حقيقتها ـ صورها ـ أساليب دفعها
عبد المجيد بن عبد الرحمن باحص
عندما يكون هناك من يقيد حركة المرء بقيود الاستعباد، وعندما يضيق الحصار على الحرية يصبح للحياة آنذاك وجه آخر يعجز عن وصفه من أدرك وقائعها وعاش لحظاتها.. إنها العبودية الشنعاء (?) أي العبودية لغير الله ـ تعالى ـ التي تكبل بقيودها الإنسان لتجعله عبداً ذليلاً، فتحرمه الانطلاق الحر على وجه هذه البسيطه ليتفاعل مع مكنوناتها وينتج ما يخدم أمته ودينه.
وذل الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه؛ فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل ـ إن استمر في ذلك ـ فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء.
وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم أدرك عمر ـ رضي الله عنه ـ أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الاسلامية ومصالحهم؛ فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعلياً ليرسخ مبدأ أن ليس لأحد حق الاستعباد وإن ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة مخاطباً عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟» .
علمت أن وراء الضعف مقدرة
وأن للحق لا للقوة الغلبا
ولأهمية الموضوع فقد وضعته في نقاط سائلاً المولى أن ينفع بها.
- أولاً: لمن الحق في العبودية؟
قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، والعبودية من أعظم ما يُصرَف لله؛ إذ إنها لا تكون إلا لله وحده، فإنه ـ سبحانه ـ لم يخلق البشر والخلق أجمعين إلا لعبادته والإذعان بالعبودية له. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله» (?) ؛ لأن في ذلك سعادتهم في الآخرة قبل الدنيا، فيتوجه المرء بحسه وإحساسه نحو خالقه ورازقه، فيدعوه ويتوسل إليه ويلجأ ويلتجئ إليه؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، لأن العبد يحتاج إلى معبوده في كل حين. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به» (?) .
والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد «.. ومن عبد غيره وأحبه ـ وإن حصل له نوع من اللذه والمودة، والسكون إليه، والفرح، والسرور بوجوده ـ ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ، الشهي، الذي هو عذب في مبدئه عذاب في نهايته» (?) ، ولن نبلغ الكمال المنشود حتى تكمل العبودية لدينا و «أكمل الخلق أكملهم عبودية» .
- ثانياً: من صور الاستعباد:
للاستبعاد صور عديدة من أهمها:
أولاً: الاستعباد الباطني: من الناحية القلبية:
القلب أعظم ما يمتلك المرء؛ إذ إنه ملك الجوارح وسيدها المطاع وهو موجه الأوامر؛ ولذا فإن من أخطر أنواع الاستعباد أن يُستعبد قلب المرء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب» (?) ؛ فمن الأمور التي يستعبد بها قلب المرء:
1 - العشق والتعلق:
وهذا من أخطر الأمراض على العبد ومن أشدها عبودية؛ فهو عدو الصحة، وشلل الدعوة، وتوقف الحزم، وتبلد العقل، وطريق الشيطان؛ فالعاشق لا تجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقاً بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكاً؛ لأن الهوى قد غلفها بظلامه، فهو يعيش ـ وإن رأيته حراً ـ أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبداً ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره؛ فهو مستعبد داخلياً مُذلل خارجياً. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «المحب بمن أحب قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لبَّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس، ولا يسكن إلا سواه» (?) . وما أشنع من منظر رأته عيناك من منظر ذاك العاشق الولهان الذي ضاع عمره القصير في تفاهة أمر كان بإمكانه التخلص منه. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق، ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة» (?) .
والعشق يحصل به من الأمور ما لا يحصل في غيره، ولذا قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبَداً لها اجتمعت له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد» (?) ، وذكر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال: «عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيُّماً، والتتيُّم التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه» (?) .
قال ابن أبي حصينة:
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى بالطبع، واحَسَدي لمن لم يعشقِ
وقال آخر:
العشق مشغلة عن كل صالحة وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ
ولو أخذنا جوانب العشق كاملة لطال المقام ولكثر الكلام (?) . وقانا الله وإياكم شر العشق وشر كل سبيل موصل إليه.
2 - حب الدنيا والاغترار بها:
لم يدخل حب الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبه، وأفقده بذله للآخرة؛ فهي دار غرور وبلاء، وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده حتى يبلغ ذلك دينه والعياذ بالله، «وأعظم الخلق غروراً من اغتر بالدنيا وعاجلها فآثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة» (?) ، وكما قيل في بعض المأثورات: «الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له» ، ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عما قليل فانية؛ فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا. ويبين لنا الرب ـ جل وعلا ـ مَثَل الحياة الدنيا فيقول ـ عزوجل ـ: {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: «وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا؛ فإن لذَّاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتاً قصيراً؛ فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها» (?) . ولأن هذه الدنيا دار غرور، ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ـ ذي النهاية المعروفة ـ فقد حذرنا منها نبينا -صلى الله عليه وسلم -، بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته؛ ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: «إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها» .
ورحم الله الشافعي حين قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
3 - حب المال والجاه:
حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء؛ فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثاً خلفها، مجتهداً في الحصول عليها. إن اللاهث خلف المال والجاه يعمى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر؛ كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فذم النبي -صلى الله عليه وسلم - الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم؛ لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل والصالح؛ فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله ـ تعالى ـ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] ، وهما اللذان ذكرهما الله فى سورة القصص، حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال، وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها، وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد» (?) . وما من شك في أن حب المال عندما يطغى على قلب المرء يصبح أسيره؛ فلا يرى معروفاً ولا منكراً، فتصبح كل الأمور لديه واحدة، والأهم في نظره هو جمع المال فقط وتحصيله من أي مصدر سواء كان حلالاً أم حراماً.
ويصور لنا الشاعر حال ذلك المرء الذي أنفق عمره في تحصيل المال فيقول:
ومن ينفق الأيام في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ
وقال الآخر:
ولا تحسبن الفقر فقر من الغنى ولكن فقر الدين من أعظم الفقرِ
من الناحية العقلية:
العقل نعمة من الله ـ عز وجل ـ أنعمها علينا؛ فبه يميز العاقل بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، وبه تُستبصَر الأمور وتُدرك الحقائق؛ وذلك من خلال التعقل في الأمور والتمهل فيها، ولذا لما سئل الأحنف عن العقل قال: «العقل رأس الأشياء، فيه قوامها، وبه تمامها، وهو سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجد، وزينة كل أحد، لا تستقيم الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه» . ومتى استخدم هذا العقل في غير مكانه ـ الذي هو الخير ـ أصبح مجرد كتلة لا تصلح لأي عمل وحيي على الشر وعلى تحقيق رغباته وأهوائه ولا نصيب للتفكير السليم فيه، فأصبح بذلك فرداً لا همَّ له سوى عبادة ما يمليه عقله عليه، فكان كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] .
- الأمور التي بها يُستعبد العقل:
1 - الانحراف الفكري:
الفكر هو لب العقل وأساسه، وتقويمه واعتماده؛ فإن سلم صحت تلك الأفكار التي يحملها فتنتج بإذن ربها ثمارها اليانعة، وإن خبثت واستقت أفكاراً خبيثة وهدامة لم يُجنَ منها إلا العلقم، ولم يبلَ العقل بمثل بلوى الانحراف؛ فهو مسلك خطير من سلكه هلك ومن اتقاه نجا واستدرك. فالانحراف الفكري كالرمال المتحركة التي سرعان ما تلقي بصاحبها داخل جوفها، هل تراه يعيش بعدها؟ وصاحب الفكر المنحرف يتلقى أفكاره من مصادر خبيثة لتصادف هوى، فيصبح بأذيالها متمسكاً وبشأنها متعبداً؛ فهي نواة تبقى في ذهنه، وسرعان ما تنمو وتكبر مع مرور الزمن وتلقِّيه المستمر، وما ذلك إلا من الخلل الذي أحدثه في البداية وهو تلقي الأفكار من غير مصادرها الأساسية الأصلية، ثم ينعكس ذلك تماماً على عقيدته وواقعه «.. وإذا كانت حرية العقيدة والرؤية الأساسية الكلية هي قضية لها جوانبها المطلقة والكلية؛ فإن حرية الفكر هي في أساسها انعكاسات للرؤية العقيدية الكلية على واقع الحياة وقضاياها» (?) . ولم يكن هناك شيء أخطر على الأمة من الانحراف الفكري؛ فبه تحدث المنازعات والخلافات العقدية والفكرية والشقاقات السياسية والاقتصادية ويصرفها عن النظر لواقعها وحالها، ومنه تخرج أجيال غاية علمهم التعصب لآرائهم والعداء لمن خالفهم، وتربية من خلفهم على ما تعلموه وما أتقنوه، وله تُدَس المؤامرات والدسائس والخطط والنقائص. قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .
2 - التبعية:
لم يحدث استعباد العقول وانحرافها إلا عن طريق التبعية الخاطئة، ولذا عندما عطلوا عقولهم نفى ـ سبحانه ـ الاهتداء والتعقل عن هؤلاء الذين يتبعون الآخرين وإن كان أمرهم خاطئاً، فقال: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] ، فالأمر يزداد خطورة عند عدم إدراك من نتبع وأي طريق يسلك، وما كان انحراف الأكثرية في السنين الماضية إلا عندما سلكوا مسلك التبعية الخاطئة، وانتهجوا نهجه، ولنا في قصة (رفاعة الطهطاوي) و (عبد الرحمن الكواكبي) عبرة؛ وذلك حينما كانا على تبعية حمقاء؛ فـ «أزمة الطهطاوي تتلخص في أنه ابتعد إيمانياً عن فرنسا واقترب حضارياً ـ إلى حد التبعية ـ لها، واستسلم لمزلق تفصيل الفكر الإسلامي بما يناسب الفكر الأوروبي الحديث» (?) ، وأما الكواكبي «فقد أخطأ عندما تصور مجد الإسلام يعود بنظام سياسي على النمط الأوروبي، وأخطأ ثانية عندما أحسن الظن بالسياسيين الاستعماريين وبالقوى الصليبية» (?) . ولنعلم أن التبعية التي لا أصل لها من الكتاب والسنة لا تولِّد لا حضارة ولا فكراً؛ وإن حدث ذلك فهو ناقص وسرعان ما يزول؛ إذ إن من شأن الأمور الوضعية أنها تزول وإن استمرت برهة من الزمان؛ وذلك لأنها لا توافق البشر كلهم وإن رغبها بعضهم، ولا يظن آخرون أنه عند استمرار حضارة ما أو فكر ما قد خالطه تبعية غربية أنه باق ما بقي الدهر، أو أن زواله مستحيل، كلا! بل على العكس تماماً، إن زواله قريب وانهياره سريع.
- ثانياً: استعباد خارجي (بدني) :
وهذا الاستعباد أهون من الاستعباد الباطني بكثير؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد وغالباً على أمره، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصاً له، وفترته قد لا تستغرق وقتا طويلاً. نعم! ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره؛ فهو يعيش الحرية داخلياً، ويفقدها خارجياً «ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولَّدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب» (?) .
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي
وما صبر الكثير على طريق الايمان إلا عندما أوذي وسجن وعُذِّب، وما يظن عاقل انه بإمكانه الاستمرار على هذا الطريق دون ابتلاءات وفتن. قال ـ تعالى ـ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] ، «إن الايمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال؛ فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا؛ وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب» (?) ، وقال ـ تعالى ـ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] ، «إنها سُنَّة العقائد والدعوات: لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة. وقد حُفَّت الجنة بالمكاره. كما حفت النار بالشهوات» (?) ، وعلى قدر إيمان المرء يكون ابتلاؤه، كما روى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة» (?) . فالقهر والظلم والسجن والضرب وغيرها كلها وسائل ظاهرية تتولى الاستعباد الظاهري ولا تستطيع أن تملك الداخل؛ إذ إن من شأنها التعذيب والسياط والجلد، وفرض الهيمنة والسيطرة الخارجية، وما ظن أولئك أن من كان مع الله كان الله معه.
ولنا في السابقين عبرة؛ فهؤلاء الأنبياء ابتُلوا وغيرهم من الصالحين الذين حملوا همَّ هذا الدين؛ فقد سُجِن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وعذب وما زاده ذلك إلا ثباتاً ورسوخاً، وسجن شيخ الاسلام ابن تيمية فما كان منه إلا أن قال: «ما يفعل أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة» . وقُهِرَ أناس وظلم آخرون وهددوا فلم يردهم ذلك عن إيمانهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
- ثالثاً: نماذج من الاستعباد:
مرت العصور السابقة بألوان من الاستعباد؛ والنماذج في هذا كثيرة، وأقتصر في هذا ـ على سبيل الاختصار ـ على نموذجين من ذلك:
1 - استعباد فرعون:
لم تذق أمة من الأمم السابقة ذل العبودية والاستعباد مثل ما ذاقته أمة بني إسرائيل في عهد ذلك الطاغية فرعون؛ فقد فعل بهم الأفاعيل، وجعل منهم خدماً وعبيداً لا قيمة لهم. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] ، «وكل طاغوت يُخضِع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون» (?) ، ولم يكتف ذلك الطاغية بهذا، بل بدأ يقتل الذكور فيهم ويبقي النساء للخدمة، وما كان قتله للذكور إلا لخوفه على ملكه عندما أعلمه أحد الكُهَّان أنه سيولد فتى سيفنَى ملكُه على يديه، ثم أتى موسى ـ عليه السلام ـ فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ، ولم يكن موسى ليهاب ذلك الطاغية فأطلق قوله: {يَا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] ، فهاج ذلك الطاغية ليجمع بعد ذلك أتباعه من أجل أن لا تتهاوى مملكته أمام الحقيقة التي أعلنها له موسى ليكون في ذلك هلاكه وموته غريقاً تحت المياه.
وآثار الظلم والاستعباد باقية إلى اليوم شاهدة على أفظع الصور وأبشعها في إذلال العباد وإن سميت بغير اسمها ودُعيت بـ (الحضارة الفرعونية) .
2 - الشيوعية:
كان من الأنظمة التي لها النصيب الأعظم في الاستعباد الصريح نظام الشيوعية؛ فقد كان الشيوعي يعمل ويكدح وينصَب لأجل غيره، فلا يتملك ولا أحقية له في ذلك «ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيراً لإنسان آخر، وزعمت أنها هي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال، حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر. نعم! ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر، وتأجيره للدولة التي هي شخص معنوي في الكلام فقط؟ ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه؟ وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] .
- رابعاً: كيف ندفع الاستعباد؟
ندفع الاستعباد بأمور كثيرة من أهمها:
1 - خشية الله ـ عز وجل ـ والخوف منه:
والخشية لله ـ تعالى ـ تزيد العبد اطمئنان القلب وتعلقاً بالله فلا يعبد سواه، ولا يخشى أحداً إلا اياه، فيتوجه إليه بالكلية، فلا تغره دنيا، ولا يهيبه ملك أو سلطان فقد مُلئ قلبه خشية وخوفاً من الله تعالى. وقد قرن ـ سبحانه وتعالى ـ خشيته بالفوز في الدنيا والآخرة فقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] «فالطاعة لله ورسوله تفتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية من علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على المنهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون» (?) . والخشية من المنجيات التي تنجي العبد من كل شيء.. من الدنيا وغرورها.. من الحياة وفتنها.. قال -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاثٌ مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه» (?) . وبالخشية يستعين العبد على دينه.. فيحفظه من الضلال.. ويحفظه من الزيغ والانحراف. عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: «كان يقال: ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله» (?) .
2 - اتباع المنهج السليم:
ومن الوسائل في دفع الاستعباد المنهج السليم الذي هو الطريق القويم الذي يضمن لذوي العقول السير الصحيح والتبصر الحكيم، وأي أمة فقدت المنهج الصحيح السليم حارت في دروب التيه العقدي والإعصار الفكري {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] ، ولكي نضمن منهجاً سليماً خالياً من الشوائب لا بد من أمرين:
أ - أخذ المنهج من مصدره الأساسي الذي هو المصدر الرباني المتمثل في الكتاب والسنه. قال -صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله» (?) .
ب - التلقي السليم الذي لا تتنازعه أهواء ولا تعصبات ولا منازعات، ولا يشوبها انحرافات فكرية، ولا يخالطها معتقدات فاسدة باطلة.
ولك أن تتصور حال المرء بلا منهج صحيح: كيف يكون حاله؟ إما إلى جهالة عمياء أو إلى ضلالة خرقاء. قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] ، عندما ضعف تأصيله ومنهجه الذي يعتمد عليه عَبَدَ اللهَ على شك وعلى انحراف وخلل عقدي؛ فلم يصبر على مواجهة أمواج الفتن العاتية، فانقلب على وجهه مهزوماً مخذولاً قد خسر دنياه وآخرته، وعلى المرء أن يتحرى الطريق الصحيح الذي يبقي له المنهج صحيحاً سليماً و «الطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل» (?) .
3 - الأخذ بزاد الصبر:
قال ـ تعالى ـ مبيناً شأن أولئك الذين صبروا وما آل إليه صبرهم: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] . والصبر أمر مطلوب؛ فقد حث الله ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين على الصبر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «والإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال غير واحد من السلف: الصبر نصف الإيمان. وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. ولهذا جمع الله ـ سبحانه ـ بين الصبر والشكر في قوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] » (?) . والصبر سبب في كمال المرء. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «أكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره» (?) . ولا تنال الإمامة في الدين إلا بشيئين ذكرهما ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: «إنما تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين» (?) ، ويذكر ابن القيم تشبيهاً للصبر فيقول: «النفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية؛ فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب» (?) . ولنا في السابقين أبلغ العظات والعبر؛ فقد صبر سيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم - أشد الصبر وأبلغه حتى بلَّغ دين الله عز وجل، وصبر من بعده أتباعه كبلال وخباب، وصبر كذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، ومن بعده ابن تيمية، والكثير من أئمة الدعوة صبر؛ فما أوهنه القيد ولا غيَّره السجن؛ فهو صامد كالطود. قال -صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (?) . والمؤمن الصابر أمره في خير بإذن الله كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (?) .
4 - تحرير الفكر:
ولكي يتحرر الفكر من قيود الاستعباد لا بد له من الاطلاع الواسع والقراءة المكثفة النافعة؛ فبها يرقى فكره ويعلو، فلا ينجرف فكرياً ولا ينقاد تبعياً، ويصبح ملمّاً بأمور الحياة مدركاً لفقه الواقع.
إن القراءة للعقل بمثابة الغذاء للجسد، ولذا كان خطاب الله ـ عز وجل ـ لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - بداية {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3] ، ولا يمكن لأحد أن يكون ذا فكر جيد وخيال واسع دون القراءة.
5 - البعد عن الاعلام الهابط والهدام:
الإعلام من أقوى الوسائل تأثيراً على البشر وعلى المجتمع؛ إذ إنه سلاح ذو حدين، ولا يُمنع أحد من عدم مشاهدته؛ لأنه في متناول الجميع، سواء كان مرئياً أم مقروءاً أم مسموعاً، ولذا كان من مراتب الجهاد جهاد الكلمة أو جهاد القلم، ولكن ما إن يتحول هذا الإعلام إلى وسيلة لإذلال العباد واستعبادهم حتى يصبح ذا خطورة عالية، فيهوِّل لهم الأمور حتى تصبح كالموبقات لديهم {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] ، فتجدهم لا يجرؤون على الكلام فيه أو الخوض في تفاصيله، فأصبح الجميع مستعبَداً لما يقوله الإعلام فيلعب بعقولهم كيف شاء؛ فتارة يُلهب عواطفهم ضد أمر ما، وتارة يحذرهم من أمر فيه خير، وقلما تجده يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، ولو أنهم رجعوا إلى عقولهم وبصيرتهم لوجدوا أن الحق خلاف ذلك، ولو أنهم تجنبوا ذلك الإعلام السيئ أو أخذوا الإعلام من مصدره الصحيح لما حدثت التغيرات الداخلية لديهم، ولما تقاعسوا وتراجعوا، ولأبصروا الحقيقة الحقة، {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] .
6 - الدعاء:
الدعاء خير سلاح يتسلح به المؤمن، وبه يدفع البلاء والاستعباد؛ فهو عدته وعتاده، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» (?) . وحث ـ سبحانه ـ عباده على دعائه، فقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، «هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة؛ حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه دعاء العبادة ودعاء المسألة» (?) ، و «من أعظم ما يجلبه الدعاء إلى الداعي أنه سبب في تحقيق التوحيد الذي به نجاة العبد وفلاحه؛ لأن الداعي الذي صرف دعاءه وسؤاله لله دون غيره وأخلص له فيه، فقد حقق جانباً من جوانب التوحيد وهو أن الدعاء عبادة لله وحده لا تصرف إلا له» (?) . والدعاء يحتاج من المرء إلى عزيمة وعزم. قال -صلى الله عليه وسلم -: «إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكره له» (?) ، ولا عجز للمرء مثل عجزه عن الدعاء؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء» (?) . ويبين ابن القيم أهمية الدعاء وسبب تأخره، وأظنه جمع أهم الأسباب في تأخر إجابة الدعاء في كتابه (الجواب الكافي) .
- ختاماً:
عندما ابتعدت الدولة الإسلامية في عصر صدر الإسلام عن مظاهر الظلم والاستبداد والاستعباد ارتفع شأنها وبلغت رقعتها أقصى الأرض، وبلغ مجدها ذروته، فأصبحت رايتها خفاقة، وخيلها سباقة، وحق فيها قول الله ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ، وما أن يظهر الاستبداد والظلم والقهر بأرض حتى يحل بها فساد وانتشار فتن وزوال نِعَم لا يرفعه إلا رجعة صادقة إلى الله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] .
والله يحفظنا هو مولانا وعليه التكلان.