مجله البيان (صفحة 5364)

دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية

(2 ـ 2)

محمد بن شاكر الشريف

نُشِرَت الحلقة الأولى من هذا المقال في العدد (213) حيث تحدث الكاتب عن الحل الغربي لقضية التباين في المجتمع الذي انبثقت عنه فكرة المعارضة، ثم تحدث عن الحل الإسلامي وآلياته التي انطلق منها الحديث عن الحسبة، وذكر أن الحسبة مصطلح شرعي مستخدم في تراثنا الشرعي تعضده الأدلة من الوحيين وعمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وأنه خالٍ من خطل المصطلحات الوافدة مثل المعارضة التي همها البحث عن المغانم والمناصب، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض ما تبقى من المقال. -^ -

- نماذج من الحسبة:

أول من باشر الحسبة السياسية رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فقد احتسب على عامله ابن اللتبية جامع الصدقة؛ فعن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعدُ: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته! والله! لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة؛ فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رُئي بياضُ إبطه يقول: اللهم هل بلغتُ بصر عيني وسمع أذني؟» (?) ؛ فقد حاسبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. لكن الأمر لم يكن في حاجة إلى وضع نظام في المحاسبة، واكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم - بأن قال له ما قال، ثم خرج إلى الناس فوعظهم؛ لأن ذلك كان يكفي في تحقيق المطلوب في ذلك الزمان.

فلما كان عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حوَّل ذلك إلى نظام، للحاجة إليه، فكان ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما يريد أن يستعمل عاملاً، ويوليه ولاية كان يحصي عليه ماليته، ثم إذا انتهى من ولايته يحصي عليه ماليته، ويوازن بين الماليتين، فإذا وجد أن هناك زيادة غير معقولة شاطره هذه الزيادة، فترك له النصف، وجعل النصف الباقي في بيت المال.

وقد أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم - محاسبة خالد بن الوليد سيف الله المسلول ـ رضي الله عنه ـ من قِبَل جنوده الذين هم تحت إمرته، عندما امتنعوا عن تنفيذ أمره، عندما أخطأ في اجتهاده وقتل الذين قالوا: (صبأنا) ولم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا) ، وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين (?) .

وهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة؛ إذ خطب الناس وقال لهم: «راعوني! فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني» (?) ، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة؛ لأن الكل في ميزان الشرع عبدٌ لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالَب بعبادة الله وحده وطاعته واتباع ما شرعه، وما طلبه أبو بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ من الصحابة لا يتأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان والاستقامة أو الإساءة والزيغ، وهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: «إني والله! ما أُرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم؛ فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ؛ فوالذي نفسي بيدي إذًا لأقصنِّه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! أوَ رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية فأدَّب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمِّروهم (?) فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض (?) فتضيعوهم» (?) ، فعمر ـ رضي الله عنه ـ يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم والعمل على راحتهم والحفاظ عليهم، بل إن الحسبة لا تمتنع حتى في اللحظات الصعبة كلحظات الحرب ونحو ذلك؛ فقد حفظت لنا الوقائع ما كان من أمر عمر عندما أراد أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قتال مانعي الزكاة فاعترض عمر، وقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فمن فعل ذلك فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله» ؟ فبين له أبو بكر وجه الصواب في موقفه حتى ظهر الأمر لعمر، وتبين له صواب موقف الصدِّيق وسداد رأيه، ولم يرفع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في وجه عمر ـ رضي الله عنه ـ تلك المقولة الزائفة: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

والقصد أن حالة الحرب لم تمنع من الحِسْبة؛ فالمحكوم بَذَلَها، والحاكم قَبِلها؛ لأن الحسبة ليست كالمعارضة لتحقيق مكاسب ذاتية، وإنما هي ضمانة الحفاظ على الأمة وعلى الشريعة، وقد كان الحفاظ على الشريعة وتقديم كتاب الله هو أوْلى ما يحرص عليه المؤمنون؛ وقال: «إني مخاصم» (?) ، وقد كانوا يتواصون فيما بينهم بذلك. فعن الحسن: «أن زياداً استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على جيش فلقيه عمران بن حصين في دار الإمارة فيما بين الناس، فقال له: أتدري في ما جئتك؟ أما تذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما بلغه الذي قال له أميره: قم فقع في النار، فقام الرجل ليقع فيها فأدركه فأمسكه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: لو وقع فيها لدخل النار، لا طاعة في معصية الله، قال الحكم: بلى! قال عمران: إنما أردت أن أذكِّرك هذا الحديث» (?) .

ولم يكن الولاة يمنعون الرعية من الاحتساب، ولا يستخدمون سلطانهم أو قوتهم في تعطيلهم أو عرقلتهم عن القيام بذلك؛ فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد رأى رأياً في الأرض المغنومة وخالفه في ذلك الفاتحون واحتجوا عليه بما يرونه حجة لهم، فلم يلزمهم ولم يقهرهم، وإنما أخذ يحاججهم بما يرى صوابه ومصلحته؛ فعن نافع مولى ابن عمر يقول: أصاب الناسُ فتحاً بالشام فيهم بلال وأظنه ذكر معاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم - بخيبر. فكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ: إنه ليس على ما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم: يأبون ويأبى، فلما أبَوْا قام عمر ـ رضي الله عنه ـ فدعا عليهم فقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحاب بلال، ... ، قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: قوله ـ رضي الله عنه ـ: أنه ليس على ما قلتم؛ ليس يريد به إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر؛ فقد رويناه عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، ويشبه أن يريد به ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين، وجعل يأبى قسمتها لما كان يرجو من تطييبهم ذلك، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق؛ فلما أبَوْا لم يُبرم عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم ووقفها، ولكن دعا عليهم؛ حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس وأتباعهم، والحديث مرسل والله أعلم» (?) ، والشاهد أن عمر ـ وهو الإمام ـ لم يقهرهم على رأيه الاجتهادي، بل ظل يراجعهم ويراجعونه، ويأبى عليهم ويأبون عليه، وكان أقصى ما عمله معهم أن لجأ إلى الله بقوله: «اللهم اكفني بلالاً وأصحاب بلال» .

لقد كانت الحسبة في حس وشعور المسلمين حتى في عوامهم الذين قد يتصور عدم تنبههم لمثل ذلك، ولكن الإسلام قد ربَّاهم على ذلك، فصاروا يتصرفون في هذا الأمر وكأنه أمر جِبِلِّي؛ فقد ورد في أخبار عمر ـ رضي الله عنه ـ عن أسلم مولى عمر قال: «خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى (حَرَّة واقم) حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا أسلم! إني لأرى ها هنا ركباً قصَّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا! فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقِدْر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادْنُ بخير أو دَعْ! فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصَّر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما أُسكِتُهم به حتى يناموا؛ واللهُ بيننا وبين عمر. فقال: أَيْ رحمك الله، وما يُدري عمرَ بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا، ثم يغفل عنا، قال: فأقبل عليَّ؛ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدْلاً من دقيق، وكُبَّة من شحم، فقال: احمله عليَّ! فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أُمَّ لك. فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذُرِّي عليَّ وأنا أحرِّك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، ثم أنزلها، فقال: أَبغيني شيئاً! فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلَتْ تقول: جزاكَ الله خيراً؛ كنتَ أوْلى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين، وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا؟ ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدؤوا، فقال يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت» (?) ، فالمرأة تقول: واللهُ بيننا وبين عمر، وتقول أيضاً: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ ثم تقول له وهي لا تعرفه ـ بعدما أتاها بالمعونة: ـ جزاك الله خيراً، كنتَ أوْلى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، والمقصود أن هذه المرأة الفقيرة كانت تفهم ما يجب على ولي الأمر فعله، وهي تقرر أن الأوْلى بذلك المنصب مَنْ يقوم على شؤون رعيته ويعتني بهم ولا يغفل عنهم. إنه لم يخلُ عصر من عصور المسلمين من القيام بالحسبة في ذلك الجانب؛ ومرادنا التمثيل لا الحصر، والقيام بتنظيم هذا الأمر يساعد على تثبيته في أذهان الناس، ويكون أدعى لاستمرار العمل به.

بين الحِسْبة السياسية والمعارضة السياسية مفارقات وموافقات: عندما نقارن بين ما لدينا من الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية الوافدة إلينا والتي يراد لها الذيوع والانتشار والغلبة على مصطلحاتنا السياسية الشرعية، يتبين الفرق الكبير بين الأمرين؛ بحيث لا يمكن لمن عقل وابتعدت نفسه عن الأهواء المردية إلا أن يحرص على الحِسْبة السياسية ويتمسك بها ويدعو إليها، وإن كان هناك بعض الموافقات بين الحِسْبة والمعارضة وخاصة في الألفاظ العامة، لكن الاختلافات تظهر بقوة عند التفاصيل؛ فقد يقال في المعارضة كما يقال في الحسبة بضرورة اتباع العدل؛ لكن مفهوم العدل في شرعنا غير مفهوم العدل في الفكر السياسي الغربي وهكذا، ومن هنا يمكننا أن نقرر أن الخلاف بين الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية خلاف كبير وعميق، وهو أعمق بأكثر مما يتخيله كثير من الناس؛ إذ إن ما بينهما من الخلاف في الأصول والدوافع والغايات يربو بكثير جداً على ما بينهما من الموافقات في الفرعيات؛ فالموافقات في أغلب أمرها ما هي إلا موافقات ظاهرية.

الحرية الحقيقية: الحرية تعني الخروج من أسر القيود، والانعتاق من ذل العبودية، والحر يقابله العبد، لكن متى يكون الإنسان حراً حقيقياً وليس عبداً؟ إذا كان الإنسان لا تكبله نفسه، ولا تكبله أعراف المجتمع، ولا تكبله السلطة القائمة، أي خرج من أسر عبودية النفس والمجتمع والحكومة؛ فهو قد استوفى مظاهر الحرية، لكن متى يحدث ذلك؟ إن ذلك لا يحدث في الحقيقة إلا إذا كان الإنسان ملتزماً بالشريعة متقيداً بها مقاوماً كل ما يشوش على ذلك الالتزام، وإلا فإن الإنسان واقع لا محالة في نوع أو أكثر من أنواع العبودية؛ بحيث تنتفي حريته الحقيقية؛ إذ الإنسان منذ أن يولد تشده القيود المادية بوصفه مخلوقاً لا يملك الخروج عن نظام الكون، فهو مجبر على ذلك؛ فإن الجاذبية مثلاً تشده ولا يملك الانفكاك منها، وهكذا. ثم تبدأ القيود المعنوية في الورود عليه، فإذا لم يكن عليه قيد غير قيد الشريعة، كان الإنسان بذلك حراً حقاً؛ لأنه لا يقيده إلا خالقه. أما إذا ابتعد عن الشريعة فإنه يدخل في نطاق قيود أخرى متشاكسة في أكثر الأحيان، ويفقد الإنسان بذلك حريته الحقيقية وإن بدا له في الظاهر أنه حر في أن يعتقد ما يشاء، وأن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يريد.

فالحسبة التي تعيد الإنسان إلى مجال قيد الشريعة فقط، وتخرجه من مجال القيود الباطلة، فتقيمه على الجادة وتبعده عن بُنَيَّات الطريق، هي مظهر أصيل من مظاهر تحرر المسلم وتحلله من القيود الباطلة التي تعيق حركته.

إن الانفلات من كل ضابط والخروج من كل قيد والذي يعد أقصى مدى للحرية عند كثير من الناس هو في حقيقته أقصى مدى للعبودية؛ حيث يصير الإنسان عبداً لنفسه وشهواته وللشيطان، وهذه هي الحرية التي يوفرها الفكر السياسي الغربي الذي تنطلق منه المعارضة السياسية، وفي هذا الفكر فإن الإنسان له أن يضر نفسه وأن ينتحر ليتخلص من حياته؛ إذ لا ضرر من ذلك على أحد، وهو القيد الوحيد على الحرية في ذلك الفكر. بينما المسلم لا يجوز له إيقاع الضرر على نفسه حتى ولو لم يكن في ذلك ضرر على الآخرين؛ فللإنسان في هذا الفكر التعامل بالربا، وشرب الخمور، وتكوين العلاقات الجنسية مع غير الزوجات، ونحو ذلك، مما لا ضرر فيه على غير من يزاوله.

والمعارضة يمكنها انطلاقاً من دعوى الحرية الشخصية أن تتبنى الدعوة إلى الزواج المثلي، أو حق إباحة الإجهاض، وغير ذلك من الأمور؛ وقد حدث إقرار ذلك في المؤتمرات الدولية التابعة للأمم المتحدة على أن هذا من الحرية التي هي حق لكل إنسان ولا يمكن تقييدها.

والحسبة تمنع الضرر سواء كان يوقعه الإنسان على نفسه أو على غيره لعموم الأدلة المانعة من ذلك، وللقاعدة الشرعية الثابتة بقوله -صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار» (?) . ومنع الإنسان من أن يضر نفسه لا يعد في فقه الحسبة تدخلاً في الحرية الشخصية؛ لأن الإنسان لم يخلق نفسه، ومن ثَمَّ فإن الذي خلقها هو الذي يملكها، وهو الذي يشرِّع لها.

بين الإعلان والتغيير: الحسبة السياسية تقوم على إحداث التغيير المطلوب وفق المقررات الشرعية انطلاقاً من النصوص المتكاثرة الداعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ، وكقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فلغيره..» الحديث (?) وكقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (?) . فالمطلوب منع الباطل من الوقوع، وكفه عن التمادي في باطله أثناء فعله، وتغييره بعد وجوده؛ فالدعوة للتغيير وليس للإعلان فقط، وهذا يعني أن النظام السياسي الإسلامي لا يقف من المنكرات موقفاً سلبياً، بل موقفه إيجابي؛ فهو داعٍ إلى التغيير وآمر به، وهو أكثر من مجرد السماح بذلك، ولا بد أن تكون فيه من الآليات ما تمكن من ذلك، وعند امتناع الحكومة عن الاستجابة على أساس أنها لا ترى ما تراه الحسبة؛ فإنه بالإمكان اللجوء إلى المحكمة للفصل في ذلك، والذي يكون حكمها ملزماً للأطراف جميعاً.

والحسبة ينبغي أن تكون قوية، وهي تأخذ قوتها من كونها مؤسسة على أمر الشرع كما قال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] ، لكن لا تدفعها قوتها في مقابل السلطة إلى أن تكون بديلاً عنها، أو أن تحاول الاستيلاء على السلطة؛ لأن طلب الحكم والسعي في الوصول إليه ممنوع بمقتضى النصوص الشرعية التي تحظر على المسلمين طلب الولاية، وإذا وصلت الأمور بالحكومة إلى أن تخرج عن الحد الذي ينبغي فيه عدم منازعتها؛ فإن الحسبة السياسية ليست هي البديل، وكذلك الأمر إذا دعت الحسبة إلى حجب الثقة أو إلى السعي في تغيير السلطة؛ لأنه عندما تخرج السلطة الحاكمة عن حدود الشرعية وتصبح بمقتضى الأحكام الشرعية لا حق لها في تولي الأمر، ويصير تغييرها مطلباً شرعياً؛ فإن البديل ليس هو أهل الاحتساب، وإنما البديل من تنطبق عليه الصفات ويحقق الشروط فيمن يتولى الأمر، ولا تتم توليته إلا بالطرق الشرعية المعلومة في كيفية اختيار الولاة، وليس من ذلك بالطبع استخدام القوة وشهر السلاح، كما أسلفت، ولعل هذا يكون أحد أسباب التعاون والتفاهم بين الحكومة والحسبة؛ إذ ليس واحد منهما ينافس الآخر، بل كل منهما يعمل من أجل مصلحة الأمة.

وأما المعارضة السياسية فليس فيها سوى الإعلان أن ذلك الأمر الفلاني باطل، وتنظيم مظاهرة من أجل ذلك، أو الإضراب كنوع من الاعتراض على ما يرونه من الأمور باطلاً، لكنهم لا يملكون التغيير؛ لأن التغيير بيد الأغلبية، وكل ما تملكه المعارضة تنبيه الأغلبية على ذلك، أو إشعار العامة على أمل أن يكون ذلك رصيداً لهم في الانتخابات القادمة. وفي الجانب المقابل فإن المعارضة قد يدفعها شعورها بالقوة المتزايدة في مقابل السلطة فتقوم بتنظيم المظاهرات والإضرابات التي تعجل أو تعمل على إسقاط الحكومة القائمة لتحل محلها، وهذا يجعل العلاقة بينهما علاقة تضاد وشكوك وارتياب، مما يترتب عليه سعي كل منهما في تعطيل الآخر وتعويقه لإخراجه من حلبة المنافسة حتى ينفرد هو بالتحكم في القرارات والاستقلال بها.

السعي للسلطة: الحسبة في عملها تسعى لإقامة المجتمع على الجادة، والجادة لا يراد بها هنا الحالة الدينية فقط؛ إذ إن من المعلوم أن الإنسان ليس روحاً فقط، وإنما هو روح وجسد، والجسد له متطلباته سواء في حالة انفراده أو اجتماعه؛ ولذلك فإن المجتمع في حاجة إلى أن يقام على الجادة في أمور كثيرة كالتعليم والصحة والسياسة والاقتصاد، وفي كل ذلك جاءت تشريعات أو أحكام: إما منصوص عليها، وإما يُجتهد فيها من خلال النصوص الموجودة، وإما أحكام تُستنبط من القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية، والحسبة تعمل على التزام المجتمع بذلك: فتبصره بذلك عن طريق العلم، وتعينه عن طريق تيسير سبيل الالتزام، وتكف عنه العوائق والعوارض التي تعمل في الاتجاه المعاكس؛ كل ذلك ابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ ورضوانه؛ فالهمة أصلاً متوجهة إلى الإصلاح: سواء إصلاح المجتمع، أو إصلاح الحكومة، والإعانة على ذلك. وأما المعارضة فإن جهدها كله منصبٌّ على الوصول إلى الحكم، وما تظهره من آراء أو أقوال أو تصورات أو اعتراضات، وما تقدمه من رؤى في الإصلاح؛ فإن الهدف من ذلك أن يكون معيناً ومساعداً في الوصول إلى الحكم؛ فالهمة متوجهة إليه أصلاً، وليس تغيير الحكومة إذا فسدت أو خرجت عن حد الصلاح، أو لم تعد قادرة على ضبط الأمور، أو تأخرت أحوال الأمة في زمنها تأخراً بيناً يعد عيباً أو شيئاً يمنعه الإسلام. لكن الذي يأباه الإسلام ويمنعه أن يتخذ الخلاف في الرأي في مسائل كلها من قبيل الاجتهاد ذريعة لتغيير حكومة مستقرة قائمة بما وجب عليها، محققة للغرض الذي نُصبت من أجله، غير مقصرة فيما هو مطلوب منها، وليست ظالمة لرعيتها بمنعها من حقوقهم الشرعية.

القدرة على التأثير: الحسبة لا تعتمد في عملها على قوتها العددية، وإنما ينبثق عملها من الاحتكام إلى محددات وأمور متفق عليها بين الجميع، وتملك الإلزام بالحق عن طريق اللجوء إلى المحكمة؛ بينما المعارضة تعتمد في عملها وقدرتها على التأثير في القرارات لا على صواب منطقها ولا جودة رأيها وفائدته للأمة، وإنما تعتمد على الكثرة العددية؛ فإذا استطاعت أن يكون لها الغلبة العددية فحينئذ تملك القدرة على التأثير وتحقيق ما تريد، حتى ولو لم يكن رأيها صواباً؛ إذ الصواب هو موافقة الأكثر عليه، فالصواب ليس شيئاً زائداً عن ذلك. أما إذا لم تستطع أن تستقطب حول مشروعها الأغلبية الكافية فإنها لا تستطيع التأثير، ولو كان ما تذهب إليه هو الصواب نفسه؛ لأنها فقدت شرط الصواب الذي يُعَوَّل عليه وهو الحصول على الأغلبية، ويصبح تأثيرها في ذلك لا يتعدى كونه ظاهرة صوتية إلا أن تتعدى حدود المشروعية في النظام الذي يحدد عملها، فتخرج إلى الشارع وتخاطب العامة وتستثيرهم لاتخاذ مواقف ضاغطة على الحكومة عن طريق التظاهر والإضرابات وتعطيل الأعمال وغير ذلك. لكن هذا يعد خروجاً على النظام الذي ينظم المعارضة، فالمعارضة يمكنها إلقاء خطبة عصماء، أو كتابة مقالة أو كتاب مدعوم بالحجج والبراهين والأدلة والوثائق وكل ما يحتاج إليه في إثبات صواب الرأي، ثم بعد ذلك كله فإن الذي يحسم القضية هو الكثرة العددية؛ حيث يتم عد الأصوات الموافقة والمخالفة ثم تكون الغلبة في النهاية أو الفيصل بين الحق والباطل لأصحاب العدد الأكبر، بل قد تملك الأغلبية سن تشريع أو نظام أو قانون تمنع به المعارضة أو تعرقل بعض أنشطتها، وتحبط مشروعات القرارات التي تتقدم بها المعارضة.

وفي حالات الاستقامة النفسية والإخلاص والتجرد من الأغراض الذاتية قد تكون الكثرة العددية دالة على رجحان الرأي الذي هي في صفه، لكن في أوقات أخرى مثل حالات فساد الذمم، واعوجاج النفوس، وحالات الضعف الفكري، وسيطرة الدعاية والإعلام والإعلان على العقول والأفكار، لا يأتي من وراء ذلك إلا الأقدر على الدعاية والإعلان والأكثر كذباً وخداعاً بغض النظر عن الصواب والخطأ.

وإذا علمنا أن النظام الذي يعتمد المعارضة لا يشترط فيمن يزاولون السياسة (مرشحين وناخبين ـ معارضة وحكومة) شروط تحول ببن الكذب والخداع مثل التقوى والعمل الصالح وأداء الفرائض واجتناب الكبائر؛ فإن هذه الأساليب الممقوتة تروج بينهم بكثرة شديدة، ولو قال قائل: بل ينبغي اشتراط قدر من التقوى والعمل الصالح يمنع الكذب والخداع، وقدر من الغنى يمنع من الخيانة ويدعو إلى الأمانة، وقدر من العلم يمنع من الانجراف وراء الآلة الإعلامية، قيل: ليست هذه هي المعارضة، وينبغي أن يبحث لها عن اسم آخر؛ إذ المعارضة عندهم إحدى نتائج فكرة كلية تقول: إن الشعب هو صاحب الكلمة العليا في شأن سياسة المجتمع وتنظيمه، والشعب هو كل مواطن بالغ عاقل بغضِّ النظر عن دينه أو علمه ومنزلته وجاهه، فيستوي الجميع في هذه السيادة التي تكفل لهم الحرية المطلقة، ولو طلبنا اشتراط قدر من التقوى لهاجمنا أصحاب ذلك الفكر وعدُّوا ذلك انتقاصاً من تلك الحرية.

والقدرة على التأثير من المعارضة شكلية إلى حد كبير جداً؛ إذ إن الرأسماليين أصحاب رؤوس الأموال هم الفئة المسيطرة في الحقيقة على المجتمع، وهم مُلاَّك وسائل الإعلام التي يقومون بتوجيهها لصناعة الرأي العام من أجل مصالحهم ومصالح طبقتهم، وقد أصبح وجود وسيلة إعلامية ليس لها من هَمٍّ سوى تقديم المعلومة الصائبة، بغض النظر عمن تخدمه تلك المعلومة، أمراً عسيراً، بل نادراً؛ لأن هذه الوسائل إنما تعمل في خدمة ملاكها الذين يهمهم توجيه المجتمع إلى حيث مصلحتهم، ثم إن التكلفة المالية الضخمة لممارسة العمل السياسي من حيث الدعاية والإعلان لا يقدر عليها إلا كبار الأثرياء، وهذا ما يحول بين فئة كبيرة من الناس من المشاركة في العمل السياسي، أو تجعلهم رهينة في أيدي أحزابهم التي تنفق على حملاتهم السياسية؛ فقد تصل تكلفة بعض الحملات الانتخابية للرئاسة عشرات الملايين، وفي بعض البلدان تصل تكاليف الحملات الانتخابية إلى عدة مئات من ملايين الدولارات؛ فمن الذي يقدر على ذلك؟ وهذا كله يمنع في النهاية من أن تكون هناك معارضة حقيقية نابعة من رؤية الفرد الخاصة إذا كانت تخالف رؤية الحزب، فعندما توجد مثل هذه الرؤية الخاصة فإن الأفراد لا يملكون البوح بها وإظهارها، إلا إذا كانوا قد قرروا ترك الحزب، وهذه هي الحرية التي يتشدقون بها، وإذا ما خرج من الحزب فإنه يفقد مكانته السياسية لعدم قدرته على الإنفاق في غالب الأحيان، وهو في هذه الحالة بين أمرين: إما أن يتقاعد سياسياً، وإما أن يتحول إلى حزب آخر سوف يمارس معه الدور نفسه بعد قليل.

وإذا كان الوصول إلى المقاعد النيابية لا يستطاع إلا بالإنفاق؛ فهذا يعني أن المعارضة لا تتاح حقيقةً إلا للأغنياء الذين لديهم الأموال الكافية التي تمكنهم من المحافظة على آرائهم. لقد أثبت ذلك النظام إخفاقه الشديد في بلدين يُنظَر إليهما على أنهما من البلاد التي تتمتع بالحرية الكاملة والمعارضة القوية؛ فقد شنت أمريكا وحليفتها بريطانيا الحرب على العراق بدعوى امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل التي تهدد السلام العالمي، ولا بد من القضاء على ذلك كشرط أساس حتى ينعم العالم بالسلام والأمان، وظل النظامان يرددان تلك الأكذوبة فترات طويلة، ثم ظهر بعدما شنوا الحرب وقتلوا أكثر من مائة ألف عراقي أن ذلك كله كان كذباً في كذب، وقد اضطر نظاما الحكم في البلدين إلى الاعتراف بكذب المعلومات التي استندوا إليها في شن الحرب، وأنه قد جرى تزويدهم عمداً بمعلومات غير صحيحة من قِبَل أجهزة مخابراتهم؛ فماذا فعلت المعارضة بعد ذلك؟ لم تتمكن المعارضة من فعل شيء؛ لأن الأمور يحكمها في النهاية عدد الأصوات، وقد نجح رئيسا البلدين في الفوز في الانتخابات التي أجريت بعد ذلك مع تلك المصائب.

التعددية وأثرها على الواقع: التفاوت والفروق الفردية بين الناس أمر مدرَك لا يمكن جحده وله ما يسوِّغه؛ إذ لا يمكن صب الناس في قالب واحد وخاصة في الأمور الاجتهادية سواء كانت مما يتعلق بالدين أو بالدنيا، وعلى ذلك فإن الشريعة تعترف باختلاف المشارب والقدرات وما ينتج عن ذلك من تعدد في الرؤى، ومن ثم فهي لا تنظر إلى هذا التعدد أو تقف منه موقف المستريب أو تعمل على القضاء عليه بكل سبيل، ما دام أنه داخل الحدود المعتبرة، كما أن هذا التعدد لا يكون مصدر ضعف بل يكون مصدر رحمة وتوسعة كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. ثم إن هذا التعدد محكوم في النهاية بإطار يقلل من التعدد الواهي الذي يضعف الأمة، ويمنع من التعدد الانفلاتي القائم على الحرية المطلقة (?) وفق الفكر السياسي الغربي؛ حيث تتعدد قوى المعارضة وتأخذ اتجاهات شتى في ظل عدم وجود إطار يحصر هذه القوى، مما يضعف هذه القوى جميعاً؛ فلا يصير لها من أثر على واقع الحياة السياسية؛ فإذا أرادت التأثير فإنها تعمد إلى أن تكون كتلة واحدة (أو ما يسمى بالتكتل) حتى تستعين بعدد هذه الكتلة للوقوف أمام الحكومة فتعرقل قراراتها أو مشروعاتها أو تحبطها، وهنا يتحول الواقع السياسي إلى مشهد البحث عن تضخيم المكاسب والمغانم، وتقليل الخسائر والمغارم، فلم يعد المشهد مشهد الحفاظ على مصلحة الأمة، ويكون المشهد في ذلك أقرب إلى مشهد المعارك والحروب لا مشهد التعاون والتعاضد، وتظهر اتهامات بالفساد المتبادل بين الطرفين سواء بالحق أو بالباطل في إطار حملة كسب تأييد الرأي العام أو الشعبي إلى صفه.

ثم إن المعارضة في تكتلها تضطر إلى التنازل عن شيء من خطتها في سبيل جمع الكلمة والالتقاء حول قاسم مشترك يُتفق عليه لمواجهة الحكومة؛ فقد تحولت فكرة مواجهة الحكومة إلى أصل يلتقي عليه الجميع، وهذا مما يبين كيف أن الأسماء تؤثر على الأفعال والتصرفات؛ فكون أن اسمها معارضة يجعلها تعمل وتتصرف على خلاف الحكومة حتى لا تفقد مسوِّغ وجودها أو تميزها عن الحكومة، حتى وإن كان ذلك في أمور ليست جوهرية.

ثم إن المعارضة إذا قبلت بمبدأ التنازل عن بعض تصوراتها أو خططها من أجل التوحد في مواجهة الحكومة؛ أفلا يكون من الأجدى لها التنازل عن بعض تلك التصورات أمام الحكومة للوصول إلى قاسم مشترك فيه مصلحة الأمة؟ لكن إذا كان الهدف هو الوصول إلى السلطة فإن هذا الحل يصبح غير مناسب، وإذا قيل: لا، بل لأن الخلاف كبير ولا يمكن الوصول بشأنه إلى حل وسط، وأن ذلك التصرف يمثل خيانة لطموحات الشعوب وآمالها؛ فهذا يعني أن هذا النظام لا يصلح إلا عند وجود التباين الشديد والتنافر العظيم بين مكوناته وأجزائه.

الحجة والمرجعية: الحسبة تنطلق من نظام سياسي يعتمد الشريعة حجة ومرجعاً يُرجَع إليه، ومن ثَم فما وافق الشريعة فهو حق وصواب، وما خالفها فهو خطأ وباطل، بغض النظر عن أعداد القائلين في كل حالة. ويمكن الاعتراض على القرارات والتشريعات ولو كانت متعلقة بالأمور الدنيوية إذا كان فيها ما يخالف الشريعة، أو كان يترتب عليها عَنَتٌ ومشقة على الرعية بغير مسوِّغ، حتى لو أقرت ذلك السلطة الحاكمة، ويمكن الاعتراض على ذلك في حالة عدم استجابة الحكومة أمام المحكمة، ويصير حكم المحكمة ملزماً للأطراف كلها؛ فالإلزام إنما يكون بالشريعة؛ وفي هذا محافظة كبيرة على مكانة أفراد الأمة والاعتراف بكرامتهم.

وأما المعارضة فإن الحجة فيها راجعة للأغلبية فلا يمكن وصف رأي أو تَصوُّر بالبطلان ـ حتى لو كان خطأ تماماً ـ إذا حاز على الأغلبية ووافقت عليه الأكثرية؛ إذ لا معنى للصواب عندهم إلا أن يكون ذلك مُوافَقاً عليه من الأغلبية، وحينئذ يمتنع الاعتراض عليه أمام المحاكم، ويصبح نافذ العمل بمجرد إقراره، وتكون في النهاية الأغلبية هي المتحكمة في مصائر الأمة، حتى لو كانت أغلبية صورية أو كانت أغلبية جاهلة أو فاسدة.

الاستمرارية في العمل: الحسبة وجودها ونشاطها غير مرتبط أو متوقف على الاعتراض على تصرفات الحكومة، بل هي تعمل مع الحكومة في الاتجاه نفسه، وتشارك عن طريق العمل الإيجابي مع الحكومة في تحقيق أهداف المجتمع؛ ولذلك فإن الحسبة تظل مزدهرة في حالة استقامة الراعي وفي حالة اعوجاجه، ولذلك قال أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيما نقلناه عنه سابقاً: «راعوني؛ فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني!» (?) ؛ فالحسبة تعمل وتنشط في كِلا الحالين مما يعني استمرارية عملها في المجتمع في كل أحيانه؛ فعن أبي قلابة: «أن رجلاً من حمص يقال له كريب بن سيف ـ أو سيف بن كريب ـ جاء إلى عثمان، فقال: ما جاء بك؟ أبإذن جئتَ أم عاصٍ؟ قال: بل نصيحة أمير المؤمنين، قال: وما نصيحتك؟ قال: لا تكل المؤمن إلى إيمانه حتى تعطيه من المال ما يصلحه ـ أو قال ما يعيِّشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك، ولا ترسل السقيم إلى البريء ليبريه؛ فإن الله يبرئ السقيم، وقد يُسقِم السقيمُ البريء، قال: ما أردت إلا الخير. قال: فردهم، وهم زيد بن صوحان وأصحابه» (?) ؛ فقد جاء المسلم من حمص في سوريا إلى المدينة النبوية يحتسب عند أمير المؤمنين في إسداء النصيحة.

أما المعارضة فإنها قائمة على أساس التربُّص بتصرفات الحكومة ومخالفتها، وهي بمقتضى قيامها تعد نفسها البديل للحكومة؛ فهي لم تقم إلا لمعارضة الحكومة لا لمعاونتها، وأقصى ما يمكن أن تشارك به هو تقديم وجهة نظر فيما يراد عمله أو إقراره من قِبَل الحكومة بهدف إظهار تفردها وتميزها على الحكومة وأحقيتها في أن تحل محلها؛ وهذا يعني أنه عند استقامة الحكومة أو عند وجود خلافات غير جوهرية فإن استمرارية المعارضة وفعاليتها تصل إلى أدنى درجاتها، وحتى تحافظ المعارضة على استمراريتها وفعاليتها وعدم غيابها عن حس المواطن العادي، فإنها إما أن تفتعل الاختلاف مع الحكومة افتعالاً، وإما أن تضخم الخلاف الموجود.

الحسبة ضمان وأمان: قد ترفض السلطة في كثير من بلاد المسلين أي نوع من أنواع المتابعة والمراقبة لسياستها تصوراً منها أن ذلك يقدح في هيبتها أو أحقيتها بالولاية، ومن ثم ترفض الاقتراحات المقدمة والمشاركة في حل المعضلات أو المشكلات، وهذا فضلاً عن مخالفته للأحكام الشرعية فإن فيه محاذير أخرى نذكر منها: حرمان الأمة والمجتمع من كفاءات العديد من خيرة أبنائه الذين ينأَوْن بأنفسهم عن الدخول في هذه المواقف الحرجة، كما يحرم الأمة من مشاركتهم لها وقت الأزمات، وفي المواقف الحرجة التي تحتاج إلى جهدهم وفكرهم، فتقف وحيدة من غير معاونة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إليهم. وبينما هناك فريق ينأى بنفسه فإن هناك الفريق المقابل الذي قد يلجأ إلى خيارات يترتب عليها نشوء أفكار مشوهة أو غير صحيحة، ومواقف غير رشيدة لا تجني الأمة من ورائها إلا الشوك، وقد ينقلب الأمر عند فئة ثالثة إلى المداهنة والنفاق وإظهار الرضا والموافقة على كل تصرفات الحكومة. وخطورة هذا المسلك على مجموع الأمة معروف لا ينكر، فلا يُظهر الحق ولا يُخمد الباطل إلا ما وافقت عليه السلطة، وهو ما يعني في النهاية اختزال الأمة كلها في الحكومة، بينما الأصل أن الحكومة إنما وجدت لمصلحة الأمة، كما يترتب على منع الحسبة إضعاف التفاعل بين الدولة والأمة، حتى يتصرف كثير من الناس بنفسية الأجير لا بنفسية صاحب الدار، ويترتب على ذلك تعرض الأمة للغزو الفكري والقبول بأشكال الفكر السياسي الغربي الوافد بأشكاله ومشكلاته. وفي ظل التقدم التقني الهائل في وسائل الاتصالات صارت المعلومات والأخبار بمنزلة الكلأ المباح يَرِدُه كل من احتاج إليه، وأصبح التحكم في ذلك صعباً للغاية، ولم يعد بوسع الدول أن ترد عادية هذا الأمر إلا بحكم الشعوب بشريعة الله التي تضمن التَّواؤُم بين الجميع والعمل الجاد العام لصالح الجميع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015