مجله البيان (صفحة 5265)

من ينقذنا من المفتي المتساهل؟

عبد العزيز بن إبراهيم الشبل

نسمع كثيراً في وسائل الإعلام الإنكارَ على تشدد بعض المفتين، والنهي عن الغلو في الدين، وما إلى ذلك من المطالبة باتخاذ موقف جاد من التطرف والتنطع والغلو (?) ، ولكننا لا نسمع إنكاراً على الطرف الآخر من المفتين المتطرفين، أعني المفتين المُجّان (?) ، بل إن أولئك المفتين المجان يُبَجَّلون ويُثنى عليهم ويصدّرون فتاوى على الأهواء

إن الغَيْرة على الدين تقتضي أن يتم التحذير من هؤلاء وهؤلاء؛ لأنهم كلهم خطر على الدين، بل في أحيان كثيرة يكون المفتي الماجن أخطر على الدين من المفتي المتشدد؛ لأنه وباستقراء التاريخ نجد أن الأقوال المتشددة لا تصمد للزمن، بل تندثر أو يقلّ أخذ الناس بها؛ لأنها مخالفة للنفس البشرية التي تميل إلى السكون والدعة، ودونك آراء الخوارج اندثرت في كثير من الأعصار والأمصار أو كادت أن تندثر، بينما نجد أن أقوال المفتين المجّان ما زالت تسري بين المسلمين. وعلى أية حال فالمطلوب التحذير من كلا المفتيَيْن، وكلاهما يشكلان خطراً على الناس. يقول الإمام الشاطبي ـ عليه رحمة الله ـ: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال ... فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق: أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذُهِب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن اتباع الهوى..) (?) .

- تعظيم شأن الفتيا:

كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتحاشون الفتيا ويودّون أن غيرهم يكفيهم إياها، وما ذلك إلا لعِظَم خشيتهم من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكمال علمهم بالكتاب والسنة؛ فقد قال ـ عز من قائل ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] ، وقال -صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث ابن عمرو: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (?) .

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول» (?) .

وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: «لا يفتي الناسَ إلا ثلاثةٌ: رجل قد عرف ناسخ القرآن ومنسوخه، أو أمير لا يجد بدّاً، أو أحمق متكلف» (?) .

وقال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها.... (?) .

وسئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري. فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحِ حين قالت: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا (?) .

ودخل رجل على ربيعة وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، وقال: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.

قال ابن الجوزي بعد ذكره لهذا الخبر: هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون؛ فكيف لو عاين زماننا هذا؟ (?) .

وأوصى ابن خلدة القاضي ربيعة، فقال له: أراك تفتي الناس؛ فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما سألك عنه (?) .

وقال أبو حنيفة: من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله ـ عز وجل ـ لا يسأله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله؛ فقد سهلت عليه نفسه ودينه.. وقال: ولولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون لهم المهنأ، وعليَّ الوزر (?) .

وكان الإمام مالك يُكثر من قول لا أدري، وسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف (?) .

وقال مالك: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة؛ فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن (?) .

وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك فبكى، وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم (?) .

وسئل الشافعي عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب (?) .

وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، فيما عرف الأقاويل فيه (?) .

وقال: ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً، وقال أحمد المروزي: سألت أحمد بن حنبل ما لا أحصي عن أشياء فيقول فيها: لا أدري (?) .

وذكر ابن الجوزي عن بعض مشايخه أنه أفتى رجلاً من قرية بينه وبينها أربعة فراسخ، فلما ذهب الرجل تفكر فعلم أنه أخطأ، فمشى إليه فأعلمه أنه أخطأ، فكان بعد ذلك إذا سئل عن مسألة توقف، وقال: ما فيّ قوة أمشي أربعة فراسخ (?) .

- تتبع الرخص (?) :

وتتابعت كلمات السلف أيضاً في النهي عن تتبع الرخص، واختار جمع منهم تفسيق من فعل ذلك؛ وذلك لأنهم كانوا على فقه ودراية في نصوص الوحي ومقاصد الشرع وأحوال الناس، ولم يكن يغيب عنهم قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ، ومن أقوالهم في ذلك قول الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام (?) . وقال الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً (?) .

ودخل إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي على المعتضد فدفع إليه كتاباً فقرأه؛ فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما جمع هذا زنديق، فقال المعتضد: كيف؟ قال القاضي: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمرَ بتحريق ذلك الكتاب (?) .

ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تتبع الرخص (?) .

وقد نصّ غير واحد من أهل العلم على حرمة تتبع رخص أهل العلم، وذكروا أنه لا يجوز استفتاء من تتبعها، وردوا على من قال أو عمل بذلك (?) .

- شبهة وجوابها:

يتذرع هؤلاء المفتون ومن سار في مسارهم بالأدلة الدالة على التيسير على هذه الأمة، وكون الشريعة الإسلامية شريعة سمحة، مثل قوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» (?) .

والجواب عن هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن الذي أراد التيسير وبعث بالحنيفية السمحة هو الله سبحانه؛ فكل ما شرعه فهو يسير، وعلى ذلك فعلى المفتي أن يبحث عما شرعه الله وفق الضوابط المرعية في الاجتهاد، وإذا وصل المفتي إلى ما شرعه الله فقد وصل إلى اليسر، وليس اليسر هو ما يهواه المفتي، وليس اليسر في اتباع رخص الفقهاء وزلاَّتهم، وأنا أسأل هذا المفتي سؤالاً واحداً: هب أنك واجهت النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ بأبي هو وأمي ـ وقال لك: إن حكم الله هو كذا وكذا في هذه المسألة، ثم واجهت العالم الفلاني الذي اجتهد في مسألة من المسائل وأخطأ فيها، وقال لك هذا العالم: إن حكم الله هو كذا وكذا؛ فبربك الذي سوَّاك فعدلك، وهداك النجدين، بأيهما تأخذ؟ ألست تأخذ بما قاله الحبيب -صلى الله عليه وسلم -؟ إذن فهذه سنته عندك خذ منها الأحكام ودع عنك سنة من سواه.

الوجه الثاني: أن في تتبع الرخص اتباعاً للهوى؛ فالمفتي المتتبع للرخص لا ينظر في الأدلة والمقاصد الشرعية، بل ينظر في هواه أو هوى المستفتي، وقد نهينا عن اتباع الهوى في أكثر من دليل، مثل قوله ـ تعالى ـ: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135] .

الوجه الثالث: ليس المقصودُ باليسرِ السهولةَ والدعةَ وإلا لم يكن للتكاليف معنى؛ فالأحكام الشرعية تخالف هوى الناس، ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وعندنا في الأحكام الشرعية الصلاة في الأيام الشديدة البرد، ودفع الزكاة، والحج، والجهاد، وإقامة الحدود، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تخالف هوى النفوس، ومع ذلك لا يشك أحد في كونها من الشرع، ولا يشك أحد في يسر الشرع أيضاً. وباختصار: فالذي يحدد اليسر، هو الذي ذكر أن هذا الدين يسر، وهو الحكيم الخبير.

الوجه الرابع: أن القول بتتبع الرخص وترك قواعد الاجتهاد والترجيح بين الأدلة يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية، وترك الناس لهذه الشريعة (السمحة) ، والقفز على المسلّمات الشرعية، وانفراط العقد، وكثيراً ما نسمع من هؤلاء أهمية العلم بالمقاصد الشرعية، وصدقوا في ذلك، ولكن أليس اتباع زلات العلماء يؤدي إلى ترك الشريعة؟ أليست هذه الرخص تؤدي إلى تلاعب الناس بالدين، واتخاذه لهواً ولعباً، خذ لذلك مثلاً: من الفقهاء من يقول بعدم اشتراط الولي في النكاح، ومنهم من لا يشترط الشهود في النكاح، ويتركب من هذين القولين، جواز ما يعرف في بعض البلاد (?) بالزواج العرفي، وهل يقول بذلك أحد يخشى الله ويتقيه؟ ولهذا فغالباً ما يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق بين الأقوال.

الوجه الخامس: أن هذه الطريقة في الاستدلال يمكن أن تُقلَب على صاحبها، فيأتي المفتي المتشدد فيقول: إن الله يقول: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، ويستدل بقوله ـ تعالى ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] ، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على تشريع بعض العبادات مع أنها كره لنا، والآيات التي ترغب في الآخرة وتحذر من الدنيا، ونحو ذلك من الآيات في هذا المعنى، وعلى ذلك يقول: علينا أن نأخذ بالقول الأشد، ونخرج من الخلاف بيقين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وكل ما عرضت له مسألة بَحَثَ عن أشد قول فأخذ به، أقول: هل من الممكن أن نقبل ذلك منه؟ أليس ما ذكره من الأدلة كلها أدلة صحيحة؟ ولكن ـ لا والله ـ لن نأخذ بمسلك هذا المتشدد ولا بمسلك ذلك المتساهل، بل دين الله بين هذا وهذا، وليس الدين ديننا ونحن شرعناه حتى نأخذ منه ما نشاء، وندع ما نشاء، بل هو ديننا الذي آمنا به وعرفناه، وسنتبع هذا الدين حتى وإن خالف أهواءنا، ولن نكون كأولئك الذين إن كانت الموجة موجة تشدد ركبوها، وإن أتى وقت التساهل حملوا لواءه، حاله كما قال الأول:

طوراً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لاقيت معدياً فمن عدنان

وأكثر ما يبتلى بهؤلاء في مسائل النوازل ـ وخاصة المالية منها ـ فتجد المتشدد يقف أمام شيء لم يعهده في السابق فيذهب ليحرمه، والآخر يرى الناس مقبلين على هذا الشيء فيذهب ليبرر لهم واقعهم.

لست أنكر على المفتي أن يعتقد القول بعد النظر في المسألة والتجرد للحق ثم يقول بالقول الذي يراه سواء أكان هذا أشد مما عليه الناس أم أخف؛ إذ هذا ما أداه إليه اجتهاده وهذا ما يدين الله به، ولكن إنما اللوم على من يتبع هواه في التشديد والتسهيل، أو يتبع أهواء الناس (?) وما يشتهونه، ويفسد دينه بصلاح دنيا غيره، أو يتبع معظماً في ذلك. قال ابن عقيل الحنبلي: «من أكبر الآفات: الإلف لمقالة من سلف، أو السكون إلى قول معظَّم لا بدليل؛ فهو أعظم حائل عن الحق وبلوى تجب معالجتها» (?) .

- أهم أسباب تساهل الفقهاء:

1 ـ ضعف الإيمان، وعدم معرفة الله حق المعرفة؛ أما من عرف الله حق المعرفة فإنه سيعلم أنه ذو الحكمة البالغة، ولا يصلح الناس إلا باتباع أمره واجتناب نهيه، ومن كان يخشى الله حق الخشية فإنه لن يجيب إلا بعلم أو سيسكت بحلم، ولن يفتي إلا بما يدين الله أنه هو الحق، ولن يبحث عن راحة غيره في الدنيا بشقائه في الأخرى.

2 ـ غياب أو تغييب أهل العلم الراسخين في العلم.

3 ـ حب الظهور بين الناس، فيأتي بالفتوى الشاذة، أو الرخص التي لا تقوم على ساق الدليل؛ لكي يبحث عنه الناس ويشتهر بينهم، وتتنافس عليه الفضائيات ليصدر فتاوى الهوى في برامج على الهواء ـ ولست أعمم هذا الحكم على كل الفضائيات، ولكن للأسف كثير منها كذلك ـ ويذكرني فعل هؤلاء بالذي بال في زمزم طلباً للشهرة، وحب الظهور يقصم الظهور.

4 ـ تضخيم وسائل الإعلام لهؤلاء المفتين، حتى أصبح يخيّل إليهم أنه لا يجيد الفتوى إلا هم، ولا يفقه واقع الحياة أحد غيرهم.

وقال الطانزون له فقيه فصعّد حاجبيه به وتاها

وأطرق للمسائل أي بأني ولا يدري لعمرك ما طحاها (?)

5 ـ الهزيمة النفسية التي يعاني منها هؤلاء، فيريدون أن يبرروا ـ عن حسن قصد منهم ـ كثيراً من أحكام الإسلام، وتجدهم يسعون جهدهم أن تكون مطابقة لما عليه واقع الناس حتى ولو كان ذلك لا يتأتى لهم؛ لكون ذلك مخالفاً لأحكام الشرع صراحة.

6 ـ طلب الدنيا، سواء أكان ذلك طلباً للمنصب أم طلباً لرضا السلطان أم غير ذلك.

7 ـ وجود الطرف المتشدد؛ فالتشدد في الفتوى يؤدي إلى ظهور الطرف المفرّط المتساهل، كما أن وجود الطرف المفرّط يؤدي إلى وجود الطرف المتشدد، فوجود هؤلاء ملازم لوجود هؤلاء، ولا مناص من التخلص من تطرف التشدد والتساهل إلا بسلوك مسلك الوسط، وليعلم أولئك الذين يسعون إلى تلميع هؤلاء المفتين أنهم ـ شعروا أم لم يشعروا ـ يساعدون على إذكاء نار التشدد.

- من الحلول لهذه المشكلة:

1 ـ خروج أهل العلم الصادقين وتصدرهم للفتيا، والقيام بالواجب والعهد الذي أخذه الله عليهم. أما إذا قعدوا في البيوت أو انحصروا في فئة قليلة من طلابهم ولم يتصدوا لأسئلة الناس ومشاكلهم فإن هؤلاء المتساهلين سيجدون أرضاً خصبة وساحة خالية يصولون فيها ويجولون.

وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: «.. ولْتُفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعَلَّم من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً» (?) .

متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا

ومن يثني الأصاغر عن مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا (?)

وقد يعتذر بعض أهل العلم بأنه لا يستجيز الخروج في بعض وسائل الإعلام، وليست هذه حجة كافية؛ لأنه حتى لو لم يكن يرى جواز الخروج في بعض وسائل الإعلام؛ فهناك وسائل إعلام لا حرج فيها عنده؛ فما عذره في تقصيره عن المشاركة فيها؟

2 ـ نشر الوعي بين الناس بأهمية استفتاء العلماء الموثوقين، وإعلام الناس أن استفتاء مفتٍ تعلم أنه متساهل في فتواه لا يبرئ ذمتك أمام الله (?) ، وليعلم المستفتي المقلّد أن عليه الاجتهاد أيضاً، واجتهاده يكون في تحري المفتي الذي يثق في علمه ودينه، فيجتهد المستفتي في معرفة عدالة المفتي وعلمه، ولكن ليس عليه أن يبحث عن الأعلم إلا إذا اختلفا فإنه يبحث عن الأعلم، وليس له أن ينتقي من المذاهب ما يوافق هواه، ومثل العامي عند اختلاف المجتهدين كمثل من مرض له ابن وكان في البلد طبيبان قد اختلفا في علاج هذا الابن؛ فإنه يتبع الأعلم منهما بحسب ما ظهر له من القرائن (?) .

3 ـ المبادرة إلى إصدار فتاوى جماعية في بعض النوازل التي تقع للأمة، لكي يكون الناس على بينة من أمرهم، ولا ينفرد أولئك المفتون بإصدار فتاوى خاصة بها.

4 ـ على من ولي أمراً من أمر المسلمين أن يمنع المفتين المتساهلين والمتشددين من إفتاء الناس وإضلالهم، ولا يكون السماح والمنع مبنياً على موافقة الوالي أو مخالفته. روى مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر أنه مر به قوم محرمون بالربذة فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناساً أحلة يأكلونه فأفتاهم بأكله، قال: ثم قدمت المدينة على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك، فقال: بِمَ أفتيتهم؟ قال: فقلت: أفتيتهم بأكله، قال: فقال له عمر: لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك.

قال أبو الوليد الباجي: «وقوله: في آخره (لأوجعتك) تصريح منه بما توعده به، وإعلام منه بأنه يرى تأديب من يتسامح في فتواه ويفتي قبل أن يتحقق؛ لأنه شديد الإضرار بالناس في تحليل الحرام وتحريم الحلال» (36) .

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015