الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن قلوب العباد أوعية لما أُودِع فيها من العلوم، وظروف لما جُعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل؛ إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إذا تُرِكت نهباً لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق حتى لو كانت في غاية الوضوح، ويزداد الإعتام كلما بَعُدَ الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام. قال الله ـ تعالى ـ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد ِزيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » (?) قال الطبري: «فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قِبَل الله ـ عز وجل ـ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص» (?) . وعن حذيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ من هواه» (?) .
ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله ـ تعالى ـ والرجوع إلى ربه والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه ـ تعالى ـ في الأمور كلها؛ فهو ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، قلبه بين يديه يقلِّبه كيف يشاء، وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منا بقوله ـ تعالى ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] فهو ـ سبحانه ـ الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه ـ تعالى ـ إلاَّ إليه. يقول ابن جرير: «فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتِّباع أمره، والعمل بطاعته» .
والفرار لا يكون إلا إلى الله ـ تعالى ـ ولا يكون إلى أحد من خلقه؛ فإن الله ـ تعالى ـ هو رب العالمين وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا يقدرون على شيء إلا ما شاءه الله ـ تعالى ـ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير: 29] ، ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه، حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه خالقه ومولاه؛ فراحة الإنسان وأنسه وسعادته وأمنه واطمئنانه إنما يكون بالفرار مما سوى الله إلى الله تعالى.
وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بلفظ الفرار لبيان الحزم والجدية والفورية التي ينبغي أن يتعامل بها في مثل هذا الأمر؛ فهو ليس أمراً على التراخي؛ فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر جلل مخيف حقه أن يُفَرَّ منه ويُقلَع عنه بأقصى ما يمكن.
والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود التي تكبل الإنسان، أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار؛ وإلا فلا يستطيع أن يخرج من دائرة تأثيرها، كما أن التعبير بالفرار يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنتظر المتواني أو المتباطئ؛ فالأمر لا يحتمل الإبطاء في الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ فالفرارَ الفرارَ إليه يا عباد الله؛ فإنه لا مهرب منه إلا إليه.
والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة؛ فكان في هذا التعبير القرآني الموجز أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد عن الله والفرار منه إلى غيره، كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في القرب إلى الله والفرار إليه.
والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضاً بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه؛ فهو متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين؛ فالأول فرار بالقلب، والثاني فرار بالجسد، والثالث فرار بالقلب والجسد معاً، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٌّ على حسب حاله.
والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين؛ فبالفرار إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والاستغفار والتوبة يُستَنزَل الغيث، ويستجلَب المال والولد، ويشتد الساعد وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد. قال الله ـ تعالى ـ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإن تَوَلَّوْا فَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وقال ـ تعالى ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] .
والفرار إلى الله ـ تعالى ـ ليس عملاً قلبياً أو وجدانياً فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب، ثم ينساح على الجوارح كلها فيغمرها فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (?) . وكما قال الصحابي الجليل أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده» (?) . وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار انغلاقاً بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما فروا إلى الله غيَّروا وجه الأرض حتى عمَّها التوحيد والعدل بعد أن غلب عليها الشرك والظلم.
ولا يكون الفرار انسحاباً محموداً من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظاً على الدين ورعاية له. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (?) . قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه» (?) .
وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من العاصي أو عند الوقوع في المعصية، وهذا وَهْمٌ غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك ولو كان على غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها: قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة وبعد الانتهاء منها. قال الله ـ تعالى ـ لعباده وهم في أثناء طاعة من أجلِّ الطاعات، وهي فريضة الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:199] . فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون النُّسُك، كما أمرهم ـ تعالى ـ بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات، فقال ـ تعالى ـ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل:20] ، وقد نادى الله ـ تعالى ـ المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] وقال ـ تعالى ـ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ، وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» (?) ، ويقول: «واللهِ! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (?) .
لقد كان الفرار إلى الله ـ تعالى ـ هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعيشها المسلمون الأولون، وهو الذي كان سبباً في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم؛ حتى إن أحدهم ليسرع الفرار إلى الله ولو كان في ذلك موته؛ فعندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر للمسلمين محرضاً لهم على القتال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض! قال عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل» (?) ، وتقدم ـ رضي الله عنه ـ للقتال مسرعاً وهو يرتجز ويقول:
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ والصبر في الله على الجهادِ
وكل زاد عرضة النفادِ غير التقى والبر والرشادِ
والركض إلى الله ـ تعالى ـ هو الفرار إليه.
ثم تغيَّر الحال وضعف المسلمون، وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعةً فيهم والتماساً للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن هذا المسلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] وبيَّن حقيقة من يسلك هذا السبيل فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ، وقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] .
فلا عزَّ لنا ولا نصر ولا كرامة، إلا أن يكون الفرار إلى الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، دون ما سواه من خلقه أجمعين.
اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك!