مجله البيان (صفحة 518)

أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام

محمد الناصر

2 - الشجاعة

كانت الشجاعة عند العرب صنو الكرم في تعشقهم لها، وافتخارهم بها.. إنها

إقدام في مواطن الإحجام، وعدم مبالاة بالحياة ولا بالممات. (والعرب لم تزل

رماحهم متشابكة وأعمارهم في الحروب متهالكة، وسيوفهم متقارعة، قد رغبوا عن

الحياة، وطيب اللذات ... كانوا يتمادحون بالموت، ويتهاجون به على الفراش

ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه) [1] .

لقد كانت الشجاعة مفخرة العربي.. ذلك أن أهل البادية بعيدون عن الحامية،

يحملون السلاح دائماً، يعيشون في العراء غير محتمين بأسوار وجدران أو أبواب،

وهم (يتجافون عن الجوع، ويتوجسون للنبات والهيعات، وينفردون في البيداء مدلين ببأسهم، واثقين بنفوسهم، قد صار البأس لهم خلقاً والشجاعة سجية) [2] .

إن الدفاع عن القبيلة وحماية محارمها، كان يفرض على العرب أن يعشقوا

الشجاعة والفروسية، وإن الصحراء تربي في نفوس أبنائها صفات الشجاعة

والجرأة والكبرياء العنيدة، كبرياء الرجال الأحرار (وإذا تقصينا حياة العربي منذ

طفولته أدركنا أن الشجاعة، ولدت معه، وأنه شب وكبر وهى تتمشى في دمه ...

وطالما فزع طفلاً على قعقعة السلاح، وصيحات المقاتلين، وسمع الأقاصيص عن

شجعان من القبيلة حموها وردوا المغيرين عليها، أو هجموا على أخرى وأجلوها،

ثم شب فرأى الأبطال في ميدان الوغى تتنازع، ثم كبر فشارك في المواقف وأفنى

العمر في المعارك فلا عجب أن كانت الشجاعة خلقاً عاماً عند العرب) [3] . وقد

اختار الغالب منهم سكنى البوادي على الحضر، لما كان فقد العز فيه، والجبن إنما

ينشأ من حب رغد العيش وطيب الحياة وعدم المبالاة بما يزري بعلو الحسب وأين

ذلك منهم؟ ولقد كابد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تأليفهم واتحاد

كلمتهم) [4] .

إن ما دعا إليه الإسلام هو الجوهر الحقيقي للشجاعة.. الشجاعة في الحق،

لا الحمية في الباطل، والجهاد الخالص، لا للسمعة والرياء [5] تلك الحمية التي

تجعل مائة ألف سيف تغضب لغضبة رجل، لا يسألونه في أي شيء غضب؟ !

مظاهر الشجاعة في الجاهلية: [6]

كان للشجاعة عند العرب مظاهر متعددة، ومن تلك المظاهر الأنفة والحمية

وإباء الضيم. يقول عنترة بن شداد:

لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل [7]

ومن مظاهر الشجاعة عندهم حب النجدة وإجابة الصريخ إذ لا يفعل ذلك إلا

الشجعان الأقوياء، ولا يتخلف عنه إلا المبلد الجبان. يقول طرفة بن العبد:

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد [8]

وكانوا يعتبرون حب المغامرة والترحال من مزايا الرجال الأشداء. يقول

النمر بن تولب:

خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن الجلوس مع العيال قبيح

فالمال فيه تجلة ومهابة ... والفقر فيه مذلة وقبوح [9]

ومن مظاهر شجاعتهم أيضاً إصرارهم على الثأر مهما كلف الأمر، وقد بالغوا

في ذلك كثيراً، وكان من محامد القبيلة أن تكثر قتلاها في الحروب، لأن هذا دليل

على ألفتهم لها. قال بشامة بن حزن النهشلي:

إني لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة: ألا أين المحامونا

لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا

ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات ييكونا [10]

على أن الشعر لم يكن كله تصويراً لشجاعة الشجعان وإنما سجل حالات كثيرة

من اعتراف الشاعر بجبنه أو جبن حلفائه أو عشيرته فليس كل عربي بشجاع في

الضرورة وإنما طبيعة الحياة البشرية أن تتنازعها بواعث عدة أو صفات شتى،

ولكل قاعدة شواذ..

لقد صرح كثير من الشعراء بفرارهم، وتلمسوا المعاذير لنفوسهم ولا تهمنا

هذه المعاذير، إنما يعنينا أنهم اعترفوا بالفرار ولم يكتموه، فر ذات يوم أوس بن

حجر من جموع بني عبس، واعتذر بأنه لما شهد الجموع خاف لأنهم شجعان،

ودافع عن نفسه بأن فراره اليوم لا معرة فيه لأن شجاعته مشهورة وبلاءه محمود.

فهو يقول:

أجاعلة أم الحصين خزاية ... علي فراري إذا لقيت بني عبس

وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا جربت منه الشجاعة بالأمس [11]

هذه الطاقات الهائلة، وهذه الشجاعة النادرة، (حتى بالهزيمة، فهي صراحة

جريئة) بعد أن كانت تسخر للغزو أو للثأر، وجهها الإسلام لإحقاق الحقوق، ورد

المظالم ونشر العدل في كل مكان.

الإسلام والشجاعة:

صار المسلم يقاتل في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن أجل إنقاذ المستضعفين في

الأرض. قال تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]

[البقرة: 193] .

أصبحت غاية الجهاد في الإسلام، مرضاة الله تعالى.، وجنة عرضها

السماوات والأرض: [إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] [التوبة: 111] .

إن الشجاعة عنوان القوة في الرجال، وعليها مدار إعزاز الأمة ورفع

شأنها، ولذلك عدها الإسلام من أكرم الخصال، وجعل المتصفين بها الأحب

إلى الله. يقول عليه الصلاة والسلام: ( «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من

المؤمن الضعيف» ) [12] ، ويقول أيضاً: ( «شر ما في المرء شح هالع. وجبن

خالع» ) .

وما كانت الشجاعة في الإسلام للتبختر والخيلاء، والاعتداد بالقوة والرياء،

وإنما جعلت لإظهار حق في هذه الحياة.. أو طمس باطل أمر الله بطمسه، ودفنه

وإخفائه [13] .

إن الشجاعة في نظر الإسلام، شجاعة مقيدة بأوامر الشرع فلا شطط ولا ظلم

ولا عدوان، إنما عزيمة صادقة لإحقاق الحق، وإرادة نافذة لضبط النفس عن

شهواتها ونزواتها. وقد تميز المسلمون بهذه الشجاعة النادرة، وكانوا عند أوامر

ربهم، فرفعوا لهذا الدين راية، وأصبحوا في شجاعتهم مضرب الأمثال، وقدوتهم

في ذلك كله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن

أنس -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق

ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعاً وقد سبقهم إلى

الصوت وهو على فرس لأبي طلحة (رضى الله عنه) في عنقه السيف وهو يقول:

«لن تراعوا لن تراعوا» . وفى حنين عندما انكشف المسلمون ثبت عليه الصلاة

والسلام، وفي ذلك يقول البراء بن عازب -رضي الله عنه-: (ولقد كنا إذا حمي

البأس نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الشجاع الذي يحاذي به) [14] .

لقد تخرج على منهج هذا الدين قادة عظام خاضوا معارك فاصلة في تاريخ

العالم، فخالد بن الوليد بطل اليرموك، وسعد بطل القادسية، وأبو عبيدة قائد فتوح

الشام ... أخضعوا الدول الكبرى من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله خفاقة ونشر

العدل والمساواة في رحاب الإسلام.

ولن يستطيع أبناء القصور الوارفة، والحلل الوثيرة من أبناء اليوم، أن

يستردوا ما فتحه هؤلاء الأصحاب الكرام، وإننا بحاجة لغرس أخلاق الرجولة

والشجاعة في أبنائنا، بدلاً من التباكي على مقدسات سلبت، وأعراض انتهكت،

وما ترك المسلمون الجهاد قط إلا أذلهم عدوهم واستباح حماهم.

الجرأة في تبيان الحق:

ومن الشجاعة الجرأة في تبيان الحق، وإنكار المنكر، ومن أفضل الجهاد

كلمة حق عند إمام جائر.

وكانت سيرة علماء هذه الأمة ناصعة، لأن الأمر بالمعروف واجب شرعي،

ومن هذه المواقف: موقف ابن تيمية رحمه الله مع قازان ملك التتار، ومما جاء في

مقابلته قوله: (أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام ... فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت) ، ثم خرج من بين يديه مكرماً معززاً. بذل نفسه في طلب حقن

دماء المسلمين فبلغه الله ما أراده وكان سبباً لتخليص غالب أسرى المسلمين من

أيديهم. وكان رحمه الله يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه [15] .

ومن العلماء العاملين العز بن عبد السلام، الذي نذر نفسه للجهر بكلمة الحق. ذكر السبكي في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد إلى

القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، فالتفت الشيخ إلى السلطان

وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح

الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم. الحانة الفلانية تباع فيها

الخمور. فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبى. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون:

[إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ] . وقد أمر السلطان بإقفال الحانة على الفور، ثم يسأل

الشيخ أحد تلاميذه: أما خفته؟ قال الشيخ: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط [16] .

واليوم: ابتعدت الشعوب عن رجولة العرب في جاهليتها لتحافظ على كرامتها

وعزتها، وعن شجاعة السلف الصالح الذين تفانوا في خدمة هذا الدين، استهانوا

بالموت فوهبت لهم الحياة الكريمة.

إن الفتن شديدة، والخطوب تحيط ببلاد المسلمين من أعدائهم في الشرق

والغرب، ولن يتصدى لهذه الشرور إلا فتيان عرفوا ربهم، وصفت عقيدتهم،

واستقام سلوكهم فتقدموا غير هيابين ولا وجلين: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015