مجله البيان (صفحة 5270)

أُحد والأحزاب ... وما أشبه الليلة بالبارحة!

ع بد العزيز بن عبد الله الحسيني

- أحد دروس وعبر:

في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة وقعت معركة أحد، وهي درس عملي للصحابة الكرام، وعبرة لمن بعدهم إلى قيام الساعة، يتعلم منها المسلمون أسباب النصر والهزيمة، وثمار التوكل على الله والثقة به، والآثار السلبية للتطلع إلى الدنيا والرغبة في أعراضها وشهواتها.

- وصف مختصر للمعركة:

شارك في هذه المعركة من الكفار (3000) مقاتل من قريش، ومن تطوع معها من كنانة وأهل تهامة، وكان بصحبتهم (700) دارع، و (3000) بعير، و (200) فرس، جنبوها حتى يصلوا إلى أحد لتكون بكامل قواها. أما المسلمون فكان عددهم (700) مجاهد، و (100) دارع، و (فرَسان) فقط (?) .

وحينما تقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أحد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم - خطة محكمة؛ حيث نظم صفوف جيشه جاعلاً ظهورهم إلى جبل أحد ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير، ووضعهم فوق تل صغير مُقابل للجبل، لحماية المسلمين من التفاف الخيالة المشركين، وشدد عليه بلزوم أماكنهم قائلاً لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم» (?) ؛ وبذلك سيطر المسلمون على المرتفعات، وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه جبل أحد وظهره إلى المدينة.

وعند التحام الجيش اشتد القتال، وتراجع المشركون، وقام الرماة بدور بطولي تمثل في حماية مؤخرة المسلمين، بينما كان الجيش الإسلامي مسيطراً على الموقف بقوة، حتى خارت عزائم المشركين وأخذت صفوفهم تتبدد، وأخذوا بالانسحاب والفرار، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح، ويسلبون منهم الغنائم، وتبعثر (ثلاثة آلاف مقاتل) من المشركين أمام (سبعمائة) من المسلمين، وكادت المعركة تنتهي على ذلك، ولكن.. حصل من أغلبية الرماة غلطة كبيرة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق خسائر فادحة بالمسلمين؛ إذ إن أولئك الرماة لما لحظوا بشائر النصر، وأن المسلمين بدؤوا يجنون غنائم العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا؛ فقال بعضهم لبعض: الغنيمةَ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم، فماذا تنتظرون؟

أما قائدهم عبد الله بن جبير؛ فقد ذكَّرهم أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ ولكن الأغلبية لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: «والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة» (?) ، ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بالجيش ليشاركوا في جمع الغنائم.

وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه (?) ؛ التزموا مواقعم مصممين على البقاء حتى يؤذَن لهم أو يُبادوا.

ولما لحظ خالد بن الوليد هذا الخطأ الاستراتيجي استدار من الخلف بسرعة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن قتل عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من الخلف، وصاح فرسانه صيحة، عرف المشركون المنهزمون بالتغير الجديد؛ فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم فرفعت اللواء المطروح على التراب، فالتفّ حوله المشركون، ونادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، فتفاجؤوا وطار صواب طائفة منهم، وعمّ الارتباك معسكرهم، وألقوا ما في أيديهم من الغنائم، وصاروا يقتتلون على غير شعار، بل وانقلب بعضهم يقتل بعضاً في ظل تلك الفوضى العارمة. وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح أن محمداً قد قُتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت روحهم المعنوية، وتوقف من توقف منهم عن القتال، وفر من فر إلى المدينة.. إلى أن قام المسلمون بالاعتصام بالجبل، ونجوا من خطر الإبادة الجماعية. وانسحب جيش المشركين من أرض المعركة عائداً إلى مكة، محافظاً على مكتسباته، منبهراً بما تحقق من نصر غير متوقع.

- وقفات مع المعركة:

وبعد نهاية هذه المعركة أنزل الله ـ تعالى ـ (ستين آية) من سورة آل عمران، كلها تُلقي الضوء على جميع المراحل المهمة في هذه المعركة، والدروس والعبر المستوحاة منها، وتبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] ، وتنتهي بتعليق الله الجامع على هذه المعركة بقول ـ سبحانه ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] ؛ ولأنه من الصعوبة بمكان حصر جميع الغايات والدروس والحكم من تلك الآيات؛ فإني سأتوقف عند الدروس والفوائد التي لها علاقة بالموضوع من خلال هذه الوقفات، وهي:

- سبب الهزيمة:

في هذه المعركة حدد الله ـ تعالى ـ أسباب الهزيمة، ولم يدعها لاجتهاد مجتهد، حتى لا يأتي من يقول إن أسباب الهزيمة إنما هو في التفاوت الكبير، والفارق العظيم بين (عدد وعدة) الجيشين، حيث إن عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، وكان بصحبتهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير، ومئتا فرس. بينما كان عدد المسلمين سبعمائة مجاهد، ومائة دارع، وفرسين فقط.

ولئلا يأتي من يقول مثل ذلك؛ فقد بين الله ـ تعالى ـ سبب هذه الهزيمة، ولم يُشر من قريب أو بعيد أن التفاوت في العدد والعدة هو سببها، وإنما بيّن صراحة أن سبب الهزيمة الخارجية؛ إنما هو سبب داخلي، مجيباً بذلك على تساؤل بعض الصحابة، حينما قالوا: {أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] ؛ فقال ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ، وفي هذا إشارة إلى مخالفة الرماة لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم - حينما نزلوا من الجبل، وكانوا سبباً في الهزيمة، وفصّل ـ سبحانه ـ ذلك بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] .

وعلّق ابن حجر ـ رحمه الله ـ على تلك المعركة بقوله: «قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد، والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذي أمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - أن لا يبرحوا منه» (?) .

فالمد والجزر الذي ينتاب الأمة على امتداد تاريخها؛ إنما هو في مدى قربها أو بعدها عن الله تعالى؛ فمتى كانت الأمة قوية في دينها مطيعة لربها مستمسكة بسنة نبيها عزّت وسادت، ومتى اختل شيء من ذلك ضعفت واستكانت.

- علاج آثار الهزيمة:

كانت تلك المعركة درساً قاسياً، ذاق المسلمون ألمه ومرارته؛ فقد أصيبوا في أرواحهم وأبدانهم؛ فعمهم الغمّ والحزن والقرح، وقُتل (سبعون) من خيارهم، وجُرح معظمهم، وفوق هذا كله كُسرت رباعية الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وشُج وجهه، وأصيبت ركبتاه الشريفتان، وقتل عمه، فأصيب المسلمون من جرّاء ذلك بصدمة عنيفة مؤثرة؛ فعالج الله ـ تعالى ـ آثار هذه الهزيمة بآيات ملؤها المواساة والتخفيف من المصاب ليخرجهم مما هم فيه من الهوان والحزن والقرح، وليفتح لهم باب الأمل في مستقبل أيامهم، فقال ـ سبحانه ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 137 - 142] . في هذه الآيات يخاطب الله ـ تعالى ـ المسلمين ـ مخففاً عنهم وقع هذه المصيبة ـ أن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنّة الثابتة، إنما هو حدث عابر، وراءه حكمة خاصة، ثم يتجه في خطابه إلى المسلمين بالتقوية والتثبيت قائلاً لهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] ، عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه، ومنهجكم أعلى؛ فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، هداية لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون؛ فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولاتحزنوا؛ فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص، ثم يدعوهم إلى الصبر؛ فإن يكن أصابهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها، وإنما هناك حكمة وراء ما وقع: حكمة تمييز الصفوف، وتميحص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم، ثم يصحح بسؤال استنكاري تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص (?) .

ثم تمضي الآيات تخفف وقع مصابهم وتُعزيهم في شهدائهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169 - 170] . إلى نهاية الآيات التي تتحدث عن المعركة.

واليوم، كم نحن بحاجة إلى استلهام مثل تلك الدروس والعبر من هذه المعركة المجيدة، (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ، لنجعل من تلك الأخطاء التي حدثت دروساً وتجارب تمدنا بالزاد المعين على مواصلة الطريق، ولتكون نبراساً ومنهجاً يضيء طريقنا في ظل الأحداث التي نعيشها، لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة حول أسباب النصر والهزيمة، ولرفع الروح الانهزامية التي حلت بالأمة، وإعادة الثقة الغائبة إليها.

- وفي غزوة الأحزاب دروس وعبر:

استمراراً للكيد للإسلام والمسلمين، حشدت قوى الكفر أكبر قوة ممكنة، فتحالف اليهود مع قريش وأحابيشهم، وبني كنانة ومن تبعهم من أهل تهامة، وقبائل غطفان ومن تبعهم من أهل نجد؛ للقضاء على الإسلام في مهده.

وحينما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم - بتلك التحالفات شرع في اتخاذ التدابير الفورية اللازمة، فدعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيشه من المهاجرين والأنصار، وبحث هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الحثيثة لجمع وحشد القبائل العربية للقضاء على الإسلام والمسلمين في المدينة، فتقرر أن يتحصن المسلمون في المدينة للدفاع عنها، لا سيما أن الجيش الذي جاء لغزوهم لا يقل عن (10.000) آلاف مقاتل، بينما لا يزيد جيش المسلمين ـ في أكبر تقدير ـ عن (3000) مقاتل (?) ، بينهم كثير من المنافقين الذين لا يُؤمَن جانبهم، وقد أشار سلمان الفارسي إلى حفر خندق يحيط بالمدينة من الشمال لمنع دخول تلك الجيوش إلى داخل المدينة؛ بينما كانت (حِرار) (?) المدينة تحميها في بقية الجهات الأخرى. فاستحسن الرسول -صلى الله عليه وسلم - تلك الفكرة، وشرع المسلمون بتنفيذها. وحينما وصل خبر تحزّب الأحزاب، واجتماع القبائل العربية لحرب المسلمين في المدينة؛ أصيب المسلمون بشيء من الرعب والهلع والخوف والفزع، أضف إلى ذلك أن ذلك العام بالنسبة للمسلمين كان عام مجاعة، لا يجد فيه معظم المسلمين القوت الضروري الذي يسدون به جوعهم، وزاد مصابهم وهلعهم ما توارد إليهم من غدر يهود بني قريظة من داخل المدينة، وخشيتهم ضربهم من الخلف أثناء انشغالهم بمواجهة ذلك الجيش العرمرم، وكانت ذراريهم ونساؤهم على مقربة من أولئك الغادرين في غير منعة وحفظ، وقد صور الله ـ تعالى ـ ذلك الموقف الرهيب الذي عاشه المسلمون بقوله: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] ، ولا تعجب فهم بشر، وللبشر طاقة، وليس مطلوباًَ منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري.

وفي ظل تلك الظروف العصيبة الشديدة كان المسلمون يسابقون الزمن لإتمام حفر الخندق، ولما عرضت لهم صخرة كبيرة لم تُفد معها معاولهم، اشتكوا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم -، فهبط إلى الصخرة فأخذ المعول، وقال: «بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا. ثم قال بسم الله، وضرب أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا. ثم قال: بسم الله؛ وضرب أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» (?) .

- الأمل والثقة بالله تعالى:

وما نود أن نقف عنده في هذه الغزوة ـ التي تكاد تنطبق على واقعنا اليوم من تحزب الأحزاب الكافرة على الإسلام والمسلمين ـ هو شدة الثقة بالله ـ تعالى؛ فتأمل! بالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين من حصار جماعي من مختلف قبائل العرب واليهود، وبجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل، ومن جوع وخوف وهلع وشدة برد..، لم ييأس المسلمون، ولم يفقدوا ثقتهم بالله تعالى، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم - كان في ظل تلك الظروف يعدهم بفتح الشام، وفارس، واليمن، وهي الدول العظمى في ذلك الوقت. وتأمل موقف المنافقين إزاء تلك الوعود، وتزعزع قلوبهم حينما رأوا كثرة جيوش الأحزاب: {وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] . ثم تأمل موقف المؤمنين لما رأوا الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] .

واليوم.. في ظل تحزب قوى الكفر على الأمة الإسلامية، وتضييقها على المسلمين في كل مكان، وتنكيلها بدعاتهم، واغتصابها أراضيهم، واستنزافها ثرواتهم..؛ كم نحن بحاجة إلى مراجعة حساباتنا، وتقوية صلتنا بديننا، وأن ما يحصل للمسلمين من الهوان وتسليط الأعداء إنما هو لحكم عديدة، وأسباب كثيرة.. كما أننا بحاجة ماسّة إلى النظر إلى المستقبل، والثقة بالله تعالى، ووعده للأمة بالعز والتمكين إن هي استمسكت بالإسلام، وما يدعو إليه من وجوب إعداد العدة، وأن الأمة إن كبت مرة فقد كبت قبل ذلك مرات، وكانت تعود في كل مرة كأقوى ما تكون، وأن ما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة، وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها، ومصدر عزها ومجدها؛ فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار.

ومهما كان واقع الأمة مؤلماً يفرض على كثير من المسلمين أقسى الظنون، إلا أنها في طريق التغيير الإيجابي تسير، وهي الآن أفضل بكثير من سنوات مضت، فلا ينبغي استبطاء النصر، واستعجال الظفر. ولنتأمل كيف أن الشام، وفارس، واليمن التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم - بفتحها، لم يظفر بها المسلمون إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين؛ وفي ذلك

من يتدبر السيرة النبوية، ويقف عند أحداثها، وينزلها إلى أرض واقعنا يجد فيها الكثير من الدروس والحكم، التي هي علاج شافٍ لكثير من أمراضنا، وتصفية لكل خلل أو زلل في مناهجنا، وسأقف عند حدثين مهمين منها، لنستلهم منهما الدروس والعبر حول الأسباب الموجبة لضعف الأمة وهزيمتها، وأثر رفع الروح المعنوية والثقة بالله ـ تعالى ـ في الخروج بالأمة من الهزيمة إذا وقعت وحلت بها.

من يتدبر السيرة النبوية، ويقف عند أحداثها، وينزلها إلى أرض واقعنا يجد فيها الكثير من الدروس والحكم، التي هي علاج شافٍ لكثير من أمراضنا، وتصفية لكل خلل أو زلل في مناهجنا، وسأقف عند حدثين مهمين منها، لنستلهم منهما الدروس والعبر حول الأسباب الموجبة لضعف الأمة وهزيمتها، وأثر رفع الروح المعنوية والثقة بالله ـ تعالى ـ في الخروج بالأمة من الهزيمة إذا وقعت وحلت بها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015