وسياسة المشاهد السريعة
أحمد فهمي
وقف (جون ريندون) مستشار العلاقات العامة أمام طلبة الأكاديمية الجوية الأمريكية، يحدثهم عن حرب الخليج الثانية: «هل توقف أحدكم لحظة ليتساءل: كيف حصل سكان الكويت بعد التحرير مباشرة على مئات الأعلام الأمريكية الصغيرة التي لوَّحوا بها لجنودنا؟ حسناً! الجواب: تلك كانت إحدى وظائفي» .
يمتلك (ريندون) شركة كبرى للعلاقات العامة ويرتبط مع البنتاغون بعقود طويلة الأجل يتولى من خلالها أعمالاً متعلقة بحرب العراق وغيرها، وهناك أيضاً شركات أخرى يعتمد عليها البنتاغون مثل (ويبر ساندويك) حول العالم و (هيل آند نولتون) هذه الشركات مهمتها الرئيسة المساعدة في إخراج المشاهد السياسية اللازمة لخداع الرأي العام أو لخنق دولة انتهى تاريخ الصلاحية لنظامها السياسي.
وقد أصبحت «المَشاهدِ السريعة» سياسة معتمدة بصورة رسمية منذ إعلان استراتيجية الضربات الاستباقية، فتم تأسيس مكتب الاتصالات العالمية في البيت الأبيض، وخُصصت له ميزانية 200 مليون دولار كي يروج للحرب ضد العراق. قبل ذلك كان لا بد من انتظار حدث خطير في حجم احتلال العراق للكويت قبل الشروع في الحرب، لكن الوضع تطور كثيراً في الحرب الأخيرة، وأصبح بالإمكان إنتاج مشهد مسوغ لبدء الحرب لكن في استوديوهات البنتاغون.
وسياسة «المشاهد السريعة» لها خلطة سرية تتضمن: مدخلاً مناسباً (الديمقراطية، أسلحة الدمار) ـ معلومات استخباراتية (علاقة مع القاعدة، تطوير أسلحة إلخ) ـ معارضة (الجلبي، أقباط المهجر إلخ) ـ قراراً من مجلس الأمن ـ تكراراً. ويتم مزج هذه المكونات حتى تُحدِث التحريض المطلوب ضد الجهة المقصودة بنجاح، والرئيس بوش لا ينكر هذه السياسة بل يقول: «إن إحدى مهماتي هي أن أكون محرضاً، وأنا جادٌّ في ذلك.. أنا أحرض الناس حتى أنتزع القرارات منهم بقوة» .
وسياسة «المشاهد السريعة» لها جانبان مهمان:
أولهما: أن المشاهد السياسية المركبة تكون سريعة التأثير والزوال أيضاً؛ بمعنى أنه لا يترتب عليها أية عاقبة أو مساءلة بعد اكتشاف الكذب أو تضخيم الأحداث، وتلك مزية عظيمة تفسح المجال لمزيد من الخداع. وقبل غزو العراق صرح الرئيس بوش بأن تقريراً لوكالة الطاقة الذرية يؤكد أن العراق سيمتلك سلاحاً نووياً في ستة أشهر، وتساءل قائلاً: «أنا لا أدري ما هو الدليل الإضافي الذي نحتاجه؟ بعد ذلك تبين أن لا وجود لمثل هذا التقرير المزعوم، ولا وجود لأي برنامج نووي؛ فهل اعترض الأمريكيون واتهموا رئيسهم بالكذب؟ تقول (هيلين توماس) كبيرة مراسلي البيت الأبيض: «إن إعادة انتخاب بوش هي أكبر استفتاء بالموافقة على حرب العراق» . نحن إذن أمام رؤساء يكذبون ومواطنون لا يأبهون، وهذه وضعية تنبئ عن الأخلاقيات التي ستحكم الصراع في الفترة القادمة، وهذا ما أكده وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بقوله: «أحيانا تكون الحقيقة ثمينة جداً إلى درجة أن يصبح من الضروري أن تكون مصحوبة بحراسة من الأكاذيب» .
ثانيهما: أن غالبية الدول العربية تقع ضمن نطاق الأهداف المحتملة لهذه السياسة؛ فهناك (أجندة) جاهزة لكل دولة تحتوي على المكونات الضرورية لإخراج مشهد مؤثر، لا توجد ضرورة أبداً لانتظار سلوك استفزازي أو عدواني من دولة ما لشن الحملة ضدها، يكفي أن يدركها الدور فتدور الآلة الإعلامية الجبارة، ويخرج المشهد السياسي للرأي العام لترتفع الرايات البيضاء في أسابيع قليلة.