أحمد بن صالح السديس
ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً معبراً للمؤمن في هذه الحياة، فقال: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ لا تهتز حتى تُستحصد» (?) . لقد اختلطت جذور الزرع في الأرض وتماسكت؛ فالريح ـ وإنْ أمالته ـ لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه. وكذلك المؤمن فإنّ المصائب وإنْ آلمته وأحزنته فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئاً؛ ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك.
وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم؛ فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال أو وظيفة تذهب معه طموحاته، وتفسد مخططاته ورغباته.
في هذه الدنيا منح ومحن، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام؛ فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بترح وحذر. وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!!
هكذا هي الدنيا، وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر؛ فذلكم دواء أدوائها. قال الحسن ـ رحمه الله ـ: «جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئاً أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره» . «وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر» (?) ، وكان أمر المؤمن ـ من بين الناس ـ أمراً عجيباً؛ لأنّه «إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له» (?) .
أمرنا الله بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية؛ فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] ، ثم أخبر مؤكِّداً أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم؛ فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] .
فالصبر سبب بقاء العزيمة، ودوام البذل والعمل، وما فات لأحد كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال، وبمفتاح عزيمة الصبر تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.
- ما يعين على الصبر على النوائب:
ونظراً لحاجة الناس جميعاً إلى هذه الخصلة، وافتقارهم الشديد إليها أقف معها وقفات، أذكِّر فيها بعشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب. وهي:
- أولاً: إعداد النفس:
على المسلم أن يهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأنْ يدرِّبها عليها قبل حدوثها، وأنْ يعمل على صلاح شؤونها؛ لأنّ الصبر عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى دربة عليه.
عليه أنْ يتذكّر دوماً وأبداً زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأنْ ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة، ومدداً منقضية، وقد مثَّل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حالَه في الدنيا «كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» (?) .
فلا تغترّ ـ أيها المسلم ـ برخاء، ولا تؤمِّلْ أنْ تبقى الدنيا على حالة، أو تخلوَ من تقلُّب وإصابة واستحالة؛ فإنّ من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها، وقد قال بعض الحكماء: «من حاذر لم يهلع، ومن راقب لم يجزع، ومن كان متوقِّعاً لم يكن متوجِّعاً» . ومن أحبَّ البقاء فليُعِدَّ للمصائب قلباً صبوراً.
- ثانياً: الإيمان بالقضاء والقدر:
من آمن بالقضاء والقدر، وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر، وأنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل اطمأنت نفسه، وهان أمره. ومن المشاهَد المعلوم أنّ المؤمنين هم أقلّ الناس تأثُّراً بمصائب الدنيا، وأقلُّهم جزعاً وارتباكاً؛ فالإيمان بالقضاء والقدر صار كصِمَام الأمان الواقي لهم ـ بإذن الله ـ من الصدمات والنكسات. إنهم مؤمنون بما أخبرهم به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف» (?) ، وبأنّ الآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه؛ فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وكَّل الله بالرَّحِم مَلَكاً، فيقول: أيْ ربِّ نُطفةٌ؟ أيْ ربِّ عَلقةٌ؟ أيْ ربِّ مُضغَةٌ؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أيْ ربِّ أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أمه» (?) .
قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ يوماً ـ: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حِلّه، أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار، أو عذابٍ في القبر، كان خيراً وأفضل» (?) . قال النووي ـ رحمه الله ـ: «وهذا الحديث صريح في أنّ الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تتغيّر عما قدّره الله ـ تعالى ـ وعلمه في الأزل، فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك» (?) .
وأتى ابنُ الديلميِّ أُبَيَّ بنَ كعب فقال له: وقع في نفسي شيء من القَدَر، فحدِّثْني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي. قال: لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه عذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحُد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمنَ بالقدر، وتعلمَ أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدَّثني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك» (?) .
- ثالثاً: تذكر حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح:
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة لكل مسلم، كما قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ، وفي تأمُّل حاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عظة وسلوى وعزاء؛ فقد كانت حياته كلها صبراً وجهاداً؛ ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ومات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال ـ وقد دمعت عيناه ـ: «إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (?) ، ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
ومن تأمَّل أحوال السلف الصالح وجدهم ـ رضي الله عنهم ـ قد حازوا الصبر على خير وجوهه، وقد قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة: 6] . تأمَّلوا حال عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ وقد ابتلي في موضع واحد بقطع رجله مع موت ابنه، فلم يزد على أنْ قال: «اللهمّ كان لي بنون سبعة فأخذتَ واحداً، وأبقيتَ لي ستة، وكان لي أطراف أربعة؛ فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة؛ ولئن ابتلَيْتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت» (?) .
ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فدفنه أبوه، ثم استوى على قبره قائماً، فقال وقد أحاط به الناس: «رحمك الله يا بُنيّ! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلتُ مذ وهبكَ الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله ـ تعالى ـ فيك منذ وضعتك في هذا المنْزل الذي صيَّرك الله إليه» .
- رابعاً: استحضار سعة رحمة الله، وواسع فضله:
المؤمن الصادق في إيمانه يُحْسِن ظنَّه بربه، وقد قال الله كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا عند ظن عبدي بي» (?) ، فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وأنّ أقداره خير في حقيقة أمرها، وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، وقد قال الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: «عجباً للمؤمن؛ لا يقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له!» (?) .
ثمَّ تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن؛ لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء! وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح. واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.
لمّا قتل الخضرُ الغلامَ الذي لقيه مع موسى أنكر موسى ذلك أول الأمر، حتى تبيّن له أنّ قتله كان لحكمة عظيمة، أخبر الخَضِر بها كما حكى عنه الله في كتابه فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80 - 81] ، وأخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» (?) ، وقال قتادة: «قد فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قُتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرضَ امرؤ بقضاء الله» (?) .
- خامساً: التأسي بغيره من أهل المصائب:
تأسَّوْا بغيركم، وتذكَّروا مصاباتهم، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم؛ فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع، وتذكَّروا أنّ «مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله» (?) .
ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ أصيب بما هو أشدّ، وليتذكَّرْ من فجع بحبيب مَن فُجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناء، وليتذكَّرْ مَن فقد أبناءً مَن فقد عائلة كاملة.
ليتذكَّر الوالدان المفجوعان بابنٍ آباءً لا يدرون شيئاً عن أبنائهم؛ فلا يعلمون: أهم أحياء فيرجونهم، أم أموات فينسونهم. وقد فقد يعقوبُ يوسفَ ـ عليهما السلام ـ ومكث على ذلك عقوداً من السنين، وبعد أنْ كبِر وضعف فقد ابناً آخر، فلم يزد على أنْ قال في أول الأمر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، ثمّ قال في الحال الثاني: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83] .
جاء رجل كفيف مشوَّه الوجه إلى الوليد بن عبد الملك، فرأى حاله، ولم ير عليه شيئاً من علامات الجزع، فسأله عن سبب مصابه، فقال: كنت كثير المال والعيال، فبتنا ليلة في واد، فدهمنا سيل جرّار، فأذهب كل مالي وولدي إلا صبيّاً وبعيراً، فندّ البعير والصبيُّ معي، فوضعته وتبعت البعير لأمسك به، فعدت إلى الصبي فإذا برأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وتبعت البعير فرمحني رمحة حطَّم بها وجهي، وأذهب بصري، فأصبحت بلا مال ولا ولد ولا بصر، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه.
- سادساً: تذكّر أنّ المصائب من دلائل الفضل:
المصائب من دلائل الفضل، وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك، وقد سأل سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صُلْباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (?) .
وقال عليه ـ الصلاة والسلام ـ: «مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ منه» (?) ، وأخبر أنّ «الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم» (?) .
- سابعاً: تذكر حُسن الجزاء:
ليتذكر كل منا حُسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه؛ فإنّ الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور من التعب، وما أقدم أحد على تحمُّل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجّلة، والصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل، و «إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء» (?) .
سأل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مستشكلاً وجلاً، فقال: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] ، فكل سوء عملنا جُزينا به؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تنصَب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟» ، قال: بلى! قال: «فهو ما تجزون به» (?) .
تذكَّروا ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وحسن الخلف والعوض.
فأمّا الأجر والثواب فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثواباً، وقد وعد بها كثير من الصابرين؛ فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرع إذا ما صبرت، كما حدَّث بذلك عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى! قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشف، فادْعُ الله لي! قال: «إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك» ، فقالت: أصبر. وقالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها» (?) .
ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة» (?) .
ووُعِد بها المؤمن الذي يصبر عند موت حبيب له، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يقول الله ـ تعالى ـ: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» (?) .
وكان لمن فقد ولداً نصيب كبير من البشارة بالجنة؛ لعلم الله بعظم مصيبته، وكونه بعباده رحيماً. فبشّر ـ عليه الصلاة والسلام ـ المرأة التي مات لها ثلاثة من أولادها بأنها احتمت بحمًى منيع من النار؛ فقد أتته ومعها صبي لها مريض، وقالت: يا نبي الله! ادعُ الله له! فلقد دفنت ثلاثة. قال: «دفنتِ ثلاثة؟!» ، قالت: نعم! قال: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» (?) . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيُّمَا مُسْلِمَينِ مَضَى لَهُمَا ثَلاثَةٌ مِن أولادِهِمَا، لم يبلُغُوا حِنْثاً كانُوا لَهُمَا حِصْناً حَصِيناً مِن النَّارِ» ، فَقَالَ أبُو ذَرٍّ: مَضَى لِي اثنان يا رسولَ اللهِ! قال: «واثنان» ، فقال أُبَيُّ أبُو المُنْذِرِ سَيِّدُ القُرَّاءِ: مَضَى لي واحدٌ يَا رسول اللهِ! فقال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «وواحدٌ؛ وذلك في الصَّدمة الأولى» (?) . وعن محمود بن لبيد عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة» ، قال: قلنا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: «واثنان» . قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد لقال: وواحد. قال: وأنا ـ والله ـ أظنّ ذاك» (?) .
وإليكما ـ أيُّها الوالدان المكلومان ـ حديثاً آخر ـ وحسبكما به عزاءً وتفريجاً ـ: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم! فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم! فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسَمُّوه بيت الحمد» (?) .
بل إنّ السِّقْطَ ـ وهو الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه ـ سبب لدخول أمه الجنة؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده إنَّ السِّقْطَ ليجر أمه بسَرَرِهِ إلى الجنة، إذا احتسبته» (?) .
وأما تكفير السيئات فقد جاء في الحديث الصحيح: «ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» (?) ، وفي الحديث الصحيح الآخر: «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (?) ، و «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» (?) .
والمصائب من أسباب رفعة الدرجات؛ فبالصبر عليها يبلغ العبد منْزلة لم يبلغها بعمله. جاء في مسند الإمام أحمد: «إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّرَه، حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سبقت له منه» (?) .
سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوماً: «ما تعدون الرَّقُوب فيكم؟» قالوا: الذي لا يولد له. قال: «ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدِّم من ولده شيئاً» (?) أي: يموت قبل أنْ يموت أحد أولاده، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأجر والثواب لمنْ قدَّم شيئاً من الولد، وأنّ الاعتداد به أكثر، والنفع فيه أعظم.
وهي من أسباب حسن الخلف والعوض، فقد يعوَّض من فقد حبيباً بآخر أحسن منه، وقد يعوَّض من فقد ولداً بولد أبرَّ منه وأنفع، وكم في ثنايا المحن من منح! أخبرت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها» . قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-» (?) .
ولذا فإنّ وفاة أحد الأبناء قد تكون خيراً لوالديه من وجوه؛ فقد يكون قد سبق في علم الله أنّ هذا الولد لو عاش لأتعب أبويه، كما مرّ في قصة الخضر والغلام، وقد يكون صبر الوالدين واحتسابهما سبباً لحسن الخلف، كما مرّ في قصة أم سلمة رضي الله عنها، وقد يكون دعاء المعزِّين والزائرين للوالدين: «اللهمّ اخلف عليهما خيراً، واجبر كسرهما، وأبدلهما خيراً منه» سبباً في صلاح إخوانه وتوفيقهم، وأنْ يُرزقا بخلف خير منه وأبرّ.
- ثامناً: كف النفس عن تذكر المصيبة:
على من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها، وتردادها في ذهنه وتجوُّلها، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، ولا ينمّيها ويعايشها؛ فإنها تصير أماني لا نفع منها ولا غنًى وراءها، وأمثال هذه الأماني رؤوس أموال المفاليس؛ لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ، وقد روي عن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: «لا تستفزُّوا الدموع بالتذكُّر» .
وممّا يقع فيه كثير ممّن أصيب بفقد حبيب أو قريب أنه يسعى إلى الاحتفاظ ببعض أشياء الميت التي تذكِّره به في كل حين، مما يحول دون برء جراحه، ويجدِّد همومه وأحزانه.
- تاسعاً: الابتعاد عن العزلة والانفراد:
ابتعد ـ أيُّها المصاب ـ عن العزلة والانفراد؛ فإنّ الوساوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره.
وأشغل نفسك بما فيه نفعك، واحزم أمرك، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات، واجعلها أنيسك ورفيقك؛ فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب.
- عاشراً: ترك الجزع والتشكي:
إيّاكم ـ عند المصائب ـ والجزعَ وكثرةَ الشكوى، فإنّ من غفل عن أسباب العزاء ودواعي السلوة تضاعفت عليه شدّة الأسى والحسرة، وهو بهذا كمن سعى في حتفه وأعان على تلفه، فلا يطيق على مصابه صبراً، ولا يجد عنه سُلُوّاً، ولئن كان الصبر مستأصِلَ الحَدَثان فإنّ الجزع من أعوان الزمان. من علم أنّ المقدَّر كائن والمقضيَّ حاصل كان الجزع عناءً خالصاً، ومصاباً ثانياً، وقد قال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23] . حُكي أنّ أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صُراخاً في دار، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون!
تذكَّروا أنّ الجزع لا يردّ الفائت، ولكنه يُحزن الصديق ويسرّ الشامت، ولا تقرنوا بحزن الحادثة قنوط الإياس؛ فإنهما لا يبقى معهما صبر، ولا يتّسع لهما صدر. وقد قيل: المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين. مات لرجل وامرأة ابنٌ يُحِبَّانِهِ، فقال الرجل لزوجته: اتقي الله واحتسبيه واصبري! فقالت: مصيبتي أعظم من أنْ أفسدها بالجزع.
وقال بعض العقلاء: «العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر ... فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود فما أحسن به أنْ يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره!» (?) .
وإنما تُنال درجة الصبر في المصائب بما يدخل تحت اختيار المرء؛ فتُنال بترك الجزع، وشقّ الجيوب، وضرب الخدود، والمبالغة في الشكوى، وإظهار الكآبة، وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم. وعليه أنْ يُظهر الرضا بقضاء الله تعالى، ويعتقد أنّ ذلك كان وديعة فاستُرجِعتْ، ويصنع كما صنعت أم سُليم ـ رضي الله عنها ـ حين مات ابن لها، فقالت لزوجها أبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ: «أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: «فاحتسب ابنك» . فلما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما» (?) .
وأخيراً: فإنّ الصبر على المصائب يُعقب الصابرَ الراحة منها، ويُكسبه المثوبة عنها، فإنْ صبر طائعاً وإلا احتمل همّاً لازماً، وصبر كارهاً آثماً، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سُلُوَّ البهائم. قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «إنّك إنْ صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور» (?) . وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «إنا وجدنا خير عيشنا الصبر» . وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قوله: «اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له» . وقال الحسن ـ رحمه الله ـ: «ما تجرَّع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة» . وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: «ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعه» .
جعلنا الله جميعاً من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.