أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يخطئ من يظن أن التيارات العلمانية في العالم العربي بمختلف اتجاهاتها الفكرية، وولاءاتها الداخلية والخارجية، تحمل
والعجيب أنهم حينما يتهمون الإسلاميين بغياب المشروع، وبالتقليد والماضوية.. ونحوها من الاتهامات المستهلَكة، يوهمون أنفسهم وأتباعهم وقراءهم بأنهم مجددون إبداعيون، يتميزون بالتحرر الفكري والانطلاق الثقافي والتجديد المعرفي ـ هكذا زعموا ـ مع أن الواقع يحكي شيئاً آخر.
تأمل إبداعهم السياسي، فسوف تجد أنه لا يتجاوز الدعوة إلى الديموقراطية الغربية، ولا يجدون حلاً للإصلاح السياسي ولمواجهة الدكتاتوريات القمعية إلا الاندفاع المهين تحت أعتاب أسيادهم البيض، والاستقواء بهم، حتى إن بعضهم رفع شعار (الليبرالية هي الحل) في برنامجه الانتخابي قبل أسابيع قلائل.
وإذا كان الولاء للاستعمار سبّة سياسية في وقت مضى من الأوقات؛ فهو الآن عند هؤلاء المبدعين مطلب من مطالب النهضة والتغيير، وزينة يتدثرون بها لا تثير الخجل، بل تدعو إلى التفاخر والتعالي.
وتأمل كذلك رؤيتهم وبرامجهم الاقتصادية، وسوف تجد أن النظام الرأسمالي الغربي بكل طغيانه ونفعيته هو خيارهم الوحيد، ويزعمون أنه لا يمكن أن يقوم نظام اقتصادي ناجح إلا بالربا، ولا يمكن الاندماج الاقتصادي في المنظومة التجارية الدولية إلا باستخدام الفلسفة الرأسمالية.
أما تحررهم الفكري الذي يتشدقون به في كل محفل من محافلهم فهو يعني: التيه في مدارس الفكر الغربي، واجترار المناهج والفلسفات المادية، مع قطيعة معرفية شاملة مع تراث الأمة وعقيدتها، ويتبع ذلك الدعوة إلى تفكيك مصادر التلقي عند الأمة، والجرأة على نقد المقدسات والمسلَّمات الشرعية، والاحتفاء بالفجور والزندقة والانحلال الفكري.
وأما التحرر الاجتماعي الذي يُبشرون به فغايته الكبرى عندهم: الانعتاق التام من قيود الشريعة، واستيراد كافة النظم والقوانين الغربية، وفرضها على الناس قسراً. وما المانع عندهم من أن تتحول مجتمعاتنا إلى مستنقعات آسنة تملؤها الرذيلة، ويعمرها الزنا والشذوذ الجنسي إذا كان ذلك من متطلبات الثقافة الأممية المشتركة التي ترعاها الأمم المتحدة؟!
وحتى في مجال الأدب والنقد نرى تميزهم في الدوران في فلك مدارس الحداثة الغربية، وما بعد الحداثة، وتختلف إمكاناتهم في مدى قدرتهم على الفهم والاستنساخ فحسب، فصبغوا الأدب بلون فكري ملوَّث مذبذب لا يُخفي سقوطه، بل غيبوبته في مستنقع التيه الغربي (1) .
إن مشروع التغيير ـ ولا أقول الإصلاح ـ العلماني بكل أبعاده الثقافية، ورهاناته السياسية البائسة، يعتمد على مبدأين رئيسين:
الأول: نقض المشروع الإسلامي بكل مقوماته الفكرية والاجتماعية والسياسية.
الثاني: محاكاة المشروع الغربي بكل تناقضاته وتقلباته الفكرية، حذو القذة بالقذة (2) .
ومهما حاول صنّاع التغريب تلميع مشروعهم المستورد، والحديث بلغة متعالية تزدري كل ما حولها؛ فإن الأكاذيب الهشة المؤسسة له تفضحه، ويكتشفها عامة الناس في لحن القول..!
قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] .
وهاهنا يأتي حقاً دور الإسلاميين: فنحن نملك رؤية للإصلاح والنهضة مستقلة، تستمد أصالتها من جذورنا العقدية العلمية، ومن امتدادنا التاريخي والحضاري. لكن ربما لم يُحسِن بعضنا عرضها للناس بطريقة صحيحة؛ ولهذا فإن التحدي الحقيقي الذي يواجهنا هو في القدرة على تقديم تلك الرؤية بشمولية ناضجة تستوعب المتغيرات الإقليمية والدولية، وتعالج المستجدات بواقعية مدركة لطبيعة المرحلة.
يؤلمني أننا ندرك ذلك، لكننا أحياناً قد نستسلم للهجمة العلمانية، ونحاول التوفيق التعسفي بين رؤيتنا الإسلامية، ومناهج الفكر الغربي، بحجة الواقعية تارة والمرحلية تارة أخرى، ونضطر للتنازل أو التجاوب مع بعض جوانب التغيير العلماني، ونردد مصطلحاتهم وشعاراتهم، وتكون جزءاً من برنامجنا في التغيير، دون أن نستوعب أبعادها الحضارية والسياسية. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . [الكهف: 28]