سامي بن سعود الرشود
مرت الأمة في القرون المتأخرة صور من الجمود الفقهي والتقليد المذهبي، ولم تزل بعض صورة قائمة في هذا الزمان على أشكال وهيئات عديدة
وقد بقيت السنَّة النبوية حبيسة الكتب والحواشي؛ حيث تتصدر المتون ومختصرات المذاهب قوائم دروس طلبة العلم، ومحفوظاتهم، وبقي حفظ السنَّة مما تقصر النفوس عنه ولا تجسر على الإقدام عليه.
فقد كان النص النبوي بعيداً، ولا يُسأل عنه بعد معرفة قول الإمام أو الشيخ.
وكان حفظ متون الفقهاء نصاً وضبطاً، وحفظ فروق النسخ وإفناء بعض الأعمار بها، في مقابل معرفة النص النبوي بالمعنى - إن عرف - مع التشنيع على حفظه وضبط لفظه.
وكان السائد هو اتباع الشيخ فلان والداعية الدكتور فلان أو المسؤول الفلاني للجماعة في طريقته ومنهجه، بل حتى في أفكاره وتنظيراته دون بحث عن مستندها ومردها من الدليل.
وساد الانشغالُ بعلوم الآلة كالنحو وأصول الفقه - مثلاً - انشغالاً يلهي عن مقصود دراستها، والتبحرُ بها، بل ومعرفة شواذ الأقوال فيها؛ بل ربما الانشغال في بعض الفنون التي غدت عند المسلمين بالية كعلم المنطق والفلسفة.
كل ما سبق هو بعض أنماط ذلك الجمود.
وفي الطرف المقابل تجد أدعياء العقل والعصرنة ممن غلا في نبذ الجمود وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وسعى في نبذ السنة كلياً أو جزئياً تحت مسمى العقلانية والتنوير والعصرانية!
كان من صور هذا الجمود بُعْدُ طلاب العلم - بل جملة من العلماء في العالم الإسلامي وحَمَلَة الشهادات العليا - عن الاهتمام بالسنَّة، حفظاً وتحقيقاً واستدلالاً، وتقديم خلافات المذاهب وشواذ الأقوال على نصوص الوحيين، وعدم الاكتراث بالنص.
لقد كانت وصية النبي -صلى الله عليه وسلم - آخر عمره بكتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم - هي منهاجاً لمن أراد النهج، وسبيلاً لمن أراد السلوك، ومنارة لمن أراد الهداية.
«تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض (?) » .
وهذا الجمود لم ولن يبقى طيلة الزمان. ففي العقود الأخيرة بدأت تظهر على الساحة العلمية اهتمامات بالسنة النبوية، دراسة وتحقيقاً وتخريجاً واستدلالاً وحفظاً.
وكانت جهود عدد كبير من علماء أهل السنة ومن أبرزهم الشيخان الراحلان: عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني ـ رحمهما الله ـ جهوداً غيرت وجهة كثير من طلاب العلم، وأعادت هيكلة هذه المنهجية.
كان الاهتمام بالدليل ومعرفة صحته من ضعفه، وتكاتف الجهود لتنقيح السنة والعودة إلى أُمَّات الكتب الأولى، هذا كله كان مؤشراً واضحاً لحجم هذه العودة المباركة.
وقد نحت كليات وأقسام السنة بالجامعات الإسلامية هذا النحو في رسائلها الجامعية، في تحقيق كتب السنة وتنقيحها.
بل الرسائل الشرعية في التفسير والفقه كان مرد أحكامها للدليل، وكانت أحاديثها تُخَرَّج من كتب السنة المطبوعة والمخطوطة.
وبقي حفظ السنة في هذه السنين للمشتغلين به سائراً في فلك المختصرات، مثل: (المنتقى) للمجد ابن تيمية، و (بلوغ المرام) لابن حجر و (عمدة الأحكام) للمقدسي و (الأربعون النووية) للنووي، بل وحتى كتاب التوحيد للشيخ محمد ابن عبد الوهاب.
وفي العقدين الأخيرين ظهر مشروع حفظ السنة النبوية من معدنها الأول (كتب الأصول: البخاري ومسلم والسنن الأربع ومسند أحمد ونحوها) سواء بأسانيدها أم مستبعداً منها الإسناد والمكرر مما يكون عائقاً للطالب عن الحفظ.
وكان حفظ هذا ضرباً من الخيال لا يفكر أحد فيه!
وكانت الجهود في حفظه في البداية فردية، حيث تعود إلى مشاريع لبعض العلماء هنا وهناك، ونوادر من العلماء الذين أفنوا أعمارهم في هذا. وهي الآن في هذين العقدين توجه علمي وليس اجتهاداً فردياً.
وحين يحقق المشروع نجاحه على أرض الواقع تتحفز النفوس إليه، وتجسر الهمم عليه.
وفي بلد الله الحرام ـ بعد تجارب عديدة في كثير من البلاد ـ ظهر هذا المشروع عياناً يراه من دخل المسجد الحرام العاكف فيه والبادي؛ حين برز نموذج حفظ السنة على هيئة مشروع علمي متكامل، واضح المنهج، نير المعالم.
وكانت هذه الدورات تحت إشراف رئاسة شؤون الحرمين الشريفين، وبدعم من جملة من أهل اليسار في البلاد.
وقامت على نمط هذه الدورة مثيلات كثيرة تقام في فصل الصيف في بلاد ومدن عدة؛ حيث أقيمت بالمدينة النبوية والرياض ومدن القصيم والمنطقة الشرقية وجدة واليمن والسودان وغيرها من بلاد الله المباركة؛ جزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
ولتقف معي أيها القارئ الكريم على نموذج من هذه المعالم:
- دورة حفظ السنة بمكة المكرمة:
قام مشروع حفظ السنة بمكة صيف سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف؛ حيث أقيمت تجربة قبل ذلك لعدد من الطلاب في العام الذي قبله، وختمت بنجاح.
وفي تلك السنة 1422هـ بدأت أول دورة لحفظ السنة، وهيئ للطالب كتابه ومسكنه وطعامه وشرابه، وبقي متفرغاً سبعين يوماً لهذا المشروع.
وكانت مسيرة الدورة تبدأ بتسجيل الطالب عن طريق موقع الدورة على الشبكة العنكبوتية: (الوحيان) www.صلى الله عليه وسلمlwahyain.net.
وتحدد للطلاب مواعيد مقابلتهم واختبارهم في حفظ القرآن أولاً، ثم أهلية الطالب للدخول في الدورة من جهة سنه وسلوكه ومستواه العلمي وتقديره الدراسي، وتزكيات المشايخ له.
وعند القبول يبَلَّغ الطالب بموعد بداية الدورة، ويطلب منه أن يكون بمكة قبل موعد بداية الدورة بيوم.
يتوزع الطلاب على حِلَق متعددة، كل حلقة فيها عدد من المسمِّعين والمحفِّظين.
وكل حلقة من هذه الحِلَق هي أشبه بالدورة الصغيرة، ولهذه الحلقة مشرف ونائبه وبضعة مسمِّعين، وقريب من عشرة طلاب.
ومع بداية الأسبوع يبدأ الطالب بحفظ وِرْدِهِ اليومي عشرين صفحة ليتمها مائة وعشرين يوم الخميس.
وتُجري إدارة الدورة بحضور المشرف العام على المشروع الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى اختباراً أسبوعياً يوم الجمعة لهؤلاء الطلاب تكرم المثابر، وتستبعد المتهاون، كما ترفع أسماءهم على لائحة في الفندق الذي يسكنه الطلاب وأمام كل اسم تقدير الطالب ونتيجة اختباره.
ثم يعود الطلاب مع مطلع الأسبوع التالي ليكملوا المشوار.
ويستمر الاتصال بجملة من هؤلاء الطلاب في مدنهم وقراهم ليبقوا على صلة بالعلم، ويعانوا على المراجعة.
وللطالب بعد إشراقة الشمس وقبل غروبها طيلة مدة الدورة استراحة محارب، يجلس مع مشرف حلقته، وهو يشرب شيئاً من السواخن تعيد له نشاطه، وتجري أحاديث تربوية وعلمية، تجدد العزيمة، وتعيد الهمة.
كما تشجع الدورة الطلاب على صيام يومي الإثنين والخميس في جانب من الطرح التربوي والتعاون على البر والتقوى.
ويتراوح عدد المرتبطين بالدورة من طلاب ومشرفين ومساعدين بما فيها عوائل بعضهم بين المائة إلى المائة والخمسين إلى المائتين، هم نخبة مختارة، وصفوة منتقاة.
ويعد هذا المشروع رائداً في مجال نشر السنة، حيث تُهَيَّأ نفوس الطلاب، ويُفَرَّغون من أي انشغال؛ فالسكن مهيأ، والطعام والشراب معد في أوقاته، والصحبة ترفع عزيمته وعزمه.
وبالتجربة فإن انصراف الطالب عن الشواغل، واعتياد ذهنه على الحفظ جعل بعضهم ينهي ورده اليومي عشرين وجهاً من قبل أن تشرق الشمس!
إن في نفوس الشباب من الطاقات الفائقات، والعزائم اللزائم، والمقدرات المهدرات أمراً عجباً.
- مذاكرة المحدثين في دورة الصحيحين:
لم نعش يوماً بين أكناف المحدِّثين ولا زاحمنا أكتافهم، ولم يسبق لنا سماع مذاكرتهم، ولم نقف معهم خلف سواري المسجد أو عند بابه نتذاكر الحديث حتى يطلع الفجر.
وكم يتمنى المسلم أن لو عاش بينهم وشنَّف مسمعه بحديثهم.
وفي رحاب هذه الدورة المباركة كانت في نهاية كل أسبوع مذاكرة مع الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى، يتدارس فيها الطلاب الأحاديثَ، ويتذاكرونها سوياً.
كانت المذاكرة في صالة فسيحة يجلس فيها عدد من طلاب الدورة فيسأل الشيخ: هات أحاديث ابن مسعود في كتاب الإيمان، وهات أحاديث ابن عمر في كتاب الطهارة، وهكذا.
وربما سألهم الشيخ:
حديث: (ثلاث للمهاجر) من رواه؟ وحديث: (لكل نبي دعوة) من رواه؟
واذكر الحديث الذي يليه والحديث الذي قبله. وهكذا.
ويبقى الطالب في هذه المذاكرة ساعة أو ساعتين. ومن حضر المذاكرة واستمع للطلاب أحس كأنه يعيش بين ابن معين، وأحمد بن حنبل، والقطان، والبخاري. وإنما حياة العلم مدارسته.
- من حفظ سريعاً وراجع سريعاً: ضبط سريعاً:
تتوارد على ألسنة كثيرين عبارة: (ما حُفِظَ سريعاً نُسِيَ سريعاً) ، في حين أن بعض الدراسات تؤكد أن عامل الضبط في الحفظ هو قوة التركيز والمراجعة أول الحفظ.
وهذا ما شاهده القريب والبعيد من الدورة؛ فإن كثيراً من طلاب الدورة كان قد أتم أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد قدر أن يراجعها في قريب من أسبوع. وبعضهم في فصل دراسي أو سنة.
كل هذا مؤشر على أن هناك نوعاً ما؛ تغافل عن قدرات الحفظ لدى شباب الأمة، وكم على ظهر الأرض من نوادر وجواهر.
ولم تكن الدورة تخلو من مشاريع المراجعة سواء ما كان منها في داخل الدورة أم في خارجها، ويسعى القائمون على أن يبقى طلاب الدورة على اتصال بأحد المشرفين ليكمل مراجعته في بلده.
- نماذج ونوادر:
لم تخلُ هذه الدورة في مسيرة السنوات الأربع الماضية من نوادر يعجب الواحد منا لشأنهم، ويحقر نفسه عند عزمهم.
وكان رأس هذه النوادر أستاذي الكريم الشيخ يحيى اليحيى؛ فقد اختبرني وحضرت معه اختبارات طلاب آخرين، فكان يعد أحاديث الصحيحين كأنما يعد أبناءه، الأول فالأول.
وكانت في هذه الاختبارات نماذج فريدة، منها:
أحد الطلاب في الخامسة عشرة من عمره كان يأتي برؤوس الأحاديث في كتاب الأدب أو كتاب الطهارة أو نحو ذلك من آخر حديث لأول حديث وكأنه يعد من العشرة للواحد.
وآخر كان قد أتم في يوم قريباً من سبعين صفحة.
وطالب قد حفظ مختصر الصحيحين في خمسة وثلاثين يوماً، ثم اختبره الشيخ بمائة سؤال فلم يخرم من إجابتها شيئاً.
ولم أرد الإطالة بذكر هؤلاء؛ وإلا فما أسعد النفس بذكر أخبارهم.
- وأخيراً:
فإنه لم يزل في أبناء هذه الأمة نفر ليس بالقليل تُعقد عليهم الآمال، ويُرجى عليهم الظفر بإذن الله.
وفي هذه الدورات نخب من الواجب على الأمة أن لا تستهين بهم، وأن توليهم اهتماماً ورعاية، وأن تعي أن النوادر من أبنائها ينبغي أن لا يشغلوا في الدنيا بتحصيل لقمة العيش، أو الركض لأجل البقاء في أي بلد كان ذلك الشاب ولأي عرق انتسب.
وهذه المشاريع في حفظ السنة وما يتبعها ويلتحق بها من دورات في التفسير والعقيدة ونحوها من الفنون هي قريب من الجامعات المصغرة والتي إن أُوليت اهتماماً وتكاتفت الجهود فيها، وصحت النيات في إقامتها، وصدقت النفوس مع الله فيها؛ فإن الله ـ تعالى ـ ولي حفظها ورعايتها، وإخراج ثمراتها وإثمارها، والله من وراء القصد.