د. عبد الله بن عبد العزيز اليحيى
الأمة الإسلامية كانت ـ ولا زالت ـ مرشحة لتكون قوة فاعلة ومؤثرة مع بداية القرن الخامس عشر الهجري ـ الحادي والعشرين الميلادي ـ صرح بذلك أفذاذ من الباحثين في الشرق والغرب، خاصة قبل سقوط الشيوعية وأثناءه، ولا يزال الترشيح يحتل مساحات كبيرة في الكثير من الدراسات الاستشرافية رغم الواقع المرير للمسلمين في الداخل، ومن الخارج، إلا أن النظرة التفاؤلية تتمركز ـ أولاً ـ حول الإسلام وخصائصه، متخذة عدة أسباب، يمكن إجمال أهمها بالنقاط الثلاث التالية:
1 - الجانب العقدي في الإسلام: حيث إنه دين الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومحور التوحيد، وآخر الرسالات السماوية، وهو للعالم أجمع، إضافة إلى ما فيه من معالم تحفظ أسس الفطرة الإنسانية، وتنظم كل الغرائز البشرية، وتلتقي مع العلم وترتب الحياتين ـ الأولى والآخرة ـ للفرد والمجتمع والأمة، وتترافق مع كل خطوات المسلم، في عباداته وعمله ونومه وضحكه، وحديثه ومشاعره ونياته، محققة للإنسان مطالبه بميزان تعادلي، لا يطغى موضوع على آخر، سواء أكان ذلك المسلم في الصحراء داخل خيمته وأمام إبله، أم في جزء صغير من ناطحة سحاب في طوكيو بين يديه (ريموت) يدير به منزله، أو ينظر من خلاله إلى العالم من الزاوية التي يريدها، فالمسلم ـ فقط ـ هو الذي يعرف مكانه الحقيقي في هذا الكون، ورسالته، وأهدافه، ووسائله، ومن أين جاء؟ وماذا يريد؟ وإلى أين يتجه؟
2 - الجانب الأخلاقي: المرتبط بالعقيدة والعبادة، المنطلق من علاقة المسلم بربه ونبيه وكتابه، لتمتد إلى أحواله مع نفسه ووالديه وأولاده وأقاربه وجيرانه، فتصل إلى غير المسلمين، وتشمل الأبيض والأسود، والحيوانات والنباتات والجمادات، على شكل بناء هندسي متناسب، ودوائر جميلة دفعت من لم يسلم من العقلاء ـ في كثير من زوايا الأرض ـ إلى الإعجاب بالإسلام وتقديم شهادات التقدير له.
إن المسلم الملتزم يقدم في كل لحظة صوراً هنا وهناك عن الروح السامية في دينه، مع إمكانات هائلة على التكيف مع الشعوب الأخرى، ومرونة رائعة أخاذة لا تصل إلى الثوابت، وتتفاعل مع ثقافات الآخرين، وتقتطف المفيد منها، ثم لا تسيء لما بقي منها بعد ذلك.
أخلاق إسلامية لم تُسبق فيما مضى، ولن تُلحق في هذا العصر رغم وجود منظمات حقوق الإنسان المتعددة والمتنوعة، والتي لم تصل إلى حقوق الجنين، وتسمية المولود، ومعنى مسح رأس اليتيم، ومراعاة المسنين ورعايتهم، وأهمية ربط الأخلاق بالعبادة، أو كون المكافأة «الجنة» .
3 - الجانب التعبدي في الإسلام: وإن كانت محاوره الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ فقد تجاوزها لتشمل أعماقاً وزوايا في الحياة والإنسان، فيصبح المسلم الملتزم وقد تشابكت معالم التوحيد مع قضايا الوجود ـ بعد تفعيل العبادة ـ في عقله وقلبه، لتثمر الإنسان المتماسك أمام أتراح الدنيا وأفراحها، الباذل في الرخاء والشدة، المطمئن في الليل والنهار، الساعي في مناكب الأرض من أجل نفسه والآخرين، الشاكر المستغفر الصابر العامل.
هذه الجوانب الثلاثة كونت مضادات حيوية قوية مستمرة، ضد أي هجمة، وصاغت للأمة الإسلامية خصائص تظهر واضحة جلية أمام المحن، ومنها:
أ - أن الأمة الإسلامية ـ في مجملها ـ لم تهزم أو تساوم أو تتنازل عن هويتها الدينية عبر التاريخ، وأثناء المحن، بل يكبر إيمانها بإسلامها وتمسكها به حينما يتكالب عليها الأعداء؛ فالهوية تشكل الذات بالنسبة للفرد، والمجتمعات، والشعوب، والأمم، وتمثل الثقافات، للحضارات، والمدنيات، وأي اعتداء عليها فإنما هو إساءة لحقوق الإنسان. أما إلغاؤها ـ وهو الأخطر ـ فسيؤدي إلى الفصل بينه وبين مقومات وجوده المعنوية المتمثلة بالدين والتقاليد واللغة حتى تصل إلى السلوك والأكل والملابس؛ ولذا نلمس تجذر المسلم الحقيقي في إسلامه، وثقته به، وممارسته له، والدعوة إليه والدفاع عنه، وتقديم دينه على نفسه وماله وأحب الناس إليه.
والمسلمون ـ في بداية مسيرتهم ـ انتصروا على القوى الكبرى (الروم والفرس) رغم التباين الكبير في العدد والعدة بينهم وبين تلك القوى، ولم يقعوا في أحابيل الفلسفة اليونانية رغم ترجمتهم لها، ولم يتحطموا أمام التيار، وتجاوزوا الحروب الصليبية، ولم يؤثر فيهم كيد تحالف الصهيونية اليهودية مع الصهيونية المسيحية في هذا العصر، ولن يحققا أول أهدافهما وهو ضم العالم الإسلامي إلى هوامش منظومة ما يسمى بـ (الحضارة الغربية) وفرض النمط الغربي عليه بوسائل جديدة ومتنوعة، وهذا ما يلمسه المتابع من ممانعة ومقاومة في ميادين مختلفة، وقضايا متنوعة، ومن انكشاف زيف القوى الكبرى، وسقوط شعاراتها، وظهور شرائح منها تحذر من الهزيمة أو تعلنها.
ب ـ أنها أمة تتجدد في كل عصر، مع احتفاظها بثوابتها، بل إنها تغذي صحوتها من نبع عقيدتها السمحاء، وكأنها ولدت في هذا المكان لهذا العصر، ولذا نجد هنا وهناك ـ رغم الجور ـ الوعيَ بالذات على مستوى العلماء والمفكرين، وتديناً فعالاً على مستوى الأمة، وتمدداً طليعياً للإسلام في أنحاء العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا وكأنها تمثل القوة الناعمة المنتصرة على خشونة خصومها، دون أن يدعم هذ التمدد ضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، وأصبح المراقب ـ هناك ـ يتساءل:
ما هذه القوة الخفية؟ والقدرة على الحركة؟ والممانعة من الوقوع في المغريات الغربية، والتمرد على الضعف المادي؟
ج ـ أنها لا تنظر إلى خصومها على اختلاف درجاتهم ومشاربهم بمقاييس مادية فقط، ولا تتساءل كم لديهم من طائرات، ودبابات، وبواخر؟ إن الجوانب المعنوية وما يغذيها من إيمان، والرؤيا الواضحة للكون وما بعده، والتوجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ رغم العوائق، هو مربط الفرس، ثم يأتي بعد ذلك ـ وأثناءه ـ استفراغ الجهد، وحمل همّ العمل، والأخذ بالأسباب. أما النصر فأمره إلى الله الحكيم العليم جل وعلا.
هذه الخصائص الثلاث تفاعلت لتشكل خنادق وحصوناً تحمي هوية المسلم وتستعصي على الاختراق، أو الذوبان، أو التجزئة، في مجمل الأمة الإسلامية، مهما كانت قوة الهجوم، أو حجم التكاليف، أو عدد مساراته الخفية والمعلنة.
والشيء اللافت للنظر أن ما تم بذله من أجل تحطيم أو تهميش هوية المسلمين أثمر ثلاث ثمار يانعة، لم تكن في الحسبان ولا تقدر بثمن، وهي:
1 ـ عودة المسلم إلى إسلامه، ودخول مسلمين جدد، وتقارب بين المسلمين، وإعادة ترتيب الأفكار الكلية والجزئية، ثم المؤسسات الإسلامية ـ إن شاء الله ـ بعد ذلك.
2 ـ سقوط ورقة التوت الصغيرة والأخيرة عن سوءة دعاة الحرية، وذوبان ملامح التلميع والادعاء بأنهم حماة الحقوق، ودعاة الديمقراطية، وأهل التقدم والرقي والأخلاق، ومنطلق العلم والعقل والحق.
3 ـ وقوف الأمة الإسلامية في خط الدفاع الأول عن أمم وشعوب متعددة يفترس (القطب الواحد) بعضها، ويسعى إلى الوصول إلى بعضها الثاني، هذه الوقفة المتميزة أنعشت آمال الضعفاء، وشتتت الخطط، وأعاقت العجلة، وأدخلت الكثير من علامات الاستفهام والتعجب في قلب العولمة، وظهرت معالم عالمية الإسلام أمام عولمة الغرب.
ولا شك أن المسلمين يملكون إمكانيات كبيرة ومتنوعة، والمسلم لديه طاقات كثيرة، ولم يبق إلا أن يستشعر كل فرد من