أم عبد الرحمن الزيد
للفتن حِكمٌ ولو لم نعرف منها إلا واحدة لكفانا، وهي الابتلاء والامتحان.
قال ـ جل وعلا ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «اقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب من أنواع الابتلاء والامتحان» ا. هـ (?) .
1 - فأول هذه المبشرات:
حصول الأجر ووضع الوزر: وذلك إذا قُرن بالصبر والاحتساب. يقول أبو طالب المكي: اعلم أن الصبر سبب لدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأنه جاء في الخبر: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (?) .
بل إن العبادة في وقت الفتن وعند غفلة الناس لها أجر مضاعف؛ فعن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ» (?) .
يقول النووي ـ رحمه الله ـ: «المراد بالهَرْج هنا الفتنة، واختلاط أمور الناس. وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد» ا. هـ (?) .
2 - وعد الله الصادق والخبر الجازم باستخلاف المؤمنين العاملين الصالحات، وتمكينهم الأرض، وإقامة العبودية لله وحده لا شريك له:
قال ـ جل وعلا ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: هذا وعد من الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} «من الناس {أَمْنًا} وحكماً فيهم، وقد فعله ـ تبارك وتعالى ـ وله الحمد والمنة؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين واليمن وسائر الجزيرة العربية بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية: كان النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدِموها، فأمرهم الله بالقتال؛ فكانوا بها خائفين يُمسون في السلاح ويُصبحون بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله! أبد الدّهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لن تغبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة، فأنزل الله هذه الآية» ا. هـ (?) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية وهي لم تشهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها والتمكين من إقامة الدين الإسلامي والأمن التام؛ بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ولا يخافون أحداً إلا الله، فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم؛ فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام؛ فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة. ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قالوا بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط الله عليهم الكفار والمنافقين ويديلهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح» (?) . وقال أحد السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس.
3 - أن الله أقسم بعزته على نُصرة المظلوم:
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين» (?) .
ويقول ـ جل وعلا ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: «ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه وحاربوا رسوله أنَّ تَرْكَنا إياهم في هذه الدنيا وعدم استئصالنا لهم وإملاءنا لهم خير لأنفسهم ومحبة منَّا؛ كلاَّ! ليس الأمر كما يزعمون، وإنما ذلك لشرٍ يريده الله بهم وزيادة في عذاب وعقوبة إلى عذابهم، ولهذا قال: {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] ؛ فالله - تعالى - يملي للظالم حتى يزداد طغيانه ويترادف كفرانه، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فليحذر الظالمون من الإمهال ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال» ا. هـ (?) .
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] » (?) .
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعلم أن مع الكرب فرجاً، ومع الشدة يسراً، ويثبت أمام أقوال الظالمين؛ فمنهم من يقول: ألم يجد الله غيرك رسولاً يرسله؟ ويقول آخر: لو رأيتك متلعقاً بأستارالكعبة ما صدقتك. فيصبر ويحتسب حتى يظهر الله دينه، وينصره على الظالمين.
4 - تكفل الله بحفظ الدين وإظهاره على سائر الأديان:
يقول ـ جلت قدرته ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: الهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح، والعلم النافع، ودين الحق هو الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} : أي على سائر الأديان؛ كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أمتي ما زوي لي منها» (?) .
وروى الإمام أحمد عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله هذا الدين يُعزُّ عزيزاً ويذلُّ ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» ، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي: لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية» ا. هـ (?) .
5 - المحاسبة الدقيقة للنفس المؤمنة (?) :
والوقوف على المنح الربانية والعطايا الرحمانية من هذه الفتن: ذلك أنه يكون من جملة أسباب هذه الفتنة ذنب أو تقصير أو غشيان معصية أو إخلال في العقيدة والثقة بالله؛ والتوبة ومراجعة النفس وسيلة لدراسة الحاضر واستهشراف المستقبل؛ فالمتأمل في غزوة أحد وفي ذنبٍ واحدٍ وهو نزول الرماة؛ وذلك بعد أن ظنوا أن المعركة انتهت؛ فماذا حصل؟ لقد وقع فيهم سبعون شهيداً، ومُثِّلَ بهم أقبح تمثيل. لقد شُج رأس النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته وهشموا البيضة على رأسه، وهي الخوذة التي يضعها الفارس على رأسه.
قال ـ جل وعلا ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أي بسبب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين أمركم أن لا تبرحوا مكانكم فعصيتم. ويعني بذلك الرماة» (?) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون؛ فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المردية؛ فإياكم وسوء الظن بالله؛ فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم» (?) .
ويقول أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.
ومن صور محاسبة النفس تقوية عقيدة الولاء والبراء وإثباتها في النفس؛ وذلك باستمرار المقاطعة الجادة للمنتجات اليهودية والنصرانية.
يقول الدكتور محمد بن عبد الله الشباني: في مقال (واجبنا زمن الانهزام) : «وبهذه المقاطعة يتحقق أمران:
الأول: تشجيع منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادياتها.
الثاني: محاربة العدو اقتصادياً بالامتناع عن شراء السلع المنتجة في تلك البلاد، ومحاربة كل تاجر مسلم يستورد السلع الاستهلاكية من بلاد أعداء المسلمين، وعلى كل فرد رفع شعار (قاطعوا الأعداء) بالامتناع عن شراء أي سلعة منتجة وموردة من بلاد النصارى وبالأخص الدول التي تتولى قيادة دول النصارى (?) .
6 - وبالجملة فإن للفتن خيرات وفي المحن عطايا ومبشرات ومنافع ومسرات نذكر منها إجمالاً:
1 - دفاع الله عن الذين آمنوا: يقول ـ جل وعلا ـ: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يخبر - تعالى - إنه يدفع عن الذين توكلوا عليه، وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم كما قال ـ تعالى ـ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] (?) .
ويقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: «هذا إخبار ووعد وبشارة من الله للذين آمنوا أن الله يدفع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم بسبب إيمانهم كل شر من شرور الكفار وشرور وسوسة الشيطان وشرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف كل بحسب إيمانه له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقلٌّ ومستكثر» (?) .
2 - صلابة الإيمان وقوته وقت المحن والأزمات: يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورةً ويتجنب المحظورات فحسب؛ إنما المؤمن هو الكامل الإيمان لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة؛ وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه» .
3 - إبراز الشخص بصورة أقوى لمقابلة الأزمات والشدائد: يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: «ومثل الابتلاء كقشر البيضة سجن لما فيها تحفظ ما بداخلها حتى يتشكل ويخرج بعد ذلك خلقاً آخر؛ وكذلك المبتلى يكون ابتلاؤه سجناً له، ويتشكل وهو فيه حتى يخرج من الابتلاء وهو خلق آخر» .
4 - ما ذكره الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في مقال: (القضية البوسنية دروس وعبر) :
أولاً: رجوع الناس في تلك البلاد إلى الإسلام؛ حيث برز منهم من يفهمه فهماً صحيحاً بعد أن كان إسلاماًِ صورياً بالهوية فقط وما نتج عن ذلك من التمايز عن الكفار بعد أن كانوا في حالة من الانصهار والذوبان معهم دون علم بحقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر.
ثانياً: أظهرت هذه الأحداث طرفاً من خيرية هذه الأمة، وأن الشعوب رغم ما دهاها في دينها فلا تزال فيها بقية من خير وحب للإسلام؛ وذلك فيما ظهر من التعاطف الشديد من المسلمين بعامة مع إخوانهم المنكوبين؛ حيث برزت أمثلة رائعة في البذل والتضحية والدعوة والجهاد من دعاة وخطباء ومجاهدين وأثرياء (?) .
- آخر المطاف:
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» (?) .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: وهذا الحديث يقتضي خبراً وإرشاداً: أما الخبر فإنه -صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه في آخر الزمان يقلُّ الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل؛ وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة كحالة القابض على الجمر؛ من قوة المعارضين وكثرة الفتن المضلة.
أما الإرشاد فإنه إرشاد أمته أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات وصبر على دينه وإيمانه مع المعارضات فله عند الله أعلى الدرجات، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤونة.
ولكن مع ذلك فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصوراً على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتاً في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه ووعده الذي لا يخلفه بأنه سيجعل له بعد عسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات (?) .