالدفاع عن الاستعمار الفرنسي وتحريض المسلمين على الخنوع، ويتضح في الخطبة التي ألقاها صاحب السجادة الكبرى محمد الكبير بين يدي فرنسا قائلاً: (إنه من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا مادياً وأدبياً وسياسياً! ولهذا فإني أقول لا على سبيل المن والافتخار ولكن على سبيل الاحتساب والتشرف بالقيام بالواجب ... أن تصل بلادنا وقبل أن تحتل جيوشها الكرام ديارنا! ففي سنة 1838 كان جدي سيدي محمد الصغير ـ رئيس التيجانية يومئذ ـ أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا الأمير عبد القادر الجزائري، ومع أن هذا العدو ـ عبد القادر ـ حاصر بلدتنا (عين ماضي) وشدد عليها الخناق ثمانية أشهر فإن هذا الحصار تم بتسليمِ فيه شرف لنا نحن المغلوبين وليس فيه شرف لأعداء فرنسا الغالبين؛ وذلك أن جدي أبى وامتنع أن يرى وجهاً لأكبر عدو لفرنسا فلم يقابل الأمير عبد القادر (?) .

- من الخطاب الصوفي المعاصر:

وهو ما يطالعنا به أبرز المروِّجين للتصوف (زين العابدين علي الجفري) في الإعلام بقنواته الفضائية والصحفية من التبشير بقدوم التصوف؛ وذلك في حديثه لجريدة الشرق الأوسط بقوله: (التصوف قادم بوجهه الصحيح) وقد علل ذلك بقوله: (لأن أهل التصوف الصادقين بعد أن أوذوا وحصل لهم ما حصل بدؤوا الآن يستعيدون وجودهم ... ) (?) .

قلت: وقوله: (الآن) يراد به بعد أحداث سبتمبر 2001؛ وأما قيد الصحة الوارد في عبارته المذكورة فلا يفيد في البيان شيئاً لاشتماله على الإجمال؛ إذ يستطيع تفسيره عند المعارضين ـ أو المتوقفين في التصوف ـ على ما ينبذونه وفق تصورهم، كما يستطيع أن يحمله إذا خلا بمؤيديه على نبذ الحلول والاتحاد، ولو كان واضحاً لأبان لنا في تفصيل المراد ولكن التعميم صفة تكثر في أجوبته (?) .

وقد حدد الوجه الصحيح للتصوف في المنهج الذي يدعو به كما ورد في صحيفتي الأيام و (26) سبتمبر اليمنيتين فقال في بيان الفرق بين دعوته ودعوة عمرو خالد: (المنهج الذي ندعو إليه له جذور تمتد ألف سنة....) قال: (ودار المصطفى ـ بتريم ـ امتداد لهذا التاريخ..) .

هكذا ذكر لنا طول المنهج على امتداد التاريخ، ولكن: ما لونه، ما ريحه، ما الطعم؟ لا يستطيع القارئ أن يتعرف على شيء من ذلك إلا إذا كان على خلفية مسبقة بالطريقة الصوفية الحضرمية، ونحن لا نلمح شيئاً من خطاب هذا المنهج المقرر في مصادر الطريقة عند المتقدمين منهم والمتأخرين ممن يعدهم ضمن شيوخه، وذلك لوحشة من يخاطبهم من الخطاب الصوفي التقليدي الغارق في الكرامات، فأدخل عليه تعديلاً حتى يتلاءم مع العصر بقوله: (التصوف بمعناه الراقي لا الهزلي) (?) .

هذا هو التعديل الجديد على المنهج، وبه كاد أن ينقض قوله السابق المتمثل في الدعوة إلى منهج محدد؛ فهو يرى كما في صحيفة السياسة الكويتية أن مصيبة الأمة ترجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم؛ فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفائها ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت ويربطها بالله عز وجل) .

وفي صحيفة الأيام البحرينية قال: (ما رأيت نظاماً يتخوف منها) أي الصوفية. وخص في مجلة المصور المصرية النظام المصري بالذكر في معرض حديثه عن سبب ترحيله من مصر التي يزورها فيها آل البيت والصالحون الموجودون فيها كالسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الحسين! فقال: (والمسؤولون ليسوا من أصحاب التوجه المحارب لأضرحة الأولياء) (?) !!

وقد يستأنس بعض الناس بالخطاب الصوفي إما بسبب التشديد الذي ينتهجه بعض الدعاة حين ينزع إلى التضييق عليهم، وإما بسبب طغيان الحياة المادية وضعف الخطاب عن أمراض القلوب، وقديماً أشار الكواكبي إلى أن التضييق في الأحكام مما ينافي سماحة الدين ومزية التدين به في الدنيا قبل الآخرة هو الذي جعل المسلم لا يرى لنفسه فرجاً إلا بالالتجاء إلى صوفية الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين ... وهم المقررون بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلا الكذب، وأن الاعتقاد أوْلى من الانتقاد، وأن الاعتراض يوجب الحرمان، أي أن تحسين الظن بالفساق والفجار أوْلى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال التي تجعله نوعاً من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين وأين هم لفروا منهم (?) .

- ثانياً: المرجئة:

إن الإيمان عند السلف قول وعمل، يشمل الطاعات الباطنة والظاهرة فهو (مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة) (?) . وأما حقيقته عند المرجئة فيتمثل في إخراج العمل عنه، وقد اتفقت فرقها على هذا الأصل الجامع لها مع اختلاف في التفاصيل يتردد بين إرجاء الفقهاء والغلاة. قال الفضيل بن عياض: (ميز أهل البدع العمل عن الإيمان وقالوا: فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفِرْية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض، رادّاً على الله أمره) (?) .

وقال الآجرِّي: (فالأعمال ـ رحمكم الله ـ بالجوارح وتصديق عن الإيمان بالقلب واللسان؛ فمن لم يصدق الإيمان بعمله وجوارحه مثل الطهارة والصلاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه. وبالله التوفيق) (?) .

فلا بد من القول والعمل، ومن لم يسلِّم بهذا فقد رد على أبي بكر في قتاله أهل الردة الذين امتنعوا عن الزكاة حين لم يجحدوا التوحيد. وما زال مسمى الإيمان عند المرجئة مشكلاً يوردون نصاً أُجْمِل القول فيه، ويتعلقون به ويمرون عند كل المواضع التي جاءت بالبيان الشافي مروراً سريعاً، حتى ذهبت غلاتهم مذهباً بعيداً، فزعموا أن لا فرق بين إيمان العاصي وإيمان أبي بكر؛ وعليه فلا أثر للذنوب البتة. قال ابن القيم في مدارج السالكين (العقبة الثانية عقبة الكفر: فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوَّف له وفتح باب الإرجاء وقال له: الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أصك بها الخلق وهي قوله: لا يضر مع التوحيد ذنب؛ كما لا يضر مع الشرك حسنة) (?) .

وكانت نار المرجئة تعلو تارة، وتخبو كثيراً إلى أن نفخ فيها اليوم من ينتسب إلى العلم، فزادوا أُوارها جذوة وبعثوها من مرقدها، وما زالوا يقررون أن الإيمان هو التصديق، ولا كفر إلا الجحود والتكذيب؛ حتى صار الدين عندهم كالسمحاق، وغدا بدره إلى المحاق، فونت العزائم، وعطلت الأحكام، ولم تكتف هذه الطائفة بهذا الانحراف، بل ذهبت تصف كل من يخالفها بشنشنة معروفة أنهم من جنس الخوارج.

وكاد خطابهم أن يملأ الساحة لولا أن تصدى كبار العلماء في اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية لهذا الفكر، وبينوا ضلال قولهم هذا وما فيه من تعطيل جانب الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه يسوي بين الصالح والطالح والمطيع والعاصي (?) .

- آثار الإرجاء:

وقد نتج عن هذه الفئة التي تبنت أقوال المرجئة من الآثار ما أضعف الأمة وفتح لها باب المعاصي ولا سيما حين ساووا بين المعاصي والحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام، واشترطوا فيهما الاستحلال؛ وهذا محض افتراء على أهل السنة؛ وما أجمل ما سطره يراع الشيخ (بكر أبو زيد) في حديثه عن تهوين هذه الفئة من خصال الإسلام وفرائضه شأن أسلافهم من قبل، فقال:

ـ منها التهوين من شأن الصلاة، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، طاشت فيه موجة الملحدين الذين لا يعرفون ربهم طرفة عين.

ـ ومنها التهوين من تحكيم شريعة الله في عباده، بل ومساندة من يتحاكم إلى الطاغوت، وقد أمر الله بالكفر به) .

- فرح العلمانية بذلك:

فإخراج العمل من مسمى الإيمان يعد من أخطر الانحرافات التي دخلت على العقيدة الإسلامية من حيث تأثيرها في الواقع وبقاء النظام الجاهلي، لانفصام العمل عن الإيمان عندهم، والعلمانية تفرح بهذا الخطاب بمن استبضع الإرجاء، وسعى في نشره، وقام أصحابها الذين فصلوا الدين عن الدولة ـ شاهت وجوهم ـ يعملون على بث الشهوات عن طريق ما تقدمه وسائل الإعلام من أمواج الفتن والخناء وراموا تدمير الأخلاق، ووجهوا سهامهم نحو المرأة تحت شعارات زائفة ودعايات زائغة طالما كلفوا بها كتحريرها، مجاراة للغرب الذي يُكْبِرونه في صدورهم، وأرادوا استنساخ صورة منه في أرض الإسلام، والمسلم يهون على نفسه بأن إيمانه معافى لا يمسه شيء، والمرجئة من حيث لا تشعر في خطابها الديني قد أسهمت في ذلك. وصدق الشاعر في قوله:

في كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوضِ

وانتهى الأمر خطورة بحصر الكفر في الاستحلال إلى إيصاد باب التكفير، فتجرأ الزنادقة وطعنوا في الدين؛ لأنهم في منأى عن الحكم بردتهم؛ إذ المرجئة تظل منتظرة الجحود والاستحلال منهم. قال الشيخ (صالح الفوزان) في رده على العنبري: (التكفير للمرتدين ليس من تشريع الخوارج ولا غيرهم، وليس هو فكراً كما تقول، وإنما هو حكم شرعي حكم الله به ورسوله على من يستحقه بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام القولية، والاعتقادية، أو الفعلية التي بينها العلماء في باب أحكام المرتد ... ) (?) .

- الجبرية:

ونعني بها الجبرية المحضة التي حقيقة خطابها: أن لا سبيل إلى التغيير؛ لأن ما تعيشه الأمة من النكبات إنما وقع بمشيئة الله، ولا يستدعي ذلك العمل لتغييره؛ إذ الواجب عندهم التسليم للمقادير، وترك الأخذ بالأسباب، ونكون في ظل الواقع المرير إلى حيث أراد القدر صائرون، وهو خطاب يتبناه الذين يتوكؤون على القدر ويتركون الأمور سائمة طول العام، فحين يرون رايات الدين نكست، ومعالمه درست، تراهم يحيلون على القدر فكانت العاقبة خذلاناً عظيماً.

قال (العز الحنفي) شارح الطحاوية يبين فساد هذا الطرح: (وقد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد؛ لأن الاكتساب منه فرض ومنه المستحب، ومنه مباح ومنه مكروه ومنه حرام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب ويمشي في الأسواق) (?) .

والإعراض عن التغيير الجاد وعدم إنكار المنكر بمسوغات الاستسلام للقدر هو قَدْح في الشرع ذاته ودثار ملتحفه عار، وصاحبه على شفا جرف هار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراضُ عن الأسباب المأمور بها قدحٌ في الشرع؛ فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة) (22) .

- ثمار تبني هذا القول:

نجد أن تبنِّي هذا الخطاب الشعبي يجعل الأمة تتردى في هوة سحيقة من الجمود، ويعزلها عن الأحداث؛ والسبب في ذلك يرجع إلى الخلط بين الرضا والمشيئة، فتجد هذا الجبري فاغراً فاه يتساءل عن جدوى العمل في ركام تلك الأحداث العظيمة، وينادي بالراحة والقعود كما نادى بها صاحب الشاعر لما طال عليه السير فبكى فصور حاله بقوله:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنَّا لاحقانِ بقيصرا

فقلت له: لا تبكِ عينك إننا نحاول ملكاً أو نموت فنُعذَرا

ومن آثار هذا الخطاب أيضاً التيئيس من العمل الدعوي الذي ينشد المصلحون من خلاله إقامة الخلافة الراشدة. قال الشيخ عبد الرحمن المحمود: (وإننا نسمع كثيراً من اليائسين الذين يكررون عبارات التيئيس للدعاة والمصلحين مثل قولهم: إن هذا الزمان هو الذي فسد، وإن الإصلاح صعب، وهذا آخر الزمان وهو زمان غربة الإسلام ... إلى آخر العبارات التي تنم عن جهل كبير ويأس قاتل، وما أدري: لو عايش هؤلاء غربة الإسلام الأولى ـ حين كانت الدنيا كلها مطبقة على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حين كانوا قلة مستضعفين ـ ما أدري لو عايش هؤلاء تلك الغربة ماذا سيقولون؟ وماذا سيفعلون؟) (?) .

- الأعداء يستغلون الجبر:

لقد تلقف الكافر هذه العثرة التي لا تُقال، وضرب لها الطبل، واستدل بها على ضعاف العقول حين أوصاهم بالتمسك بهذه الخطة ـ خطة الضيم ـ بتمويه وتضليل عجيبين، وأدرك أنها بوابة لبقائه كما قال بونابرت في خطابه لأهل مصر: (أيها العلماء والأشراف! أَعْلِموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله، وفساد فكره؛ فلا يجد ملجأ ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله ـ تعالى ـ وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق أعمى البصيرة! وأعلموا أيضاً أمتكم أن الله قدَّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام، وتكسير الصلبان على يديَّ! وقدَّر في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها! وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وقضائه. وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله صدق وحق لا يتخلف!!) (?) .

فانظر إلى تطابق هذا الخطاب وموافقته لخطاب الجبرية من العوام وغيرهم يتضح لك خطورة مثل هذا الطرح والآثار السيئة المترتبة عليه. وقد اشتد نكير ابن القيم على من يردد هذه الشبهة ويشيعها إما بجهل عن حقيقة مفهوم القدر، أو بخبث طوية لتمريره على الطغام، (بأن دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان؛ فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار لا استسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز، والله ـ تعالى ـ يلوم على العجز) (?) . ويذهب الغلو إلى أقصى حده حين لا يقف الخذلان في الرضا بالقعود، بل يتجاوزه إلى مساعدة الأعداء في تنفيذ مكرهم بحجة تعجيل القضاء كما قيل إن بعض الأولياء خرج فرأى الخضر مع الكفار يسحب مدافعهم بسلسلة، فقال له: كيف هذا الحال؟ فقال الخضر: أمر اقتضته القدرة الإلهية نسرِّعه أو أردنا تعجيله! (?) .

وينبغي التنبه هنا في خطأ بعض الكتابات التي تعلِّق خلاصَ المسلمين من واقعهم المرير بخروج عيسى ـ عليه السلام ـ أو المهدي المنتظر، وتعمد إلى سرد نصوص الفتن مجردة عن المبشرات؛ وحال مقالها ينادي بأن يضع العاملون المصلحون أسلحتهم وينتظروا المنقذ لهم؛ وهذا قصور في فهم المنهج النبوي والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

بل الواجب تنكُّب طريق المنحرفين وحمل لواء التغيير حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وفي خاتمة المطاف نسأل الله أن يسدد أقوالنا وأفعالنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015