بحوث
شرح اعتقاد أهل السنة في الصحابة
محمد عبد الله الوهيبي
إن اعتقاد أهل السنة في الصحابة يمثل الركيزة الرئيسية لدراسة تاريخهم -
رضي الله عنه-م، ولا بد أن يحصل الانحراف والتشويه لتاريخهم إذا درس بمعزل
عن العقيدة، ولأهمية هذا الموضوع نجد عامة كتب الاعتقاد عند أهل السنة تبينه
بشكل جلى، ولا يمكن أن نجد كتاباً من كتب أهل السنة التي تبحث جوانب العقيدة
المختلفة إلا ونجد هذا المبحث.
ولذلك أريد في بحثي هذا أن أبرز أهمية هذا الاعتقاد بجوانبه المختلفة،
ومدى الخطورة المترتبة على تركه من حيث بحث تاريخ الصحابة. وقد قسمته
كالتالي:
1، 2- أدلة عدالتهم من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة، اخترت أبرز
الآيات والأحاديث الظاهرة الدلالة على ذلك مع تعليقات بعض الأئمة.
3- منزلة الصحابة لا يعدلها شئ، بحثت فيه فضلهم على من بعدهم.
4- أنواع سبهم، وحكم كل نوع، وضحت فيه الفرق بين السب الذي يطعن
في عدالتهم وما دون ذلك، وكذلك من سب ما تواترت النصوص بفضله، وما دون
ذلك، ومن سبهم جملة أو سب بعضهم، وأشرت في آخر الفقرة إلى حكم من سب
أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه، ومن ثم أحكام بقية أمهات المؤمنين.
5- وأتبعت ذلك بحث الآثار المترتبة على السب أو لوازم السب.
6- وأخيراً بحثت الموقف فيما شجر بينهم وضحت فيه بعض الأسس
والجوانب التي ينبغي أن ينظر إليها الباحث حين بحثه لما شجر بينهم لكيلا يقع في
سبهم.
وبعد: أخي القارئ: لا أزعم أني سآتي بجديد، وإنما جمعت أقوالاً مختارة
للأئمة، ورتبتها ترتيباً معيناً لهدف محدد، وهو الدفاع عن أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فهو جهد يضم إلى كل الجهود التي يدافع أصحابها عن
الصحابة سواء في مجال العقيدة أو الفرق أو التاريخ أو الحديث أو غيره. [1]
1- من أدلة عدالتهم في الكتاب والسنة:
إن عدالتهم عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية أو مما هو معلوم من
الدين بالضرورة ويستدلون لذلك بأدلة لا تحصى من الكتاب والسنة.
عدالتهم في القرآن:
[لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] [الفتح: 18] . قال جابر بن عبد الله -
رضي الله عنه-: (كنا ألفا وأربعمائة) [2]
هذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم تزكية لا يخبر ولا يقدر عليها إلا
الله، وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ومن هنا رضي عنهم (ومن رضي عنه
تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا
منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا
يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضى عنه) [3] . ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح
مسلم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل النار إن شاء الله من
أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها» الحديث [4] .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا
عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه
أبداً.. فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه
عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو
علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك) [5] .
وقال ابن حزم: (فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي
الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم
ألبتة) [6] .
ومن الأحاديث الواردة في عدالتهم ما يلي:
1 -عن أبى سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف
شيء فسبه خالد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أحداً من
أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» [7]
رواه مسلم.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: ( ... وكذلك قال الإمام أحمد وغيره:
كل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به
فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك) [8] .
2 - وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
( «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة
لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابى ما يوعدون» ) رواه مسلم في فضائل
الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-أمان لأمته.
2 -منزلة الصحابة لا يعدلها شيء:
لا بد من تعظيم الصحابة ومعرفة أقدارهم ولو كان اجتماعهم به -صلى الله
عليه وسلم- قليلاً.
قال الحافظ ابن حجر ذاكراً ما يدل على ذلك: (فمن ذلك ما قرأت في كتاب
أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، قال: كنا عنده (أي أبى سعيد)
وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية فتناول رجل معاوية، فاستوى أبو سعيد الخدري
جالساً - فذكر قصته حينما كان في رفقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها
أبو بكر ورجل من الأعراب - إلى أن قال (أبو سعيد) : ثم رأيت ذلك البدوي أتى
به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أدري ما نال فيها لكفيتكموه) [9] قال الحافظ: ورجال
هذا الحديث ثقات (?) .
فقد توقف عمر رضى الله عنه عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه
لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن
شأن الصحبة لا يعدله شيء (?) .
روى البزار في مسنده بسند رجاله موثوقون من حديث سعيد بن المسيب عن
جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله اختار أصحابي على
الثقلين سوى النبيين والمرسلين» (?) .
حدثنا وكيع قال: سمعت سفيان يقول: في قوله تعالى: [قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ
وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم (?) . ...
فهذا الاصطفاء والاختيار. أمر لا يتصور ولا يدرك ولا يقاس بعقل ومن ثم
لا مجال لمفاضلتهم مع غيرهم مهما بلغت أعمالهم.
قال ابن عمر: (لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل
أحدكم عمره) ، وفى رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم أربعين سنة) ، رواه أحمد
في فضائل الصحابة وابن ماجة وابن أبى عاصم بسند صحيح قاله الألباني [10] .
من كل ما سبق ذهب جمهور العلماء إلى أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل
لمشاهدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه
بالهجرة أو النصرة أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد
ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة (إلا للذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من
بعده، فظهر فضلهم) [11]
قال الإمام أحمد رحمه الله في عقيدته: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن
الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال) [12] .
وقال النووي: (وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها
بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [13] . أيضاً
التزكية الداخلية لهم من الله عز وجل العليم بذات الصدور مثل قوله تعالى: [فَعَلِمَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ] وقبول توبتهم: [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ]
الآية، ورضاه عنهم: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ] ... إلخ، كل ذلك اختصوا به، فأنى لمن بعدهم مثل هذه التزكيات؟
لكن يقول قائل [14] : لقد وردت بعض الروايات الدالة على خلاف ما ذكرت
مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبى ثعلبة: «تأتي أيام للعامل فيهن
أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم» [15] .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا
رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: «قوم يكونون من
بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» [16] . فكيف الجمع بين هذه الروايات وما ذكر
سابقاً؟ .
أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة أهمها:
1 -حديث (للعامل فيهن أجر خمسين) لا يدل على الأفضلية لأن
مجرد زيادة الأجر على بعض الأعمال لا يستلزم ثبوت الأفضلية مطلقاً.
2 - أن المفضول قد توجد فيه مزايا وفضائل ليست عند الفاضل ولكن من
حيث مجموع الخصال لا يساوي الفاضل.
3 - وكذلك يقال الأفضلية بينهما (إنما هي باعتبار ما يمكن أن يجتمعا فيه
وهو عموم الطاعات المشتركة بين سائر المؤمنين، فلا يبعد حينئذ تفضيل بعض
من يأتي على بعض الصحابة في ذلك، أما ما اختص به الصحابة رضوان الله
عليهم وفازوا به من مشاهدة طلعته -صلى الله عليه وسلم- ورؤية ذاته المشرفة
المكرمة، فأمر من وراء العقل إذ لا يسع أحد أن يأتي من الأعمال وان جلت بما
يقارب ذلك فضلا عن أن يماثله) [17] .
4 -أما حديث أبى جمعة فلم يتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ
الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ أخرجه الطبراني. قال الحافظ في الفتح: (وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد
الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه، والله
أعلم) (17) .
وأخيراً ينبغي التنبيه في آخر هذه الفقرة إلى أن الخلاف بين الجمهور
وغيرهم في ذلك لا يشمل كبار الصحابة من الخلفاء وبقية العشرة ومن. ورد فيهم
فضل مخصوص كأهل العقبة وبدر وتبوك.. إلخ.
وإنما يحصل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة ولذلك استثنى
الإمام ابن عبد البر أهل بدر الحديبية [18] .
3 - أنواع سب الصحابة -رضي الله عنهم- وحكم كل نوع:
السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم من
السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحو هما [19] .
وسب الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض، فمن سب
بالكفر أو الفسق، ومن سب بأمور دنيوية كالبخل وضعف الرأي، وهذا السب إما
أن يكون لجميعهم أو اكثرهم، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم، وهذا الفرد إما أن
يكون مما تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك.
وإليك تفصيل وبيان أحكام كل قسم:
1-من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم فلا نشك في
كفر من قال بذلك لأمور من أهمها:
أ- أن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وبذلك يقع
الشك في القرآن والأحاديث لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول.
ب- لأن في ذلك إيذاءً له -صلى الله عليه وسلم- لأنهم أصحابه وخاصته
فسب أصحاب المرء وخاصته والطعن فيهم يؤذيه ولا شك، وأذى الرسول -صلى
الله عليه وسلم- كفر كما هو مقرر.
ج- أن في هذا تكذيباً لما نص عليه القرآن من الرضى عنهم والثناء عليهم
(فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي) [20] ،
ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً حكم هذا القسم: (.. وأما من جاوز ذلك إلى
أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نفراً قليلاً لا يبلغون
بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما
نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر
مثل هذا فإن كفره متعين.. إلى أن قال: ... وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من
دين الإسلام) [21] .
وقال الهيثمي رحمه الله: ( ... ثم الكلام (أي الخلاف) إنما هو في سب
بعضهم أما سب جميعهم، فلا شك في أنه كفر) [22] .
ومع وضوح الأدلة الكلية السابقة ذكر بعض العلماء بعض الأدلة التفصيلية
ومنها:
1-مر معنا تفسير العلماء للآية الأخيرة من سورة الفتح [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ] .. إلى قوله: [لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] الآية. استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه
الآية كفر من يبغضون الصحابة لأن الصحابة يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو
كافر، ووافقه الشافعي وغيره [23] .
2 - وفى الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: ( «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» ) وفى
رواية: ( «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق» ) .. ولمسلم عن أبى
هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( «لا يبغض الأنصار رجل آمن
بالله واليوم الآخر» ) ... فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقاً لا
يؤمن بالله ولا باليوم الآخر [24] .
3-ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
أنه ضرب بالدرة من فضله على أبي بكر ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناس
بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا وكذا ثم قال عمر: من قال غير هذا
أقمنا عليه ما نقيم على المفتري [25] . وكذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبى
طالب: لا يفضلني أحد على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري [26] .
(فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي -رضي الله عنهما يجلدان حد
المفتري من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمر على أبى بكر مع
أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب، علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا
بكثير) [27] ..
2- ومن سب بعضهم سباً يطعن في دينهم كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق وكان
مما تواترت [*] النصوص بفضله (كالخلفاء) فذلك كفر-على الصحيح -لأن في هذا
تكذيباً لأمر متواتر. روى أبو محمد بن أبى زيد عن سحنون قال: من قال في أبى
بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم من
الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد [28] . وقال هشام بن عمار: سمعت مالكاً
يقول: من سب أبا بكر وعمر قتل، ومن سب عائشة - رضي الله عنها قتل، لأن
الله تعالى يقول فيها: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] فمن
رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل [29] .
أما قول مالك في الرواية الأخرى: (من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة
قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن) [30] . فالظاهر- والله أعلم
- أن مقصود مالك -رحمه الله - هنا في سب أبي بكر -رضي الله عنه- فيما دون
الكفر، يوضحه بقية كلامه عن عائشة -رضي الله عنها حيث قال: من رماها فقد
خالف القرآن. فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه (ولا يشمل كل سب) ، وذلك لأنه
ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفَّر من هو دون أبى بكر [31] .
قال الهيثمي مشيراً إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبى بكر:
(.. فتلخص أن سب أبى بكر كفر عند الحنفية، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية،
ومشهور مذهب مالك أنه يجب به الجلد فليس بكفر، نعم، قد يخرج عنه ما مر
عنه في الخوارج أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالين إن اقتصر على السب
من غير تكفير لم يكفر وإلا كفر) [32] .
وقال أيضاً: ( ... وأما تكفير أبى بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- بالجنة فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي، والذي أراه الكفر فيها
قطعاً..) [33] .
وقال الخرشي: (من رمى عائشة بما برأها الله منه ... ، أو أنكر صحبة أبى
بكر، أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة أو واحداً منهم
كفر) [34] .
وقال البغدادي: (وقالوا بتكفير كل من أكفر واحداً من العشرة الذين شهد لهم
النبي -صلى الله عليه وسلم-بالجنة، وقالوا بموالاة جميع أزوج سول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأكفروا من أكفرهن أو أكفر بعضهن) [35] .
والمسألة فيها خلاف مشهود ولعل الراجح ما ذكرنا. وأما القائلون بعدم كفر-
من هذه حاله -فقد أجمعوا على أنه فاسق لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب يستحق
التعزير والتأديب على حسب منزلة الصحابي ونوعية السب. وإليك بيان ذلك:
قال الهيثمي: (أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم
فساق) [36] .
وقال ابن تيمية: (قال إبراهيم النخعي: كان يقال شتم أبي بكر وعمر من
الكبائر وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال
الله تعالى: [إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ] .. الآية وإذا كان شتمهم بهذه
المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد، ولا كفارة..
وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على
أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم.. وعقوبة من أساء فيهم
القول) [37] .
وقال القاضي (عياض) : وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب
الجمهور أنه يعزر ولا يقتل … [38] .
وقال عبد الملك بن حبيب:
(من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً، ومن
زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى
يموت ... ) [39] .
فلا يقتصر في سب أبى بكر -رضي الله عنه- على الجلد الذي يقتصر عليه
في جلد غيره لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها
مما يقتضي الاحترام لنصرة الدين وجماعة المسلمين، وما حصل على يده من
الفتوح وخلافة النبي -صلى الله عليه وسلم-وغير ذلك كان كل واحد من هذه الأمور
يقتضي مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه [40] ، وعقوبة التعزير
المشار إليها لا خيار للإمام فيها بل يجب عليه فعل ذلك.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً عن مساويهم ولا
يطعن على أحد منهم بعيب ولا ينقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان
تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه،
وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلّده الحبس حتى يموت أو يراجع) [41] .
فانظر أخي المسلم إلى قول إمام أهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم
ووجوب عقوبته وتأديبه. ولما كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب -عند بعض
العلماء- فحكم فاعله حكم أهل الكبائر من جهة كفر مستحلها.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبيناً حكم استحلال سب الصحابة: (.. ومن خص بعضهم بالسب فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله ...
كالخلفاء فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، ومكذبه كافر، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه، أو
إباحته فقد تفسق لأن سباب المسلم فسوق وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين بالكفر
مطلقاً والله أعلم) [42] .
وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عمن
شتم الصحابة، فقال: ما أراه على الإسلام، قال أبو يعلى: (فيحتمل أن يحمل
قوله: ما أراه على الإسلام، إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط
القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي) ثم ذكر بقية
الاحتمالات [43] .
يتلخص مما سبق فيمن سب بعضهم سباً يطعن بدينه وعدالته وكان مما
تواترت النصوص بفضله أنه يكفر - على الراجح - لتكذيبه أمراً متواتراً، أما من
لم يكفره من العلماء فأجمعوا على أنه من أهل الكبائر ويستحق التعزير والتأديب ولا
يجوز للإمام أن يعفو عنه ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابي، ولا
يكفر- عندهم -إلا إذا استحل السب، أما من زاد على الاستحلال كأن يتعبد الله عز
وجل بالسب والشتم فكفر مثل هذا مما لا خلاف فيه ونصوص العلماء السابقة
واضحة في مثل ذلك. وباتضاح هذا النوع بإذن الله يتضح ما بعده بكل يسر
وسهولة ولذلك أطلنا القول فيه
(يتبع)