الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن ورطة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق أصبحت حديث الناس في العالم؛ فبالرغم من مرور عامين على الغزو الأمريكي لأرض الرافدين؛ فإن جوانب التورط الأمريكي هناك تتضاعف بصورة جعلت الانسحاب أمراً لا مفر منه في تفكير المعنيين بالشأن الأمريكي، مع اختلاف بينهم في شيء واحد فقط وهو: هل يكون الانسحاب خارجياً ونهائياً ـ كما يقول المعارضون لسياسة بوش ـ أم يكون انسحاباً داخلياً خارج المدن، كما يصر أركان إدارته من الذين خططوا ونفذوا تلك الحرب ضمن مشروع الإمبراطورية الأمريكية. وفي الحقيقة فإن كِلا الفريقين يدفعهم إلى التفكير الجدي في الانسحاب ما يرونه من تزايد غوص الولايات المتحدة في رمال العراق المتحركة، كلما قام المقاومون بتحويل تلك الرمال إلى بحار تُغرق وإعصار يدمر؛ ولذلك يجري البحث عن مخرج وعن جهة إنقاذ أو جبهة إنقاذ تخرج الولايات المتحدة من ورطاتها المتعددة.
- البحث عن مخرج عسكري:
يراهن الأمريكيون على إحلال عراقيين محل الأمريكيين في الجيش والشرطة، ولكن عدم النجاح يلاحقهم في ذلك، حيث يتتابع إخفاق بناء تلك القوة البديلة العميلة بشكل يبعث على الإحباط بين المسؤولين الأمريكيين، إلى الحد الذي يضطرهم إلى الكذب، وهو ما دفع المفكر الاستراتيجي الأمريكي (أنتوني كوردسمان) أن يسخر من هذا التصرف في مقال له في 1/2/2005م: قال فيه «نحن بحاجة إلى أن نتوقف عن الكذب على العراقيين والأمريكيين والعالم أجمع؛ فليس بحوزتنا الحد الأدنى من المسلحين المدربين؛ فالحد الأدنى يتطلب وجود 127 ألف جندي عراقي، إن كل من لدينا ـ وبكل صراحة ووضوح ـ 7 آلاف إلى 11 ألفاً فقط» .
ولكن الرئيس الأمريكي ما ذلك لا يزال يواصل الكذب في هذا المجال؛ فقد صرح أمام الصحفيين في 12/4/2005م، وهو يزم بشفتيه ابتسامة الكذوب: «إن القوات العراقية (المدربة) أصبحت الآن أكثر عدداً من القوات الأمريكية» !!
إنه يحاول أن يعطي انطباعاً بأن القوات الأمريكية أدت مهمتها، وهي تستعد لتسليم (الأمانة) للعراقيين، بعد أن أحرزت نصراً نهائياً في العراق، مع أن الحقيقة عكس ذلك؛ فالهزيمة الأمريكية في أرض الرافدين تتزايد بشائرها؛ فالجيش الأمريكي الذي جُهز في الأساس لمواجهة دول عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لم يدخل تلك المواجهة أصلاً ليظهر قوته، ولكنه حارب عدة حروب ضد قوى ضعيفة، زوَّر فيها انتصارات مزيفة، وها هو الآن، وبعد عامين من إسقاط النظام العراقي المنهك، لا يستطيع أن يحسم المعركة مع من يطلق عليهم: «مجموعات الإرهابيين والمتمردين» ، وهو ما جعل هذا الجيش يتردد في أن يكرر التجربة في إيران أو سوريا أو كوريا الشمالية.
وبالرغم من أن الحرب الأمريكية في العراق تجاوزت تكاليفها خلال العامين الماضيين 270 مليار دولار، فإنها لم تؤت النتائج المرجوة منها، ولو على صعيد بناء الثقة؛ فالدراسات المنشورة في الغرب الآن، تثبت أن 70% من الجنود الأمريكيين في العراق يعانون من حالات اكتئاب وخوف وتثاقل عن طاعة الأوامر العسكرية، حيث إنهم يعيشون في بيئة قاسية طقسياً وأمنياً ومعيشياً، وهو ما أدى إلى هروب نحو ستة آلاف منهم. وتشير الإحصاءات إلى أن ما لا يقل عن 65% من الشباب الأمريكي في سن التجنيد يتهربون من الالتحاق بالخدمة في أقوى جيوش العالم، بسبب أخبار الرعب من العمليات الاستشهادية في العراق.
الخسائر الأمريكية البشرية، مفجعة بالمقاييس الأمريكية المرفهة المترفة؛ فالإحصاءات الرسمية الأمريكية تقول إنه قتل بعد الإعلان الرسمي عن توقف الحرب ما يزيد على ألف وخمسائة جندي، وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين، بينما تذكر تقارير أخرى أضعاف هذا الرقم، ولا حل أمام الأمريكيين للخروج من التورط العسكري، إلا بإيجاد ما يمكن أن يطلق عليه (جيش عراقي) ولو كانت مهمة هذا الجيش فقط هي الحرب في الداخل؛ لأنه لم يعد للعراقيين أعداء في الخارج! إن تكوين هذا الجيش، هو إحدى المهام الكبار لحكومة إنقاذ الاحتلال.
- البحث عن مخرَج أمني:
لم تستطع الولايات المتحدة أن تثبت أنها جلبت الأمن للعراق، أو وضعت الأسس لاستقراره في المدى المنظور؛ فالتردي الأمني يأتي على رأس المشكلات التي فتحت الولايات المتحدة بابها، ولم تستطع أن تغلقه، وبالرغم من تسليم الأمريكيين (السيادة) للحكومة العميلة مع نهاية يونيو 2004م؛ فإنهم لا يزالون منهمكين بأنفسهم في سياسات الاعتقال والدهم للمنازل وإشاعة الرعب والخوف بين السكان في أكثر المدن، بالاشتراك مع قوات الشرطة العراقية. وبحسب آخر الاحصاءات؛ فإنه يوجد في السجون العراقية ما لا يقل عن تسعة آلاف معتقل منهم (3160) معتقلاً في سجن أبي غريب وحده الذي لا يتسع في الأصل لأكثر من 2000 معتقل، ويشرف البريطانيون على سجن (بوكا) بجنوب العراق، وهو يضم 5600 معتقلاً ـ يخضعون لعمليات التعذيب والإهانة نفسها التي حدثت في سجن أبي غريب، وهو ما كشفت عنه صحيفة (ديلي ميرور) الصادرة في الأول من مايو 2004م، والمعتقلون جميعاً يفرض عليهم لبس اللون البرتقالي أسوة بأسرى جوانتانامو، إشارة من الأمريكيين إلى أنهم ليسوا مقاومين، بل مجرمين خارجين على القانون.
وقد أصبح الانفلات الأمني خطراً يلاحق الأمريكيين في كل مكان، ولم يعد قاصراً على العسكريين، بل تعدى ذلك إلى كل من يتعاون معهم، بل طال العناصر الاستخباراتية والمنظمات الدولية وشركات النفط والاستثمار، وهو ما ينعكس سلباً على الاستقرار اللازم لتنفيذ كافة المخططات الأمريكية التي من أجلها كان الغزو؛ فشركات النفط الغربية والأمريكية ـ على سبيل المثال ـ كانت تأمل في أن يتحول العراق بعد الغزو إلى منجم ذهب لا ينضب، ولكن هذه الأحلام سرعان ما تبخرت بسبب عدم القدرة على ضبط الأمن، حيث يحتاج ذلك ـ كما يقول (بروس إيفرز) الخبير الأمريكي في شؤون النفط ـ إلى (معجزة حقيقية) .
إن هذه المعجزة هي الموكول أمرها إلى حكومة إنقاذ الاحتلال، حتى يطمئن خبراء نهب النفط ويتوافر الأمن لسراق العراق.
- البحث عن مخرج اقتصادي:
بالرغم من أن العراق لديه ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم، وثروات أخرى عظيمة مائية وزراعية وبشرية، إلا أن أحوال الشعب العراقي قبل الغزو لم تكن تعكس هذا الوضع، بسبب الحروب والحصار، وتصور الناس أن الوضع سيتحسن بعد الغزو، ولكن الحقيقة هي أنه بعد عامين من الاحتلال تضاعفت الأحوال الاقتصادية سوءاً؛ فقد ارتفعت أسعار بعض السلع والخدمات بشكل غير مسبوق، حتى وصلت إلى 2000% في مجال الوقود والمحروقات، وارتفعت أسعار اللحوم والخضروات والخبز وغير ذلك من الخدمات الأصلية من العقارات والإيجارات إلى نسبة 100 ـ 150%، في حين أن البطالة ارتفعت بعد الاحتلال لتصل إلى 30%، وتراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة الربع في عام 2004م. ولم يستطع الاحتلال أن يطعم الناس بدعاوى الديمقراطية وثقافة الحرية؛ لأن إدارة الاحتلال نشطت لنهب النفط بدلاً من تنشيط صناعته التي يُعول عليها في تحسين أداء الاقتصاد، وهي صناعة تفتقر إلى الآن للتمويل.. ويحتاج المحتلون الأمريكيون إلى من يخفي هذه الأوضاع المزرية بغطاء عراقي، حتى ترتفع عن الأمريكيين معرَّة سياسة إفقار العراقيين التي يواجهون ... وهذه مهمة جديدة من مهام حكومة إنقاذ الاحتلال، التي يتوقع أن تقسم ثروات العراق بين المحتلين وعملائهم المنتفعين من عصابات الطائفييين والعرقيين.
- البحث عن مخرج سياسي:
يحاول الأمريكيون أن يثبتوا أنهم جلبوا الديمقراطية للعراق ليعمموا نموذجها على المنطقة كلها، وانحياز أمريكا لعملائها من الطائفيين والعرقيين من الشيعة والأكراد، فضح هذه الديمقراطية الانتقائية غير المحايدة، وهو ما شكل أزمة سيظل شبحها يطارد السياسة الأمريكية الدولية التي غدت تجعل من «القيم» الديمقراطية ديناً جديداً تبشر بنشره في أنحاء العالم، ولم يكن أمام الأمريكيين إلا أن يأتوا بحكومة تخفي طائفيتها بطاقية التقية، لتشارك مع آخرين من العرقيين العلمانيين الأكراد، في التستر على جريمة العصر ضد العرب والمسلمين على أرض العراق.
ما يسمى بالعملية السياسية في العراق، يراد تصويرها على أنها منتهى الديمقراطية، مع أن الحقيقة تقول إن هذه العملية مرت بثلاث مراحل تدل على أن النحس الديمقراطي جاء بعملاء شعوبيين لا يقلون انتهازية ولا حقداً على العراق العربي المسلم السني من الأمريكيين أنفسهم.
ففي المرحلة الأولى من هذه المراحل: جاء الأمريكيون بحاكم عسكري أوحد، هو اليهودي الأمريكي (غاري غارنر) الذي لم يشأ الأمريكيون أن يكون له شريك في السلطة من العراقيين، ليضع الأسس لتسيير الأمور لصالح أمريكا دون تشويش حتى من العملاء.
وفي المرحلة الثانية: جاؤوا بحاكم مدني أمريكي وهو (بول بريمر) الذي بدأ في زرع العملاء والمنتفعين الطائفيين والعنصريين العرقيين فيما سُمي بـ (مجلس الحكم الانتقالي) مع حرص شديد على بذر بذور الاحتقان الطائفي الذي ستستفيد منه أمريكا فيما بعد، بتركيز الأمريكيين في هذا المجلس المشبوه على العناصر الشيعية والكردية العلمانية.
أما المرحلة الثالثة: فهي المرحلة التي توجه المحتل فيها نحو تكريس الطائفية والعنصرية بحصاد ما سبق أن زرعه بول بريمر؛ فعندما سنت إدارة الاحتلال ما يسمى بقانون إدارة الدولة في مارس 2004م، لتسلم السلطة للعراقيين على أساسه، وليكون أرضية تجري عليها عملية الانتخابات، جعلت من هذا القانون مدخلاً للتوجس بين طوائف الشعب العراقي وعناصره؛ بحيث تتحسب كل طائفة من الأخرى وتتحفز ضدها؛ فقد أعطى القانون امتيازات غير نزيهة للشيعة والأكراد ضد السنة، وكأن العراق أصبح ملكاً لأمريكا، نهبته ثم وهبته للعملاء (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق) كما فعلت بريطانيا مع اليهود في فلسطين.
ومن المؤسف أن الأمم المتحدة على المسلمين، أسبغت «الشرعية» على هذا العبث بصدور القرار 1546 من مجلس الأمن بإقرار هذا القانون، وقد تسببت هذه السياسة التمزيقية في زيادة التوتر والفرز الطائفي، وهو ما انعكس زيادة في النقمة من أهل السنة على الاحتلال وعلى كل من يدعمه.
لقد أسفرت هذه الأجواء عن ميلاد نوع جديد من الديمقراطية، تختلف عن الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الدستورية وديمقراطية الغوغاء وحتى ديمقراطية «الأنياب والمخالب» ، وهي «الديمقراطية الطائفية» التي لا تُدخل في صناديقها المذهبية والعنصرية، إلا أوراق الانتهازية النفعية. ومع ذلك لم يخجل هؤلاء الطائفيون والعنصريون من الادعاء بأنهم ديمقراطيون.
أسفرت الديمقراطية الطائفية عن تصعيد إبراهيم الجعفري (الشيعي) خلفاً (للشيعي) رئيساً للوزارة تضم 22 شيعياً وثمانية أكراد، وخمسة من السنة، وقد جاء الجعفري خلفاً للشيعي إياد العلاوي، وكان قبل تسلمه لمنصب رئيس الوزراء أول رئيس (شيعي) لمجلس الحكم المؤقت الذي شكله بول بريمر، وتلاه في التناوب عليه (الشيعي) أحمد الجلبي، عرَّاب الغزو، وعلقمي العصر. الذي تولى في الوزارة منصب نائب رئيس الوزراء، ووزير البترول بالنيابة. والجعفري الذي يتزعم حزب الدعوة الشيعي، لا ينافسه في الصدارة في حكومة (الطائفية الديمقراطية) إلا عبد العزيز الحكيم، زعيم مجلس «الثورة» الإسلامية (الشيعية) بعد أن فازت قائمته الائتلافية بغالبية أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) لتتحول تلك الثورة بعد ذلك إلى غورة؛ حيث انطفأت جذوتها ضد «الاستكبار العالمي» بمجرد أن حل هذ الاستكبار ضيفاً على العراق، بدعوة من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة، حتى إن عبد العزيز الحكيم ـ وبعد مرور عامين على الاحتلال ـ طالب ببقاء الأمريكيين، محذراً من أن انسحابهم سيفجر حمامات دم في العراق؛ وهو نفس الطلب الذي يلح عليه الطالباني العلماني.
وهنا نتساءل: مَنْ يحمي مَنْ في العراق..؟!
أَهُمُ الأمريكيون الذين يريدون الاحتماء بفرق الشيعة وميلشيات الأكراد، حتى يخرج المحتلون بسلام إلى (مستوطنات) القرى المحصنة خارج المدن، أسوة بإخوانهم اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟!
أم هم هؤلاء الشيعة والأكراد الذين يترجى عملاؤهم المحتلَّ أن يبقى حتى لا يتحول العراق إلى حمام دم بعد خروجه؟!
إن المأزق المشترك الذي يعيشه الطرفان، بسبب استمرار وتصاعد المقاومة، لم يمنع الشيعة مع كل هذا أن يقولوا: نحن حكومة ديمقراطية وطنية وليست شيعية، ولم يمنع الأكراد أن يقولوا: نحن لن نسمح بحكومة دينية أو عنصرية بل علمانية لا دينية؛ فالكل يريد أن يصور «الدم قراطية» الأمريكية في صورة (النسر النبيل) الذي يصطاد الحملان (الإرهابية) ليطعم بها الذئاب (الوديعة) في حزب الدعوة ومجلس الثورة الموجَّهين من وكلاء «قم» في العراق.
تُرى ما هو مصير حكومة الديمقراطية الطائفية العنصرية إذا تركها الأمريكيون وانسحبوا؟! وما هو مستقبل الأمريكيين في العراق إذا خذلهم الطائفيون عندما يكتشفون أن خسارة الديمقراطية الأمريكية أخطر عليهم من خسائر ديكتاتورية صدام، وماذا يفعل الأمريكيون إذا اقتضت الطائفية توريط الأمريكيين أكثر في المستنقع العراقي، وبخاصة إذا اقترب الخطر من المرجعية الأم في مدينة قم؟!
ستخبرنا الأيام عن مآل العراك في العراق بين مَنْ يقاتلون