د. قطب الريسوني (*)
مما لا شك فيه أن حظاً غير ضئيل من المخالفات الفقهية يعزى إلى اختلال ميزان الأولويات في الفتوى والاستدلال والتأليف الفقهي؛ إذ لا تُوضع المصادر الاستدلالية في رتبتها الصحيحة، وتضرب الأدلة بعضها بيعض، ويفتى بالأقوال دون النظر إلى مُعارضها سواء كان راجحاً أو مساوياً أو ضعيفاً، ويراق المداد في موضوعات ومسائل لا طائل من تحتها إلا إذكاء روح الاختلاف والتدابر، وفصل الفقه عن مجريات الواقع وجذور الهمّ الإنساني. ومن ثم فإن فقه الأولويات عاصم من هذه المزالق، ومرشِّد للخطاب الفقهي في وِرْده وصدره، وواضع للأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط؛ ذلك أن الجهل برتبة الشيء، وموضعه من الشرع، وقيمته في الاستدلال، ووجه الغَناء والنَّفع فيه للناس، يفضي إلى اضطراب مقاييس التأصيل والتنزيل، وانخراق نسق الانسجام والالتئام في الشريعة الإسلامية.
وسنعرض في هذه الدراسة لتصور عن كيفية استثمار فقه الأولويات وضوابطه في مضمار الفتوى الشرعية بوصفها التطبيق الحيّ لنظريات الخطاب الفقهي أياً كان مشربها ومنزعها، وهذا التطبيق يعكس على نحو من الجلاء والوضوح طريقة الاستدلال، وأسلوب الفهم، ومنهج التنزيل والإنجاز، ومن ثم فإن أغلب مزالق هذا الخطاب مأتاها من الفتاوى السقيمة، والجوابات المحرَّفة.
وإذا كان للفتوى هذه المنزلة من الخطاب الفقهي؛ فإن تصفيتها من الرواسب والشوائب ضرورة لازبة، وتقوم هذه التصفية أول ما تقوم على إعمال فقه الأولويات في تقديم حكم وتأخير آخر، وتحكيم منهج وإلغاء مقابله، وتفضيل أسلوب على أسلوب.
والأولويات التي ينبغي مراعاتها في الإفتاء أمور هي:
- أولاً: تقديم الاجتهاد على التقليد:
إن فضل الاجتهاد في العلم الشرعي معلوم متواتر بين الناس، لا يجهله إلا من ملأ عليه التعصّب الأعمى جوارحه، فزُيّن له الضلال على الهدى، وإيثار الباطل على إيثار الحق. وقد كان العلم عند السلف استقلالاً في معرفة الأحكام، وسيراً مع الدليل حيث سار، تعينهم على ذلك معارف الوحي ومعارف اللغة، إلى شفوف رأي، وحسن فقه في الواقع. ومع تقلّص ظل العلم، وغلبة الأهواء، قيس الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، وحكّمت الآراء في معرض النصوص، وابتلي الفقه في وِرده وصدره بجمود على المنقولات لم يزد الناس إلا تنكّباً عن الهدى، وضلالاً في التيه.
وإذا كان الاجتهاد يُكسِبُ الفقيهَ مَلَكة الاستنباط، والدربة على تحقيق المناط الخاص، وحكمة في الفهم والتنزيل؛ فإن التقليد لا يأتي بخير؛ وآية ذلك أن كثيراً من فقهاء النقل تَعْرِض لهم نوازل وحوادث لا يجدون لها في مذاهبهم نظيراً تُردّ إليه أو أصلاً تُخرّج عليه، فيقفون منها موقفاً ليس من الفقه في شيء، فيفتون بالمنع مثلاً، والأمر يقتضي تحقيق المناط، وإعمال المقاصد، للوصول إلى الحكم المسدَّد في صورته التجريدية، ومآله الواقعي.
ويحضرني هنا مثال حيّ للجمود الفقهي، وهو أن الناس أيام الفتنة البربرية بقرطبة، كانوا يتوجّسون خيفة من هجوم مُتَلَصِّصَةِ البربر عليهم في الدروب والطرق الموحشة، فسألوا الفقهاء عن حكم الجمع بين المغرب والعشاء تفادياً للخروج في الليل والتعرض لأخطار السرقة والنهب والحرابة؛ فما استطاع أحد منهم أن يفتي بشيء، مع أن رخصة الجمع تشهد لها أدلة معتبرة من الشرع.
- ثانياً: تقديم الراجح على الضعيف:
نقصد بالراجح ما صح دليله وقوي مدركه، لا ما كثر قائله كما في اصطلاح بعض المذاهب؛ لأن الكثرة ليست معياراً للصواب، أو دليلاً على الرجحان في كل حال، وكثيراً ما يخالف إمام من الأئمة جمهور الفقهاء أو ينفرد عن عامتهم بقول، ويكون الحق حليفه، والدليل مرشده.
أما الضعيف فضربان:
الأول: ضعيف المدرك، وهو ما عَرِيَ عن الدليل، أو ناقضه، ومثاله كل مسألة خالفت نصاً أو إجماعاً، أو قياساً جلياً، أو قاعدة معتبرة.
الثاني: ضعيف نسبي، وهو ما عارضه دليل أقوى منه، فيكون قوياً في ذاته، ضعيفاً إذا قيس بغيره.
ولما كان الضعيف من جنس المرجوح؛ فإن الراجح يقدَّم علي المرجوح، وبهذا أخذ بعض فقهاء المذاهب كالمالكية من المصريين، حين لم يجز الفتوى بالضعيف على الإطلاق؛ فإذا لم يوجد في المذهب إلا الضعيف أو الشاذ، جاز الانتقال إلى مذهب آخر، والعمل بقوله الراجح.
بيد أن بعض الفقهاء أجاز الإفتاء بالضعيف عند الضرورة، وقيّد ذلك بشروط وضوابط، نعدّ منها:
أ - أن لا يكون الضعف شديداً.
ب - أن يُعرف قائله؛ خشية أن يكون ممن لا يُقتدى به علماً وحالاً.
ج - تحقُّق الضرورة في نفس المستفتي (?) .
- ثالثاً: تقديم التدليل على التجريد:
الدليل لبّ الفتوى وروحها؛ لأن الله ـ عز وجل ـ يُعبَد بالنص لا بقول مجرَّد، أو صيغة عارية، وقد بلغ اختصار الفتاوى وتجريدها عن كل تدليل أو تعليل حدّاً يصوّره ما حكاه ابن حمدان في كتابه (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) من أن فقيهاً سئل: أيجوز كذا؟ قال: لا (?) ؛ لذلك انتصب ابن القيم للدفاع عن المنهج الاستدلالي في الفتوى، وبيان فوائده وعوائده حين قال: «عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أوْلى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله، وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذِكْرُ قول الله ورسوله، إلا طراز (*) الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به؛ فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ من عهدة الفتوى بلا علم» (?) .
فإذا كان منهج التدليل يقيم الحجة على المستفتي، ويبرئ المفتي من عهدة الإفتاء بلا علم محكم، فإن منهج التجريد فتح الذريعة لترك الأدلة، وترويج الفقه الجامد، مع استطالة على الحقائق، وتعلّق بالواهي والسقيم.
ولئن كان التجريد يُحمد في مواضع ضيّقة نبّه عليها بعض الفقهاء؛ فإن القاعدة العامة أن تُحلّى الفتوى بالدليل، وتُعزّز بالبيان الكافي، بل إن المقام يقتضي أحياناً تفنيد الشبهات، ونقض أدلة المخالفين بما يجلّي وجه الحق، وييسر سبل الاقتناع به، والامتثال له.
- رابعاً: تقديم التعليل على التعميم:
من حلية الفتوى وزينتها أن تُعرض مجلوة الأسرار، موصولة العلاقة بحكمة الإسلام في التشريع؛ لأن بيان العلة والحكمة تقتضيه طبيعة العقل البشري التي تستسيغ المعلَّلات المفسَّرات، وتُعرض عن المجمَلات المبهمات، كما تقتضيه في الوقت ذاته طبيعة العصر الذي استحكمت فيه النزعات المادية والإلحادية، وراجت التيارات العقلانية المؤمنة بالبرهان العقلي والحجة المنطقية.
والتعليل منهج القرآن والسنة في عرض الأحكام، ونصب الدلائل، وقد اطَّرد هذا المنهج في الكليات، كقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] . وقوله ـ تعالى ـ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وفي الجزئيات كقوله ـ تعالى ـ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] .
ولم تخلُ السنَّة أيضاً من تعليلات صريحة كقوله -صلى الله عليه وسلم- عند نهيه عن ادِّخار لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم من أجل الدافَّة» (?) .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في معرض بيان فائدة التعليل: «وإلقاء الفتوى ساذجة مجرّدة من حكمة التشريع، وسرّ التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول؛ بخلاف ما إذا عرفت سرّها وعلّة حكمها، وقد قيل: إذا عُرِف السبب بطل العجب» (?) .
على أن المفتي لا يلزمه تكلُّف التقصيد، وتمحُّل التعليل، فالعلّة تُعرف بأحد المسالك المقرَّرة عند الأصوليين، كالإجماع والنص والتنبيه والإيماء والمناسبة والاستقراء، وربما تخفى عن الأنظار، وتستعصي على الكشف، فيُجتنب حينئذ التخوُّض فيها بالقول المجرَّد، والرأي المرسل؛ إذ لا تقصيد ولا تعليل إلا بدليل معتبر، وهذا لا يمنع أن يستمر التنقير عنها حتى تنقدح للمجتهد أو المفتي، ولهذا التنقير أيضاً مسالك تُتبع، وأدوات يُتوسل بها، فلا يخلو الأمر من كدّ الذهن، وإعنات الخاطر.
- خامساً: تقديم الأيسر على الأحوط:
إن الأدلة على رفع الآصار والأغلال عن كاهل هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (?) ، فضلاً عن وفرتها واطِّرادها في المصادر الإسلامية كتاباً وسنةً وأثراً وقياساً وعملاً، ويكفي أن نستحضر هنا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً» (?) ؛ فإنه نص في أولوية التيسير، وضرورة حمل الناس على مذهب الوسط، فلا يميل بهم إلى شدّة منفّرة من الدين، ولا يجنح بهم إلى انحلال ناقضٍ للعرى، هاتكٍ للحرمات؛ «ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين» (?) .
والتيسير هنا لا مدخل له في تصيّد الرخص، وتتبع الحِيَل المحرمة، لإسقاط الأحكام والتنصُّل منها؛ لأن الأصل أن تنقَّح فيه الضرورة وتقدَّر، ويُعمل بالرخصة في محلّها، وتُحترم قواطع الأدلة والقواعد، فلا بدّ إذن! من صدور التيسير من عارف ثقة، وهذا ما أصّل له الإمام سفيان الثوري في قاعدته الذهبية: «إنما الفقه الرخصةُ من ثقةٍ، أما التشديد فيحسنه كل أحد» (?) .
ومن ثم فإذا خُيّر المفتي بين قولين متكافئين، اختار أيسرهما تأسّياً بمنهج المعلّم القدوة -صلى الله عليه وسلم-، ما لم يكن في التيسير إثم ينقض عرى الدين، ويمسّ حرمات المسلمين، وله أن يكون شديد الأزر على نفسه فيأخذ بالأحوط تورّعاً، أو يفتي به صاحب ورع شديد ودين متين، إذا أمن منه ركوب التنطّع والغلو في الدين، وهذا معلوم من سيرة السلف الصالح، ومأخوذ عنهم في آداب الإفتاء.
- سادساً: تقديم صياغة البديل المباح على المنع المجرد:
من فقه المفتي أنه إذا منع شيئاً، ذكر بديله المباح رفقاً بالمستفتي وتيسيراً عليه؛ فالشرع لم يمنع المحرمات إلا وعوّض عنها بأبدال تسدّ مسدها وتغني غَناءها أو أكثر؛ إذ إن تجريد الممنوع عن بديله المباح كتشخيص الداء دون وصف الدواء، وهذا ليس من العلم النافع في شيء.
ولعل بدائل الحلال وأعواض المباح في الكتاب والسنة من الوفرة والكثرة بالدرجة التي يتعذر معها الإحاطة والاستيعاب؛ وذلك مقصود لرفع الحرج عن هذه الأمة، وسدّ حاجاتها، ونقلها من أوضاعها المنكرة بأسلوب الحكمة والتبصّر؛ لذلك قال الفقهاء: في الحلال ما يغني عن الحرام.
ومن المؤصلين الرواد لفقه البدائل ابن القيم الذي أكد أن التبصر الفقهي في الدعوة يقتضي إزالة المنكر مع الإرشاد إلى ضده، يقول: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون وغيرها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع» (?) .
ثم يمثّل ابن القيم للعالم المرشد إلى البدائل بالطبيب الناصح للمريض باجتناب ما يضره، وتعاطي ما ينفعه، فهو من هذا الوجه طبيب الدين: «وهذا لا يتأتّى إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجَرَ الله، وعامله بعلمه؛ فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه؛ هذا شأن أطباء الأديان والأبدان» (?) .
- سابعاً: تقديم التمهيد الضروري على المباغتة:
إن من الفقه والبصيرة أن يوطِّئ المفتي للحكم المستغرَب بمقدمة تطرد وَحْشته عن النفوس، وتعالج النفور منه بأسلوب التدرّج والرفق؛ لأن من شأن النفس التنكّب والازورار إذا ما دُعيت إلى خلاف ما ألفته؛ فالافتكاك عن مألوفاتها تقف دونه عقبة التعود والإلف حيناً، وعقبة العناد والمكابرة حيناً آخر، مما يقتضي بسط مقدّمات ممهّدات تهيئ الجو النفسي لتقبّل البديل الجديد.
فمن آداب الفتوى الموضوعية، إذن، أن يُساق بين يدي الحكم المستغرَب الجديد تمهيدٌ يرفع الوِحشة، ويعالج النفور، وهذا ما أكد عليه ابن القيم أخذاً للناس بالرفق، وحماية لمآل الحكم، يقول: «إذا كان الحكم مستغرَباً جداً مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مُؤْذِناً به كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه» (?) .
- ثامناً: تقديم قول المتقدّم على قول المتأخّر:
إن المتقدمين من أعرف الناس بملابسات الوحي، ومقاصد الشريعة، وأسرار العربية، وقولهم لا يوزن بمنزلتهم من الاجتهاد والورع فقط، بل بموافقة الحق، وإصابة الدليل، لكن أنظارهم في المسائل الظنية والاجتهادية أقرب إلى الصواب من غيرها «لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» (?) ، ولا يُعتمد هذا الرأي حكماً لله ورسوله إلا بنصْب الدليل الذي لا معارِض له.
وقد كان الشاطبي من أكثر الناس اعتماداً على كتب المتقدمين، واستضاءةً بفهوم الأولين، لما ظهر على المتأخرين من القصور في التحرّي، والتراخي في تحصيل العلم الأكمل، والاجتزاء بالنقل وتحكيم آراء الرجال. يقول: «فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فَهِمَ منه الأولون؛ وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل» (?) ، وفي أولوية تقديم أعمال المتقدمين على أعمال المتأخرين يقول: «فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم علي خلاف المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سِيَرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى» (?) .
ولا يمنع هذا أن يكون الحق أحياناً حليف المتأخر، فيستدرك على المتقدم ما فاته، أو يصحح هفوته، وكم خفي على المتقدمين من أخبار وآثار، وأصبحت في متناول خلوفهم بسبب تطور أسباب العلم، والتئام مادته في كتب محرَّرة، وتآليف حافلة.
- تاسعاً: السكوت عن الإجابة غير المقيدة:
يُقدَّم سكوت المفتي على الإجابة في مواضع، كأن يُسأل المفتي عما لا ينفع، مما يُراد به حيناً المِراء والجدل كالسؤال عن المبهمات الغيبية التي لم يرد فيها نص قاطع، ويُخشى من الجواب عنها إثارة القيل والقال، وتشويش الأذهان. أو يُراد به حيناً آخر الإغراب والمعاظلة والتعنّت وتصفير الوجوه، كالسؤال عما يندر وقوعه أو يستحيل.
وقد عدّد الشاطبي عشرة مواضع يُكره فيها السؤال (?) ، وأكّد على أن أحكامها متفاوتة بين الكراهة الخفية، والكراهة الشديدة، والحرمة، تبعاً لتفاوت درجات التكلّف المذموم، والتعمّق المنافي لهدي السلف.
وخير ما يتمثل به في معرض التأكيد على هذه الأولوية قول بعض العلماء: «إن من المسائل مسائل جوابها السكوت» .
- عاشراً: تقديم الفتوى الجماعية على الفتوى الفردية:
إن الإفتاء في بعض النوازل والحوادث يفتقر إلى تحقيق المناط الخاص، وهذا الضرب من التحقيق لا يستقيم إلا باجتهاد جماعي يقلّب النظر في وجوه المسألة، لا سيما إذا كانت من مستجدات الطب أو الاقتصاد أو الزراعة؛ فإن فهم الواقع فيها يتوقّف على استشارة المتخصص وتقريره العلمي؛ فإذا تجلّى الأمر لأنظار الفقهاء استفرغوا وسعهم في استنباط حكم شرعي مناسب، على أن يُراعى في اجتهادهم الإنجاز الجماعي؛ لأنه أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل.
وبعد: فهذه معالم مضيئة على محجّة الإفتاء الشرعي، قصدنا من تجليتها تذكير أهل الصنعة بأصول معتبرة وآداب مرعية في الاستدلال ومنهج التنزيل وأدبيات الخطاب.
ولتكن هذه المعالم أيضاً تذكيراً لأدعياء العلم بقدسية الفتوى وهالتها المستمدة من مشكاة النبوة، حتى لا تُنتهك محارمها، وتصير كلأً مباحاً لكل راتع!