د. مفرح بن سليمان القوسي
الاعتداد بالنفس، وإساءة الظن بالآخرين تمثل بدايات طبيعية للتقوقع على الذات، ومن ثم صنع تكتلات صغيرة داخل المجتمع الواحد، ولا شك أن هذا يخالف ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف من الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102 - 105] .
ويبين الله ـ عز وجل ـ أن وشيجة الأخوة هي الرباط الحقيقي بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن ماهية الإيمان، حيث يقول الله ـ سبحانه ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، ويقيم ـ سبحانه ـ سياجاً من الفضائل والآداب الأخلاقية لكي يحمي الأخوة مما يشوهها ويؤذيها؛ من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والغيبة؛ حيث يقول الله ـ سبحانه ـ بعد الآية السابقة مباشرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 11 - 12] .
وقد أكدت السنة النبوية وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف؛ والتحذير من الفرقة والاختلاف؛ فقد دعت إلى الأخوة والمحبة، وحذرت وزجرت العداوة والبغضاء، ومن ذلك على سبيل المثال قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «يد الله على الجماعة» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم - كذلك: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً» (?) .
ولا يزعج أي غيور على دينه ثم بلده أن يكون في الساحة الفكرية والثقافية في كل مجتمع اتجاهات أو مدارس أو جماعات متعددة لكل منها منهجه في خدمة الدين والبلد، والعمل على التمكين لهما في الأرض، وفقاً لتحديد الأهداف وترتيبها، وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها، من حيث القوة والأمانة والإخلاص والكفاية.
ومن السذاجة بمكان الدعوة إلى مدرسة واحدة أو اتجاه واحد يضم جميع العاملين على منهج واحد؛ فهذا تقف دونه حوائل شتى، وهو مطمع في غير محله، فلا مانع من أن تتعدد المدارس والجماعات والاتجاهات العاملة لنصرة الدين وخدمة البلد إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، على أن يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، كي يكمل بعضهم بعضاً ويشد بعضهم أزر بعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية والهموم المشتركة صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص.
ولكن الذي يزعج ويؤلم حقاً أن يوجد بين الكُتَّاب والمفكرين من لا يقدِّر هذا الأمر حق قدره، وأن يدعو إلى التحزب واتخاذ المواقف المسبقة، ويركز دائماً على مواضع الاختلاف لا نقاط الاتفاق، وهو دائماً معتدٌّ بنفسه ومعجب برأيه، مزكٍّ لنفسه واتجاهه، متهم لغيره مسيء الظن به.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطراً، وخصوصاً في مسائل الفروع (وهل يوجد أصل غير أساسي؟) وإنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر منه الإسلام بمصدريه الأساسين: الكتاب والسنة؛ كما تقدم.
ولعل من أسباب بروز مشكلة التحزب المذموم: التعصب لبعض المذاهب الفقهية، أو الشخصيات الدينية، أو الاتجاهات الفكرية.
ولذا نحن بحاجة ماسة إلى وعي عميق بما يسمى بـ (فقه الاختلاف) الذي عرفه خير قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى؛ فلم يضرهم الاختلاف العلمي شيئاً، وجهله كثير منا، فأصبحنا يعادي بعضنا بعضاً بسبب مسائل يسيرة أو بغير سبب.
- ركائز فقه الإخلاص:
ويقوم فقه الاختلاف على ركائز فكرية وأخلاقية عديدة لا تخفى على أهل الاختصاص من العلماء والمفكرين والباحثين، أُشير ـ بإيجاز فيما يلي ـ إلى أبرزها:
1 - الإخلاص لله وحده، والتجرد للحق، ومجاهدة النفس حتى تتحرر من اتِّباع هواها أو أهواء غيرها؛ فكثيراً ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات ظاهرها أنه خلاف على مسائل في العلم أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات وحب الظهور أو الجاه وتحقيق المغانم واتباع الهوى الذي يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله ـ نسأل الله العافية ـ.
2 - الوعي بأن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية الفرعية ضرورة لا بد منها أوجبتها طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة. فأما طبيعة الدين فقد أراد الله ـ تعالى ـ أن يكون في أحكامه: المنصوص عليها والمسكوت عنها، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلِّم فيما لا يقبل ذلك، إيماناً بالغيب، وتصديقاً بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] ، ولو شاء الله لجعل الدين كله وجهاً واحداً وصيغة واحدة لا تحتمل خلافاً، ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد ضل، ولكنه لم يشأ ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة وطبيعة الناس، ويوسع الأمر على عباده.
وأما طبيعة اللغة فلا شك أن مصدر الدين الذي يُرجع إليه ويُستدل به هو القرآن الكريم والسنة النبوية. والقرآن نصوص قولية لفظية، وكذا معظم السنة. وهذه النصوص يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره؛ ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب؛ ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يدل بالمنطوق وما يدل بالمفهوم، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته قاطعة وما دلالته محتملة، وما دلالته راجحة وما دلالته مرجوحة.
وأما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين؛ فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي كما في مخبره المعنوي؛ فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهه ونبرة صوته وبصمة بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وذوقه وميوله، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال. ولذا فمن غير الممكن صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخاً مكررة، ومَحْوُ كل اختلاف بينهم؛ فهذا مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأما طبيعة الكون الذي نعيش فيه؛ فقد خلقه الله ـ سبحانه ـ مختلف الأنواع والصور والألوان؛ كما قال ـ سبحانه ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 27 - 28] ، ولكن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن إنما هو اختلاف تنوع وتلوُّن، لا اختلاف تضارب وتناقض، ولهذا تكررت في القرآن عبارة {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في أكثر من مناسبة، بل نجد القرآن الكريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الكون، وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] .
وكذلك طبيعة الحياة؛ فهي أيضاً تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة، منها الزمان والمكان.
والاختلاف مع كونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وقد دل على ذلك بعض الأحاديث النبوية، حيث صاغ الشارع الحكيم كثيراً من الأحكام صياغة مرنة بحيث تتسع لتعدد الأفهام وتنوع الآراء والاجتهادات، وسكت عن النص على بعض الأحكام ليتيح للعقول المسلمة الاجتهاد في فهمها في ضوء المنصوص على حكمه. ولذا اجتهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يَضِيقُوا ذرعاً بذلك، وأتاحوا لنا باختلافهم هذا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم.
3 - اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط. فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
والوسط هو مركز الدائرة الذي ترجع إليه الأطراف المتباعدة، وهو الصراط المستقيم الذي علمنا الله ـ تعالى ـ أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . ومن لوازم الوسطية اجتناب التنطع في الدين، وهو ما أنذر النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهلاك في قوله: «هلك المتنطعون» (?) قالها ثلاثاً، والمتنطعون ـ كما يقول الإمام النووي ـ: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
4 - التركيز على اتباع المحكَمات، وهن أم الكتاب ومعظمه، وعدم الجري وراء المتشابهات؛ فاتباع المحكمات واتخاذها الأصل والقاعدة في التفكير والسلوك من شأن الراسخين في العلم، واتباع المتشابهات من شأن الذين في قلوبهم زيغ ودغل.
5 - اجتناب القطع في المسائل الاجتهادية التي تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، واجتناب الإنكار فيها على الآخرين، ولذا قرر علماء الإسلام: أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بَلْهَ (*) أن ينكر على مجتهد.
6 - تحديد المفاهيم التي يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح يرفع عنها الغموض والاشتباه؛ فكثيراً ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة وشُرح بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط. ومن ثم كان علماؤنا السابقون يحرصون على «تحرير موضع النزاع» في المناظرات والمسائل الخلافية، حتى لا تُنصب معركة على غير شيء، وكثيراً ما يشتد الخلاف بين فريقين، ثم يتبين في النهاية أن الخلاف كان لفظياً، وأن لا ثمرة عملية تجنى من ورائه.
7 - التعاون (بين أصحاب المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية) فيما اتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضاً فيما يسع الخلاف فيه. وهذا التسامح المنشود يقوم على جملة مبادئ منها:
أ - احترام الرأي المخالف وتقدير وجهات نظر المخالفين، وإعطاء آرائهم الاجتهادية حقها من الاعتبار والاهتمام. وذلك مبني على أصل مهم، وهو: أن كل ما ليس قطعياً من الأحكام هو أمر قابل للاجتهاد؛ وإذا كان يقبل الاجتهاد؛ فهو يقبل الاختلاف، لاختلاف المنطلقات والرؤى والأفهام.
ب - الاعتقاد بإمكان تعدد أوجه الصواب في المسألة الواحدة المختلف فيها، وذلك تبعاً لتغير المكان والزمان، وتبعاً لتغير الظروف والأحوال.
ج - الاعتقاد بأن كثيراً من ألوان الخلاف الذي نشهده على الساحة الفكرية اليوم، ليس خلافاً على الحكم الشرعي من حيث هو، ولكنه خلاف على تكييف الواقع الذي يترتب عليه الحكم الشرعي، وهو ما يسميه الفقهاء (تحقيق المناط) .
8 - اجتناب التكفير بلا مسوغ صحيح والحذر منه؛ فلا يخفى على كل لبيب أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله هو التكفير؛ وذلك بأن تُخرِج مسلماً من الملة ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر والردة؛ فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال؛ فلا لقاء بين مسلم ومرتد؛ فهما خطان متوازيان لا يلتقيان.
وقد حذر الإسلام أبلغ تحذير من رمي المسلم بالكفر؛ وذلك في أحاديث صحيحة مستفيضة، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما؛ فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وهو ليس كذلك إلا حار عليه» (?) ، أي رجع عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم - كذلك: «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله» (?) .
وعليه فلا يجوز تكفير أهل الإسلام لذنوب ارتكبوها أو أخطاء اقترفوها.
9 - التحرر من التعصب لآراء الأشخاص، وأقوال المذاهب، وانتحالات الطوائف، بمعنى: ألا يقيد المرء نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يتبعه، أو الطائفة أو الحزب الذي ينتمي إليه؛ فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس؛ والله ـ عز وجل ـ إنما تعبَّدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه -صلى الله عليه وسلم -.
10 - إحسان الظن بالمؤمنين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم؛ فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائماً على تزكية نفسه واتهام غيره. يقول ـ عز وجل ـ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] . إن سوء الظن من الخصال المذمومة التي حذر منها الإسلام؛ فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وألا نظن به إلا خيراً، وأن نحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها؛ تغليباً لجانب الخير على جانب الشر.
11 - الحوار بالحسنى، واجتناب المراء المذموم واللدد في الخصومة؛ فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء الذي يراد به الغلبة على المخالف بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزانٍ حاكم بين الطرفين؛ وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 8 - 9] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] .