د. عبد السلام رياح
نحصر الرؤيتين المذكورتين في العنوان فيما يتحكم بثقافة تريد الخير للناس، وتمهد أسبابه وسبله من أجل الوصول إليه، وهو ما نسميه «ثقافة الرحمة» ، وفي ما يسلك سبلاً أخرى مخالفة، غير مكترث من لدن أصحابه بشيء مما يحقق نفعاً للإنسانية، محكومين في ذلك كله بعزة تأخذهم بأنهم أعلم الناس، وأفقه الناس، وأجدر الناس بألاَّ يعزب عنهم شيء من قضايا الحياة،
ولكي يتبين لنا ما نريد بكلامنا هذا؛ فإننا نحبذ أن نحدد المفاهيم الأساسية التي يدور عليها هذا المقال، حتى يسير عملنا على صراط مستقيم ويُدفَع اللَّبسُ والغَبَش عما نقول، وليكن ذلك في الآتي:
- تحديد المفاهيم:
أ - مفهوم الثقافة:
ترجع دلالة الثقافة في اللغة إلى الحَذَق، والفهم، وسرعة التعلم، والظفر، والأخذ، والتسوية.
قال ابن منظور: «ثَقِف الشيءَ ثَقْفاً وثِقَافاً وثُقُوفَة، حذِقه، ورجل ثَقْف وثَقِف وثَقُف، حاذق فهِم، ويقال ثقِف الشيءَ، وهو سُرعة التَّعلم، وثِقف الرجلَ ظَفر بِه، وثقِفنا الرجلَ بموضع فلان؛ أي أخذنَاه، وتَثقِيف الرِّمَاح تَسويِتُها» (?) .
وقال صاحب القاموس المحيط: ثَقُف ككَرُم وفَرِح، ثَقْفاً وثَقَفاً وثَقَافَة، صار حَاذِقاً خفِيفاً فَطِناً، وثَقِفَه كسمِعه صَادَفَه، أو أخَذَه، أو ظَفَر به، أو أدرَكَه، وثَقَّفَه تَثقِيفاً: سَوَّاه، وثَاقَفَه فَثَقَفَه كنَصَره، غَالَبَه فغَلَبَه في الحِذقِ» (?) .
وقال الراغب الأصفهاني: «الثَّقْفُ: الحِذقُ في إدرَاك الشيء وفعله، ومنه استُعِير المُثَاقَفَة، ويُقال: ثَقِفتُ كذا إذا أدرَكتَه ببصَرِك لحِذقٍ في النَّظر، ثم يُتَجوَّز به فيُستَعمَل في الإدرَاك وإن لم تَكُن معه ثَقافَة» (?) .
أما في الاصطلاح فقد تعددت مفاهيم الثقافة تبعاً لموقع رؤية كل مدرسة اهتمت بها وبما يُعد من مكوناتها، إلا أننا نريد بها في مقالنا هذا: طبيعة الرؤية التي تتحكم في المرء فيأتي ما يأتي في حياته، ويذر ما يذر، منطلقاً من ملامح عقلية تميز سيرورة حياته.
ب - مفهوم الرحمة:
وأما «الرحمة» فترجع في اللغة إلى الرقة، والعطف، والمغفرة.
قال ابن منظور: «الرحمة: الرقة والتعطف، والرحمة المغفرة، وترحم عليه دعا له بالرحمة» (?) .
وقال صاحب القاموس: «الرحمة ـ ويُحرَّك ـ الرقة، والمغفرة، والتعطف» (?) .
وفي الصحاح: «تراحم القوم: رحم بعضهم بعضاً» (?) .
والرحمة في الاصطلاح تنصرف إلى تشكيل رؤية خاصة تجاه الإنسان والكون والحياة؛ فهي «حالة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان» (?) ، الذي يكون بالمعنوي كما يكون بالمادي.
ج - مفهوم الاستكبار:
وأما «الاستكبار» فيرجع في اللغة إلى الاستعظام، والتعاظم، «واستكبر الشيء: رآه كبيراً وعظُم عنده، وأَكبَرتُ الشيءَ: أي استعَظَمتُه، واستِكبَارُ الكفَّار ألاَّ يقولوا لا إله إلا الله، والتكَبر والاستكبار، التَّعظُّم، وقد تكبر، واستكبر، وتكابر، وقيل: تكبر، من الكبر» (?) .
وأما الاستكبار في الاصطلاح فهو أن يرى المرء نفسه أكبر من غيره، طالباً «ذلك بالتشبع وهو التزيين بأكثر مما عنده» (?) .
- ثقافة الرحمة:
ونعتزم الوقوف على المواصفات التي تتميز بها ثقافة الرحمة في الآتي:
أ - إخلاص العبودية لله تعالى:
إن من الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة إخلاصَها العبودية لله تعالى، وهي معتبرة من المحددات الأساسية التي تبين طبيعة القِبلة التي يُولِّي المرءُ وجهه شطرها، كما تتحدد من خلالها طبيعة الرؤية التي يصدر عنها؛ ذلك لأن الرؤية تمثل الضابط الذي بالانطلاق منه تتحدد الأشياء وتتحدد العلاقة التي تربط المرء بها.
وإخلاص العبودية لله ـ تعالى ـ أمر موجه إليه شرعاً وعقلاً؛ فقد قال ـ سبحانه ـ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105] ، وهو أمر مباشر من الله ـ تعالى ـ لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي لنا فيه أسوة حسنة.
ويقول ـ عز وجل ـ في الأمر نفسه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، وهو ملمح من الملامح الأساسية التي يتبين من خلالها أن الإنسان قبل أن ينصرف إلى الاعتقاد في عقيدة أخرى غير الإسلام، يكون مفطوراً على الإيمان بدين الله تعالى، والإيمان به؛ لأنه رب الكون الذي ينبغي أن يتوجه إليه كل الناس بالعبادة، وهو الأمر الذي يؤكده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (?) .
ومن الدلائل العقلية التي تجعل الانصراف إلى الله بإخلاص الدين والإيمان، كون غيره لا يملك للمرء ضراً ولا نفعاً، والدلائل الواقعية أكبر من أن تحصى في هذا الباب. ومن المفارقات الغريبة، بهذا الخصوص أن نجد كثيراً ممن منَّ الله ـ تعالى ـ عليه بعلم ومعرفة وثقافة واسعة يُنكِر التوجه إلى الله ـ سبحانه ـ بالعبادة، ونجد غيره ممن اعتُبر أُمِّيّاً يعرف طريقه التي ينبغي أن يسير عليها الأمر كله، فنقول إنه أوعى من سابقه، وأقوى بصيرة من كثير ممن يعدون مثقفين، إلا أنهم لم يستفيدوا من ثقافتهم شيئاً ولم يضيئوا بها طريقاً، ويرحم الله الأعرابي الذي كان يتردد على «صَنَمِهِ» صباح مساء، وذات مرة جاءه على عادته، فوجد ثَعلَباً يَبُول عليه، فقال قولاً مشهوراً ينبغي أن يتَّخذ موقعَه في الأذهان: (الطويل) .
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَان بًِرَأسِه؟!
لَقد ذَلَّ مَن بَالَتْ عَليه الثَّعَالِبُ
ولم يهدأ له بال إلا بعد أن حط رحاله عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه (?) .
ب - التسامح الإيجابي:
ومن الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة خاصية التسامح التي ربطت ها هنا بوصف أراه ضرورياً، حتى لا يسود الأذهانَ لَبْس بخصوصه،؛ ذلك لأن «التسامح» صرنا نسمعه في كل حدب وصوب، وينادي به من لا يمارسه، مستهدفاً به أن يتحقق لدى غيره، فيصيبه، كما يصيب أيديولوجيته، نفع عميم، وحينما يتعلق الأمر به باعتباره مُمَارِساً ينطلق منه الفعل، فآنذاك يتخذ التسامح مفهوماً آخر يَِزْوَرُّ به عما كان مُتَبَنّى من قبل.
لقد وُصِف «التسامح» بوصف «الإيجابي» حتى يتحدد من خلاله موقع الرؤية الذي نريد الانطلاق منه؛ ذلك لأن المفهوم يعود إلى أصول سابقة عليه، تتمثل في المحبة والإخاء والرغبة في سيادة الخير بين الناس، وليس المراد هو التعامل المتبني «للانتهازية» و «النفعية» اللتين تؤسسان لرؤية تسود لدى من اتخذ مكاناً قصياً من رؤيتنا هاته، وهو ما نجد الإشارة المنكِرة على أصحابه في القرآن الكريم في قول الله ـ تعالى ـ: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] .
ومن تجليات التسامح الإيجابي حب الخير للناس أجمعين، والتجاوز عن هفواتهم التي تبين أنهم إنما هم مُغرَّرٌ بهم، مع رجاء العودة وفتح الصدر في رضىً وسَعَة. قال ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وهو قول لا ترى من خلاله الرغبة في إلحاق الضرر بالآخرين، رغم أن منهم من ألحق الأذى بإبراهيم ـ عليه السلام ـ ومنهم من جاوز أذاه كل حد مطاق، فبلغ به الحقد والصلف حد إلقائه في النار.
ج - معرفة قَدْرِ ابن آدم:
ومن الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة أيضاً الدعوة إلى معرفة المرء قدر نفسه «ورحم الله من عرف قدره» ، فقبل أن يتطاول، وقبل أن ينصرف ببصره إلى مواطن العظمة لديه، ينبغي له أن يصرف اهتمامه إلى الانتباه إلى مواطن الضعف فيه، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
لقد وضع القرآن الكريم سبَّابة الإنسان على مثل هاته المواطن التي تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أمره جملة ليس موضوعاً فيه الحبل على الغارب؛ فذكَّره بسيرورة حياته بقوله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . ونبهه إلى أصول الضعف لديه وإلى بداياته الأولى قبل أن يكون شيئاً، لافتاً بصره إلى أن العلم الذي يباهي به كثير من الناس، إنما هو مكتسب، مما يدل على كونه طارئاً غير عائد إلى المنطلقات الأصول، فقال ـ سبحانه ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ، بل أكثر من ذلك نبَّهه إلى كونه جملة وتفصيلاً لم يكن شيئاً يذكر، فقال ـ عز من قائل ـ: {أَوَلا يَذْكُرُ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] .
إن ثقافة الرحمة تعرف هذا جيداً وتنبه عليه بغية العض عليه بالنواجذ حتى لا يصاب المرء بغرور قد يأتي على الأخضر واليابس، ونسأل الله العافية.
د - شكر النعمة:
ولما كان حال المرء على هاته الشاكلة، وكانت حقيقته على هاته الصورة، كان أوْلى أن يذكر نِعَمَ الله التي تحيط به من كل حدب وصوب، يراها كلما استدار، ويجد أثرها أنى حل وارتحل، وآنذاك يكون متوجباً عليه أن يقابل عطاء الله بالشكر، وأن يديمه به؛ ذلك لأنه قد ورد في الحديث النبوي الشريف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر» (?) .
ولكي يتحقق داعي الشكر ينبغي أن يتحدد الموقع الذي يستقر فيه المرء في حياته، ولن يتحقق ذلك على الوجه الصحيح إلا باستحضار صورة من يستقر في موقع أدنى من موقعه، ولذلك تجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «انظروا إلى مَنْ أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله» (?) . وهو ما ينسجم مع قول بعضهم: «صحبت الأغنياء فلم أرَ أحداً أكبر همّاً مني: أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت» (?) .
إن هاته الرؤية هي ما يتحكم بأفعال المسلم وأقواله وإحساساته، فيستحضر أن كل ما يملكه أو ما هو طوع يمينه إنما هو في حقيقته مسخَّر له من لدن الله تعالى، وحينئذ يسوده إحساس نابع عن اعتقاد أن الأمرَ جملةً عائدٌ إلى إنعام الله عليه، ولذلك فإن الصواب عقلاً وخلقاً يفرض أن يعود إلى المنعم عليه بشكر ما أمده به.
- ثقافة الاستكبار:
إن هاته الثقافة ليس شرطاً أن نجدها محددة في اسم معين يحيل على جهة من الجهات، وإنما الشرط هو أن نعثر على الملامح التي سنذكرها، فيما بعد، في رؤية حياة انعكست على قول أو ممارسة أو إحساس، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه من أجل إدراج ثقافات مختلفة ـ يجمعها قاسم/ قواسم مشتركة ـ يكون لها كِفْلٌ مما نقول.
إن ملامح هاته الثقافة ـ على كثرتها وتشعُّبها ـ نراها داخلة بوجه من الأوجه في الآتي:
أ - التعاظم:
إن كل فرد تراه يعاني من خصلة التعاظم هاته يحق لك أن تصنفه في ثقافة الاستكبار التي تستصغر من كان على رؤية أخرى؛ فكأنها تمثل الرؤية الفاصلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وكل ما عداها هُرَاءٌ وتُرَّهَات، ويرحم الله من سمَّى أصحابها أصحاب «المرايا المحدبة» ؛ ذلك لأنهم ينبهرون بذواتهم أيَّما انبهار، وينتقصون من أقدار غيرهم ممن لم يكن على ما هم عليه؛ فكأنهم حين يرون ما يخصهم يستخدمون «مرايا محدبة» ، وهي المرايا التي من خصائصها عكس الصورة بشكل أكبر من حقيقتها، وإن أرادوا رؤية غيرهم استخدموا «مرايا مقعرة» ، وهي التي من خصائصها تصغير الأجسام التي تنعكس عليها (?) .
إن هذا الأمر في واقعه ليس جديداً، وإنما هو قول كانت قد نطقت به أمم أخرى في سالف الدهور؛ فقد قال الملأ من قوم نوح ـ عليه السلام ـ لنبيِّهم: {مَا نَرَاكَ إلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . وهو قول يظهر منه الانشداد إلى سحر المظاهر؛ ذلك لأن المظاهر، تبعاً لما استقر في هاته الرؤية، تعد المقياس الأول، بل الوحيد، الذي تقاس به الأشياء من أجل تحديد قيمتها.
وقال قومُ نبيِّ الله شعيب ـ عليه السلام ـ: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] . فطبيعة رؤية هؤلاء كانت تفرض عليهم الاحتكام إلى المظاهر من زاويتين: أولاهما: ما تعلق بضعف المخاطَب، وهي تقتضي استصغاره والتهوين من قدره، ومن ثم عدم الالتفات لما يقول. وثانيتهما تتمثل في استحضار ما يمكن أن ينتج عن إلحاق الأذى المادي بالمقصود بالخطاب/ الرجم. إنها رؤية تحتكم لقانون المظاهر من قوة وضعف، وحاشية ومحيط، ولا شيء غيرها.
ومن جهة أخرى نجد من كانت رؤيته على هاته الشاكلة يقتفي أثر قارون الذي آتاه الله مالاً فظن أنه إنما أوتيه بذكائه وفطنته. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] ، وهي رؤية ليست مقتصرة على هذا أو ذاك، وإنما هي سارية بين الناس، يتبناها أو يمارسها، كل من فقد شرط التوازن، وانزاح إلى ما يقتضيه تطرف الفجور. قال ـ سبحانه ـ: {فَإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] .
ب - عبادة الذات والشهوة:
إن المتتبع لما تراه ثقافة الاستكبار يجده يشتمل على ما يمكن تسميته «عبادة الذات والشهوة» ؛ ذلك لأن من كانت رؤيته كذلك ارتمى في أحضان ما تطالبه به ذاته ـ سواء كانت فردية أم جماعية ـ فعمل على تلبية مطالبها ولو كان تحقيقها على حساب غيرها، وحينما تصير حقيقة الارتباط بالذات والشهوة على تلك الشاكلة تصيران إلهين معبودين من دون الله. قال ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43] . وقال ـ عز وجل ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .
إن عبادة الذات والشهوة لا تبقي الرؤية في حدود هاته الشريحة وإنما تبلغ بها مبالغ لا تقتصر عواقبها عليها، فتصل تأثيراتها إلى من ظن أنه لا يمثلها، وآنذاك يبدو للاستكبار، كما يظهر لمن يسحر الاستكبار عينيه، أنه الأقوى، وأن ما يأتيه وما يذره هو عين الصواب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ج - الاستهتار بالآخر:
تشدني بهذا الخصوص عبارة لعبد العزيز حمودة في كتابه: «المرايا المقعرة» ، حين وصف تجلياً من تجليات ثقافة الاستكبار محدداً في «الحداثة» ، وهي قوله: «كأنَّ الحداثيين العرب، في الوقت الذي وقفوا فيه طويلاً أمام «المرايا المحدبة» فصدقوا وَهْمَ ضخامة إسهاماتهم، قد وضعوا التراث الفكري والنقدي العربي أمام «مرايا مقعرة» قامت بتصغير إنجازات العقل العربي والتقليل من شأنها» (?) ، ورغم أن هذا الشاهد المعتمد هنا ينصرف إلى أمر خاص يتحدد في «الحداثة» أولاً، باعتبارها تجلياً من تجليات ثقافة الاستكبار، التي قلنا من قبل إنها لا تتحدد في ثقافة خاصة، وإنما تمثل محضناً كبيراً لثقافات قد تكون مختلفة في لافتاتها ومظاهرها الخارجية، إلا أنها تتوحد في ماهياتها ورؤاها. كما ينصرف إلى رؤية الحداثة الخاصة بالفكر والنقد العربيين، رغم كل ذلك فإنه من الممكن أن نجد ما يخدم ما نريد باعتماد توسيع الفكرة لتشمل غير العناصر المذكورة؛ ذلك لأن رؤية الحداثة ها هنا إنما هي رؤية رمز لها كان على شاكلتها واتخذ اسماً غير اسمها، كما أن الحديث عن الفكر والنقد العربيين إنما هو مثال يجد الحكمُ من خلاله منطلَقاً ليعمَّم على كل ما لم يكن منسجماً مع رؤية ثقافة الاستكبار.
إن الاستهتار بالآخر استصغار لقدره وانتقاص من قيمته، وهذا الأمر لا يبقينا في هذا المستوى من الرؤية فقط، وإنما يتمدد ليشمل كل الحالات التي يتجلى من خلالها، كأن ينصرف بنا إلى فرض ما ليس مرغوباً فيه ديناً وعقيدة وعادات على الناس؛ فأن تسلك بك قنوات الإعلام مسلكاً تريد من خلاله تدمير ثقافتك، وتدمير رؤيتك، وأن تبث عليك في وقت من أوقات اجتماع أفراد الأسرة؛ ظهراً أو عشاء، مشاهد لن تخدم المجتمع بأي حال من الأحوال، ولن يكون لها مردود غير الإجهاز على ما تبقى من عناصر الأخلاق، تكون الرؤية الثقافية تسلك مسلك الاستهتار بما عندك، مستصغرة لما تمسك به المجتمع منذ أمد بعيد، تعكس ممارستها أن ما تأتي به إنما هو القول الفصل، والرؤية التي ينبغي الالتزام بها، وكل ما عداها هراء وهباء، فتكون متخذة موقع رؤية من قال: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ، وهو رأس ثقافة الاستكبار.
هكذا تكون قد تبينت لنا الملامح التي تتميز بها ثقافتان هيكليتان يمكن أن تدرج فيهما الثقافات المختلفة وأن تنضوي تحتهما؛ قرباً وبعداً، ضعفاً وقوة، فتتعدد الأشكال وتختلف التجليات والمظاهر، ولكن تبقى المحتويات والمضامين عائدة إلى هذين الإطارين اللذين ننوي تعميق النقاش بخصوصهما مستقبلاً بحول الله تعالى. وحتى هذا الحد الذي وصلنا إليه في مقالنا هذا نرجو أن نكون قد وُفِّقنا فيما طرحناه، وأصبنا الهدف فيما ذهبنا إليه، والله الموفق للصواب.