معالم في التربية
صالح بن علي الكناني
إن المرتقى الذي بلغه عبد الله بن مسعود الهذلي -رضي الله عنه- حين وضع
قدمه على صفحة عنق أبى جهل -أعظم رمز من رموز الجاهلية في زمنه، بل هو
فرعون هذه الأمة - ذلك المرتقى كان صعباً حقاً، ولم يكن مرتقى لابن مسعود،
إنما كان مرتقى الإسلام على رغم أنف الجاهلية، ولم تبلغه الأمة إلا بعد معاناة
طويلة، وتربية شاقة دقيقة، ومحن وشدائد تنقطع دونها الأعناق.
واليوم والجاهلية تتبجح، وترفع عقيرتها بنداءات الكفر، وتستبد وتعربد ولا
تجد من يقف لها أو يردها عن حياض الإسلام، اليوم تظهر الحاجة - وإن تكن قد
ظهرت منذ زمن بعيد -إلى جيل يدير التاريخ كدورته الأولى، فيضع أمته على قمة
المرتقى، بعد أن استطابت عيش السفوح وحظائر الوديان قروناً طويلة، ولكي
يخرج هذا الجيل - البركان - لا بد له من تربية طويلة جادة، وصبر ومصابرة
على اللأواء والجهد، وتمحيص وتخليص من شوائب الاعتماد والعمل والمسار.
أقول هذا وقد رأيت شيئاً من الخلل والاضطراب في تربية شباب الإسلام، ما بين
فجاجة تلتقط الشاب من حمأة الجاهلية، فلا تمر به ساعات، أو أيام إلا وهو
(الداعية) المشار إليه بالبنان، أو رتابة تراوح به زمناً طويلاً فيقطع من عمره
سنوات ولم يبتعد عن نقطة البداية غير خطوات، والطريق أمامه طويل طويل،
والعودة إلى نقطة البداية أقرب وأيسر، وليته إذا عاد يقف عن نقطة البداية، ولكن
الغالب أنه يعود إلى ما قبلها وهنا تكون الكارثة. أو صياغة جزئية تأخذ من الإسلام
جانباً واحداً فتجعله إسلاماً كاملاً، وتغفل عن عمد أو جهل ما سواه، فيخرج لنا
أرباع رجال وأسباع وأعشار، وتغيب حقائق الدين الكبرى عن عيون أولئك، فلا
يرون إلا ذلك الجزء الذي تعلموه، وفى كل هذه الحالات للشيطان ظفر كبير.
من أجل ذلك كتبت هذه الأسطر، رجاء أن تعين على إنارة زوايا الطريق
للسائرين -كل السائرين - وهذه معالم التربية المطلوبة:
أولاً: هي تربية عقدية فكرية:
تقوم على نصوص الوحيين، وتلتزم منهج السلف الصالح في تفسيرهما
وفهمهما، والاستنباط منهما، وتنزيل أحكامهما على قضايا الواقع المعاصر، تربية
تجلي المفاهيم الاعتقادية، وتغرسها في أعماق القلوب، وتتعاهدها حتى تصبح
يقينيات راسخة، لا تتصدع لشبهة، ولا تنحني لرغبة ولا لرهبة، أصولها في
الأفئدة، وفروعها في الجوارح، وثمراتها في واقع الحياة، ومالها الروح والريحان، والمقعد الصدق عند المليك المقتدر، تروى بماء التوحيد الخالص، وتشرق عليها
شمس اليقين، ويحميها ذو القوة المتين، ويباركها الله رب العالمين، لأنها انطلقت
من علم صحيح: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ] [محمد: 19] .
ثانياً: هي تربية روحية:
قوامها الخشية، وتقوى الله في السر والعلانية، والخشوع عند سماع القرآن.، خشوعاً يملا القلب خوفاً من الله، ورجاء لما عنده، وحباً للقائه، خشوعاً تجري
معه ينابيع العيون، وتتفجر به أنهار الطمأنينة، وتلين لأصدائه الجلود.
ثالثاً: وهي تربية جماعية:
ترسخ مفهوم الأمة الواحدة، والجسد الواحد، يقوم بين أفرادها ترابط عضوي
مصيري قوي، حتى كأنهم البنيان المرصوص، ليس فيه لبنة شاذة ولا فاذة،
وتعمق في النفوس أن الذئب إنما يدرك من الغنم القاصية، مع التوازن والاعتدال،
فلا تغرق الفرد في بحر الجماعة فيضمحل ويتلاشى، ولا تحمله على أكتافها
فيتعالى ويتناشى، تحفظ له كيانه، وترتب له في البنيان مكانه، يلين هو في أيدي
إخوانه، ولكنه ليس بإمعة، بل هو ناقد بصير، إذا رأى ما يريبه نصح واجتهد
وبلغ، فإن نفع ذلك وإلا قال: لا، بملء فيه، من غير أن يهدم البنيان، أو
يزعزع الأركان.
رابعاً: وهى تربية متدرجة:
تعطي كل أحد ما يصلحه ويلائمه، وتعد لكل مرحلة ما يناسبها وتوفر لها
احتياجاتها، فلا تتجه لإعداد الولاة، في وقت تكون حاجتها إلى توفير الدعاة، ولا
تنصب السقوف وهى لم تُحكم بعد بنيان القواعد والعمد، وإن التجاوزات والقفزات
سبب للبلاء، وتجاهل المراحل والسنن الربانية، واستعجال الوصول قبل الآخرين، يعرض السائرين لمخاطر الافتراس أو الاندراس، وأيهما كان فالنتيجة متقاربة،
وإن مرحلة [كُفُّوا أَيْدِيَكُم] [النساء: 77] غير مرحلة [انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً]
[التوبة: 41] . فهي تلبس لكل حالة لبوسها، وحين تكون في مرحلة فإنها تعد
أحسن الإعداد وأكمله، لما يتلوها من مراحل، وإذا نظرت إلى الحاضر بعينين،
نظرت إلى المستقبل بألف عين.
خامساً: وهي تربية واعية:
تعرف ما يحيط بها من الأشواك، وما يصوب إليها من السهام، وما يوضع
في طريقها من العوائق والعواثير، وتدرك أن خفافيش الظلام لا يطيب لها طلوع
الشمس، ولذلك تثير الغبار، وتفجر قنابل الدخان، علها تحجب النور عن أبى
عامر الفاسق وأحفاده، لا ينفكون يحفرون الحفر ليقع فيها الدعاة المجاهدون، وأن
ابن أبي وسلالته داخل الصف يخذلون ويخبلون (إشارة إلى قوله تعالى في الآية
[47] من سورة المائدة [لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً] وأن أبا جهل
وورثته لا يزالون يقاتلون عن أحساب الجاهلية وموروثاتها، وأن الشهوانيين
والمارقين والحداثيين يقولون: [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] .
إنها تعلم الخطط وأربابها، وتبصر مساربها وأبوابها، وتحيط بكل ما يعلمه
الخصوم من مكر الليل والنهار، وتعي ما ينبغي أن يقال وكيف يقال، وما لا ينبغي
أن يقال، ومتى-إذا شاء الله تعالى-أن يقال.
سادساً: وهى تربية عالية:
تعلق النفس بمعالي الأمور، وترفعها عن سفسافها، وتفرغ النفوس من
حظوظها العاجلة، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا له، ولا توالي إلا فيه، ولا
تعادي إلا لأجله، وتتعلق بالمبادئ لا بالأشخاص، وكم جر التعلق بالأشخاص
والمسميات على أمة الإسلام من الفرقة والشتات، وذهاب الريح، وضياع الهيبة،
إنها تربية تجعل النفس تستجمع خصال الخير، وأبواب البر، ورؤوس الأخلاق
الفاضلة، تحب هداية الناس، وتسعى إلى ذلك ما استطاعت، وتفرح بها سواء
تحققت على يديها أو على يدي غيرها، تحسن أدب الاستماع والحوار، وتغتفر
زلات المجتهدين، وتحسن الظن بالصالحين، وتلتمس لهم المعاذير فيما أخطأوا فيه، وترى أخطاءهم - إن لم يكن بد من رؤيتها - تراها قطرات سيئات في بحار
حسنات.
سابعاً: وهي تربية جهادية جريئة:
ترى أن من أهم واجباتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، تقول الحق لا تخشى فيه لومة لائم، تعرف
الفرق بين المداهنة المرفوضة، والمداراة المقبولة، تفتح عيونها على الحق، ولا
تغمضها ولو للحظة عن الباطل، وترى أن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان
جائر، وأن «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره
ونهاه فقتله» -حديث حسن رواه الحاكم عن جابر.
وبعد:
أيها المربون الفضلاء! هل صبغت مناهجكم التربوية على نحو هذه الأسس؟
وهل كان التنفيذ على نحو الصياغة؟ ذلك ما نرجو أن يكون والله الهادي إلى سواء
السبيل، وهو وحده المستعان.