علي حسين باكير
السودان وما أدراك ما السودان؟! السودان الذي تبلغ مساحته حوالي 2.5 مليونين ونصف المليون كيلو متراً مربعاً (أي أكبر دولة أفريقية مساحة، يليها الجزائر) ، وتبلغ مساحته ضعفي مساحة مصر، وما يقرب من مساحة أوروبا الغربية، ويبلغ عدد سكّان السودان حسب إحصاء عام 97 م حوالي 30.3 مليون نسمة، 83% من عدد السكان من المسلمين - حسب إحصاء عام 92م - و 14% وثنيون و3% نصارى. ويوجد في السودان حوالي 752 قبيلة، تتوزّع على عدّة قوميات، أكبرها العرب 40%، ومن ثمّ الزنوج 30%.
هذا السودان الذي تصعب السيطرة عليه بحكومة مركزيّة قويّة دون استخدام القوّة ـ وهو الأمر الذي سينتقده الجميع بحجّة الديكتاتوريّة ـ تتكالب عليه جميع الأمم من أمريكا، وإسرائيل، وبريطانيا، وأستراليا، وألمانيا، وفرنسا، ولم يبق أحد إلاّ وتدخّل في السودان، والعرب أصحاب القضيّة نيام في سبات عميق نوم أهل الكهف؛ مثل عادتهم عند كل حدث حتى تقع المصيبة، فيصحوا عندها على نداء: «هلمّوا إلى مساعدتنا ضد اجتياح السودان» ، كما حصل مع العراق، وفي حال إرادة أحد الغيورين على مستقبل الإسلام والعرب والسودان الدفاع عنه حينها سيهبّ الآخرون صارخين في وجهه: «لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين» ، كما قالوا سابقاً: «لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين» ، و «لن نكون عراقيين أكثر من العراقيين» ، وعندما تسقط الدول الواحدة تلو الأخرى، وتطلب المساعدة يكون جواب الإخوة العرب: «لا نريد التدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية أخرى» .
إنّ السودان في شكله الحالي يعدّ فريسة سهلة للولايات المتّحدة الأمريكية، وسيكون الهدف التالي بعد العراق على الأغلب إذا ما أرادت الولايات المتّحدة شنّ هجوم على إحدى الدول استكمالاً لسلسلة حروبها الوقائيّة، أو للهرب من المستنقع العراقي، ويمكن لأي مراقب ملاحظة التصعيد الحاصل تجاهه في الأمم المتّحدة، والمشاريع الأمريكية؛ لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على السودان، وقد بدأ الترويج لاستخدام قوات حلف شمالي الأطلسي، كما نادى بذلك الأمين العام للأمم المتّحدة منذ فترة وجيزة. أمّا الأسباب التي دفعتنا إلى ترجيح السودان ليكون الهدف المقبل فهي:
أولاً: أنّ الولايات المتّحدة لا تهاجم إلاّ الدول الضعيفة والمتهالكة أو المأزومة، وفي حالة السودان فقد تمّ إضعافه بما فيه الكفاية ومحاصرته وقصفه سابقاً، ويبدو الآن في وضع مأزوم مع تفاقم المشاكل الداخليّة الإنسانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
ثانياً: انعدام السلطة المركزيّة القويّة؛ بسبب عوامل عديدة، منها: المساحة، ومنها الجغرافيا، ومنها التعدد والتنوع المتشابك، ولكن سببها الرئيس التدخلات الخارجية، والتهديدات والضغوطات المتواصلة، والتي لم تتح لأي حكومة سودانيّة سابقة بسط سيطرتها على كامل السودان، خاصة تلك التي تريد تحكيم الشريعة الإسلامية.
ثالثاً: وجود جبهة داخلية معارضة منشقّة عن السودان، منها ذو طابع طائفي، ومنها قَبَلي (أصبحت بعد الاتّفاق مع جون غارانغ معارضات) ، وجدت بداية نتيجة للممارسات التراكمية الاستعمارية الإنكليزية السابقة التي حصرت جنوب السودان، وعزلته عن باقي مكونات الشعب السوداني، والتي تشكّلت ونمت فيما بعد، بدعم أمريكي وإسرائيلي وكنسي؛ لأهداف عقائدية وجيوسياسية كبيرة؛ بحيث تمّ تجهيز هذه المعارضة بجيش ومطارات وأسلحة ومعدّات، ودعم سياسي ومالي وديني، وهو ما يجعل الوضع أقرب إلى تحالف الشمال في حالة أفغانستان، والأحزاب المسلّحة الشيعيّة والكرديّة في حالة العراق، خاصّة بعد إعلان ولادة جبهة شرق السودان على غرار حركة (غارنغ) السابقة.
رابعاً: السجل «الإرهابي» للسودان بحسب المفهوم الأمريكي، وإذا ما أرادت الولايات المتّحدة ذرائع وحججاً؛ فبكل بساطة لن تدّعي أنّ للسودان برامج نووية، وأسلحة دمار شامل، ولكنّها ستستدعي الماضي لإيوائه أسامة بن لادن في مرحلة من المراحل، وستقول: إنّه أكبر داعم للإرهاب العالمي على الرغم من أنّ السودان كان قد أزيل مؤخّراً عن لائحة الإرهاب الأمريكية، لكن على الأرجح أنّها لن تعتمد على ذلك؛ فقد ملّ العالم ذريعة الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل؛ لذلك ستكون الذريعة هي: مجازر جماعيّة، وحقوق الإنسان المهدورة، وعدم المساواة، والإبادة الجماعيّة هي الذرائع الإنسانيّة للتدخل واجتياح السودان.
خامساً: استعداد الدول المجاورة للسودان لاستقبال القوّات الأجنبيّة، سواء كانت أمريكيّة أو بريطانيّة أو أستراليّة أو فرنسيّة لاجتياح السودان، كما كان الوضع مع العراق، باستثناء مصر التي ستعارض. لكن يجب علينا أن لا ننسى أنّ مصر قد ساهمت في مرحلة من المراحل في وصول السودان إلى ما هو عليه اليوم من ضعف؛ فقد ناصبت السلطات المصرية العداء للسلطات السودانيّة؛ خوفاً من تأثير الوضع الإسلامي في السودان على الإسلاميين والجبهة الاسلاميّة في مصر؛ مما أدّى إلى إضعاف السلطة السودانيّة إقليمياً، ووقوفها منفردة أمام جميع الضغوطات، والتمرّدات والتدخّلات الخارجية.
سادساً: اكتشاف ثروات نفطيّة مهمّة في السنوات الخمس الأخيرة في السودان بشكل عام، وفي الجنوب بشكل خاص، مع العلم أنّ معظم الشركات المسيطرة هناك هي صينيّة، وهنديّة، وماليزيّة، ومن ثم إذا خافت أمريكا من سيطرة هذه الشركات على الثروات، والاستثمارات المستقبلية فسيكون عليها التدخل في هذه المنطقة، وقد تلجأ إلى ذلك أيضاً إذا حصل تداعٍ اقتصادي كبير لديها، فسيصبح هدفها احتلال جميع أماكن إنتاج وتصدير البترول لحرمان الأوروبيين من الإمدادات، وكي لا يستغلّوا هذه الفترة، ويتفوّقوا على الولايات المتّحدة، ولكي يبقوا مرهونين لها.
سابعاً: وهو الأهم من هذا كلّه، وهو وجود خطط أمريكيّة وإسرائيليّة وكنسيّة قائمة على قواعد ومرتكزات عقائدية، وجيوسياسيّة كما ذكرنا سابقاً؛ وذلك لتفتيت وتقسيم السودان، وهذه ليست (فوبيا) مؤامرات كما يروّج بعض الناس؛ فالأمر أصبح مكشوفاً، ولا وجود للمؤامرات الآن؛ فالآن اللعب يتم على المكشوف منذ (سايكس بيكو وفلسطين) مروراً بتيمور الشرقيّة، وصولاً إلى العراق. فهناك ضغينة وحقد كبير على الإسلام، ورغبة كبيرة بإقصائه من المناطق التي يسعى للانتشار فيها؛ فلو سيطرت حكومة إسلاميّة قويّة في السودان فإنّ ذلك سيكون من شأنه التأثير على كامل القرن الأفريقي، ومنابع النيل، ومنطقة البحيرات التي تعتبر من أهم المناطق الاستراتيجية في القارة الأفريقية، فوقف زحف الإسلام في القارة الأفريقية لم يكن بالفكرة الجديدة؛ فقد قال القس (أرشيد كون شو) عام 1909م: «إن لم يتم تغيير هذه القبائل السوداء في السنوات القليلة القادمة فإنهم سيصيرون محمديين؛ إذْ هذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير» ، وهو تماماً ما تمت التوصية به في المؤتمر الإرسالي العالمي بأدنبرة عام 1910م: «إن أول ما يتطلب العمل إذا كانت إفريقيا ستُكسب لمصلحة المسيح أن نقذف بقوة تنصيرية قوية في قلب إفريقيا؛ لمنع تقدّم الإسلام» .
فالأمريكيون والإسرائيليون يريدون حصار المد العربي والإسلامي كما شرحنا، وبإغلاق البوابة الجنوبيّة للعالم الإسلامي المتمثّلة بالسودان، وإعادة تنشيط الدور التنصيري الغربي الذي تلعبه المنظمات الإغاثيّة الغربية وغير الإغاثيّة، والذي يتمتع بخريطة واضحة المعالم، تمتد من جنوب السودان حتى جنوب أفريقيا.
ويريدون كذلك إنهاء الأمل العربي والإسلامي في تحوّل السودان إلى سلّة غذاء العالم العربي.
فالسودان في وضعه الحالي يشبه ما كان عليه العراق في مرحلة من المراحل؛ ولذلك فانّ أي هجوم عليه، سواء تحت اسم قوات أمريكية، أو قوات حفظ سلام أو قوات حلف شمال الأطلسي أو غيره سيكون كارثة حقيقية. «لقد أسمعت لو ناديت حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي!» .