د. إبراهيم بن صالح الحميضي
لقيتها على غير ميعاد، فقلت: يرحمك الله، إنَّا إلى خبرك بالأشواق؛ فبالله عليك حدثينا عن نفسك، وكيف حالك الآن؟ فقالت: لقد كبرت سني، ووهن عظمي، ولولا أنك سألتني بالله ما حدثتك. لقد أعلى الإسلام شأني، وعظّم مكاني، ورفع عنواني، وجعل المحافظة على وصالي آيةً على الصلاح والاستقامة، وبراءة من الضلالة والغواية.
وقد عرف سلفُ هذه الأمة مكاني، وصانوا جنابي، ولم ينقطعوا عن وصالي، بل قدموه على شهواتهم وحاجاتهم؛ فلم يصرفهم عن القيام بحقي صارف، ولم يشغلهم عن ملازمتي الأصحابُ والمعارف. ثم إنه خلف من بعدهم خلوف خفَّ عندهم ميزاني، وهان في نفوسهم مكاني.
فقلت: يرحمك الله! حدثينا عن سلف هذه الأمة وأحوالهم معك؛ فلعل هِممَنا تتحرك لسماعها، وعزائمنا تتقوى لعظاتها.
قالت: لقد أحسن صحبتي أناس كثيرون، وتعاقب على وصلي رجال مَرْضِيُّون، لا يملون مجاورتي، ولا يفترون عن ملازمتي، وإنْ أنسَ فلن أنسى الإمام سليمانَ بن مهران الأعمش الذي ظل سبعين عاماً لم يفارق سوادُه سوادي، لقد أرغم الشيطانَ، فلم يقدر عليه سبعين عاماً.
فقلت: الله أكبر، ما أطولَ صبرهم على الطاعة، وأعظم جلدهم في العبادة! ومَنْ غيرُ الأعمش؟ قالت: وأبو محمد، قلت: ومن أبو محمد؟ قالت: ثكلتك أمك! أما تعرف إمامَ أهل المدينة (سعيد بن المسيب) الذي لم ينقطع عن ملازمتي أربعين عاماً؟ رحمك الله يا سعيد! فحينما وقعت الحرَّةُ، ولزم الناسُ بيوتهم، أبيتَ الانقطاع عني، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مسلم بن عقبة بأنك مجنون لقتلك! رحمة الله عليك، وحينما أشار عليك بعض أصحابك بالخروج إلى البادية أبيتَ من أجل ألا تنقطع عني؛ ولم يزل ـ رحمه الله ـ قائماً بحقي رغم ما أصابه من الفتن، حتى لحق بربه، فحزنت لفقده حزناً كبيراً، وكان مما زاد في حزني وضاعف في مصيبتي أنه في السنة نفسها ـ سنة الفقهاء ـ فقدتُ عابد الكوفة الإمام (إبراهيم بن يزيد التيمي) الذي لم يزل ملازماً لي، حتى قيَّده الحجاج بن يوسف بالحديد، فقتل فيها أو مات، لقد قال هذا الإمام كلمة ما أُحب أن لي بها الدنيا. قلت: وماذا قال؟ قالت: ويحك ألم تسمع قوله: إذا رأيتَ الرجل يتهاون بها ـ يعنيني ـ فاغسل يديك منه؟ قلت: قدَّس الله روحه، أرأيت لو أدرك زماننا هذا كم من الناس يبقى لم يغسل يديه منه؟! قلت: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قلت: فلو حصل أن تخلف أحد منهم عن وصلك كيف يصنع؟
قالت: لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لمرض مفسد، أو سفر مبعد، أو عذر مقعد، ومع ذلك يبادر أحدهم إلى التوبة ويندم، ويستكثر من الطاعات ويغنم؛ فهذا قاضي بغداد العلاَّمة (محمد ابن سَمَاعَة) مكثتُ أربعين سنة لم ينقطع عن مصاحبتي إلا يوم ماتت أمه؛ فكرر زيارتي خمساً وعشرين مرةً، عوضاً عمَّا فاته.
قلت:
لا تعرضن بذكرنا معْ ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
ثم قلت لها: حدثينا عن أهل زماننا هذا!
قالت: لقد طلبتني عسيراً، وأقحمتني كبيراً؛ فعن أي شيء من شأنهم تستخبر؟
قلت: عن أحوالهم معك؟
قالت: لقد جفاني أكثر أهل زمانكم هذا، ولم يعبؤوا بحالي، ويعرفوا مكاني، ويحزنني أن ترى الرجل يُحسَبُ من أهل العلم والديانة، ومع ذلك تصرفه عني الصوارف، وتلفته اللوافت، وأشنع من ذلك أن ترى الرجل قد بلغ الستين ـ وقد أعذر الله إلى أمرئ حتى بلَّغه ستين سنة ـ ثم تراه يبيعني بدرهمين أو ثلاثة، يُقبِل على دنياه حتى إذا أردتُ الرحيل أقبل يسعى كالصبيان ثم لا يلقاني؛ فإلى الله أشكو غربتي، وهواني على الناس. ثم حوَّلت وجهها وجعلت تبكي، وإذا هي (تكبيرة الإحرام) .