د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين
حرم المولى ـ عز وجل ـ القول عليه بغير علم، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وحذر من الكذب في العلم، قال ـ جل جلاله ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
فالتقوُّل على الشرع بغير علم من الآفات الخطيرة لمن تلبس بها، وهي تدل على ضعف الدين، وحب المتقول للرياء، والمفاخرة بادعاء العلم، والتطاول على الدِّين. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] .
وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن أمور فَيَكِلُ فيها العلم إلى الله تعالى، ويظل منتظراً الوحي. قال الإمام مالك (ت 179هـ) : «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إمامَ المسلمين وسيدَ العالمين يُسألُ عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحيُ من السماء» (?) .
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم - من التقوُّل على الشرع بغير علم في قوله: «المُتَشَبِّعُ بما يُعْطَ، كَلابِسِ ثَوْبَي زُورٍ» (?) ، قال الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) معلقاً على الحديث: «ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يثبته؛ إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه؛ فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري، وهذا حرام» (?) .
وحذر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ من الفتيا والتقول على الله ـ تعالى ـ بغير علم؛ إذ قال: «من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] » (?) .
لقد تسارع أقوام من المنتسبين إلى العلْمِ على الشرف والمنصب، حباً في الدنيا وطمعاً في وظائفها، فتقوّلوا على الله ـ تعالى ـ وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (ت 751هـ) : «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله ـ تعالى ـ غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه» (?) .
وخشية الإطالة على القارئ الكريم، أوجز حديثي عن موضوع: (التقوّل على الشرع بِغَيرِ عِلم) في الأمور الآتية:
- التلاعب بأحكام الكتاب والسنة:
جاء التحذير من الذين يقرؤون القرآن، ثم يُغيّرون أحكامه وحدوده، ويتلاعبون به يميناً وشمالاً، ويَتَقَوَّلُون على الله تعالى. عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام غيَّرَهُ إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك» (?) .
ومن أمثلة التلاعب بالسنّة وكثرة الكذب في العلم في آخر الزمان، ما يدل عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم -: «يَكُونُ في آخر الزمان أناسٌ دَجَّالُون كَذَّابُون. يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعُوا أنتم ولا آباؤُكُم، فإياكم وإياهُم، لا يُضلُونكُم ولا يفتنونكم!» (?) ؛ فاستشراء الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم - دليل على مدى ضعف الأمانة في العلم والتقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله.
ومن أمثلة التلاعب بالعلم، ما روي أن أمير المؤمنين علي بن طالب ـ رضي الله عنه ـ دخل المسجد فرأى واعظاً يعظ الناسَ ويخوَّفهم؛ فما كان منه إلا أن سأله: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال له: هلكتَ وأهلكتَ، ثم أصدر أمره بمنعه من التحدث إلى العامة (?) .
ولأجل مواجهة المتلاعبين بالدِّينِ دأب الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على التثبت في التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فعن مجاهد قال: جاء بُشيرٌ العدوي إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فجعل يحدِّثُ، ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فجعل ابن عباس لا يَأْذَنُ لحديثه، ولا ينظُرُ إليه. فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لحديثي؟ أُحَدِّثُكَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع، فقال ابن عباس: «إنَّا كُنَّا مَرَّةً إذا سَمِعْنَا رجلاً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ابتدَرَتهُ أبصارُنا، وأصغَيْنَا إليهِ بآذَانِنَا؛ فلما رَكِبَ الناسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ من النَّاسِ إلا مَا نَعْرِفُ» (?) .
- التسرع في الفتيا قبل التأمل والدراسة:
حذر النبي -صلى الله عليه وسلم - تحذيراً شديداً من أن يفتي المرء بغير علم، أو يتقول على الشرع الحنيف؛ فقد جاء في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات؛ فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بذلك، فقال: «قتلوهُ قتلهمُ الله؛ ألا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إنَّما كان يَكْفِيهِ أن يَتَيَمَّمَ ويعصِرَ أو يعصِبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثم يَمْسَحُ عليها ويَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ» (?) ، وعدَّ -صلى الله عليه وسلم - الذين أفتوا الجريح بغير علم بمنزلة القتلة لأخيهم.
والمتأمل لما كان عليه الصحابة الكرام ومن بعدهم العلماء السابقون يجدهم يتدافعون الفتيا، ويخشون الإجابة على المسائل، خوفاً من التقول على الشرع. يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت 83 هـ) : «أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ذلك» وفي لفظ: «كانت المسألة تُعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول» (?) .
وكذا وصفهم الإمام سفيان الثوري (ت 161 هـ) : «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بُدّاً من أن يفتوا» (?) ، هذا على وفرة العلماء وعلو كعبهم في العلم، وإذا ما تأملنا حال العلماء في زمننا نجده يحفل بأناس ضعفت أمانتهم يتخبطون في الفتيا، ويتسرعون في إصدارها، دون تأن، وتثبت ودراسة.
ومن أمثلة ذم التسرع في الفتيا والتقول على الشرع بغير علم: «رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفْتِي من لا عِلْمَ لَهُ، وظهرَ في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال: ولَبعض من يُفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّراق» (?) .
ونقل الإمام ابن القيم عن بعض العلماء قولهم: «فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس لَهُ في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب» (?) ؛ فكيف الحال بأزماننا المتأخرة، وقد تجرأ في التقوُّل على الشرع من هَبَّ ودَبَّ بدون علم ولا ورع ولا أدب.
ومن الشواهد على التسرع في الفتيا قيام بعض طلبة العلم المبتدئين المستندين على التلقي المباشر من الكتاب والسنة بإصدار الفتاوى التي هي من شأن العلماء الراسخين (?) ، ويصدق على هؤلاء المتسرعين بالفتاوى قول الفقيه القاضي سحنون (ت 240 هـ) : «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه» (?) .
- اشتغال غير المختصين بمسائل العلم:
تحتاج مسائل العلم الدقيقة، والقضايا الفقهية، والفتاوى النازلة إلى من أفنى عمره في دراسة العلم ومسائله من العلماء الأثبات، المشهود لهم بسعة العلم، ودقة المعرفة، وسلوك الورع، ومعرفة الواقع، ومقاصد الشريعة، وربما أحاط أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية، لكن لا يعني ذلك القدرة على البحث والاستنباط في مسائل العلم الشرعي، وبحسب أصحاب التخصص التجريبي الإبداع في تخصصاتهم، وإفادة الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في مجالهم، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ.
ومن أمثلة ذلك: اشتغال جمع من أصحاب التخصصات في العلوم التجريبية بساحة التخصص الشرعي، وتطاولهم على كتب السلف في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وأصوله وغيرها، فوقعوا في مزالق خطيرة (?) .
ولا يُشَكُّ في حسن نية بعض الباحثين والدارسين، لكن لا يكفي المرءَ قراءتُه للكتب الشرعية ليصبح في عداد العلماء المتخصصين في الشريعة، بل لا بد من العكوف على سؤال العلماء، والإفادة منهم في فهم المراد من النصوص الشرعية، والإلمام بدقائق العلم الشرعي وآلته، والقدرة على النظر في الأدلة الشرعية، ومعرفة مظان الأحكام الشرعية في مصادر الشريعة، أُثِرَ عن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) في رواية ابنه عبد الله قوله: «إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به، ويعمل به، حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح» (?) .
وأحسن الإمام الشافعي إلى التنبيه على أهل العلم بضبط أصول العلم، وأدواته قبل الشروع في الفتوى؛ إذ قال: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمُحكمه ومتشابهه، وتأويله وترتيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي» (?) .
وما أجمل قول الشاعر في هذا:
متى ما أتيت الأمر من غير بابه ضللت وإن تدخل من الباب تهتدِ
- التحدث ببعض العلم المأثور أمام من قَلَّ فقهه وتأخرت رتبته:
يتحدث بعض أهل العلم في قضايا علمية في محيط أوساط المجتمع، والذي يحوي فئات متفاوتة في الفهم والاستيعاب، وربما تكلم في قضايا شرعية آلت إلى فتن عظيمة، ولا سيما في قضايا تهم الأمة، وتختلط فيها السبل، وليس من المصلحة إثارتها أمام العامة.
وبوب البخاري «باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهيةَ أن لا يفهموا» ثم ساق قول علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدِّثُوا الناسَ بما يعرفون، أتحبونَ أن يُكَذَّبَ الله ورسُولُه!» (?) ، وجاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله: «ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغهُ عقولُهُم، إلا كان لبعضهم فِتنةً» (?) .
وليس هذا من كتمان العلم المنهي عنه، بل هو من حسن إنفاقه في محله، وبذْله إلى أهله؛ ولذا ينبغي مراعاة ما ينشر من العلم والحق وفق المنفعة المترتبة منه. يقول الشاطبي (ت 790 هـ) : «ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص» (?) .