مجله البيان (صفحة 5161)

أصل التوحيد

د. لطف الله خوجة

لا نعلم أمراً اجتمع كثير من الناس على التفريط فيه والغفلة عنه ونسيانه كاجتماعهم على التفريط في الدعوة إلى سؤال الله وحده، وترك سؤال المخلوق؛ فهذا الأمر بالرغم من كونه أصل التوحيد والدين، إلا أنه ما زال مجهولاً عند أكثر الناس، العامي منهم والمتعلم، ولا تكاد تجد أحداً يذكّر به، أو يلفت النظر إليه، بل جُلّ المواعظ منصبة على التحذير من الذنوب، والتحذير من كيد الأعداء، والحض على المسارعة في الطاعات، أما هذا الأصل الكبير فقلّ من يتكلم به، مع أن القرآن يوليه الأهمية الكبرى، والسنة تفسح له مكاناً كبيراً بالتفصيل والبيان البليغ، حتى ليخيل إلى المتأمل أن الدين كله في سؤال الله وحده.

فإذا تتبعنا آي القرآن وجدناها تحرض على سؤال الله تعالى، وتأمر به:

ـ تارة ببيان أن الفضل له. يقول ـ تعالى ـ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] .

ـ وأخرى ببيان قربه من عباده، وسماعه كل ما يسألونه، وإجابته لهم. يقول ـ تعالى ـ: ـ {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .

ـ وثالثة بوعيد من استغنى، فلم يرفع حاجاته إلى الله تعالى، واستكبر عن سؤاله. يقول ـ تعالى ـ:

ـ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]

ـ ورابعة بالترغيب في سؤال الله وحده، والتنفير من سؤال الخلق، بوصفهم لا يملكون شيئاًً. قال الله ـ تعالى ـ:

ـ {إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]

ويقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] .

ويقول: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 2 ـ 3] .

ـ خامسة بالثناء الكبير على المستعفين المستغنين عن سؤال الناس. يقول الله ـ تعالى ـ:

ـ {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} [البقرة: 273] .

والآيات في هذا المعنى كثيرة. وإذا التفتنا إلى السنة وجدناها تفصِّل في هذه القاعدة تفصيلاً دقيقاً:

ـ فتارة ينهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل أحد شيئاًً لا يحل له فيقول: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم» (1) .

ـ وأخرى يحث على العمل والتكسب حتى لا يتعرض لسؤال الناس فيقول: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (2) .

ـ وثالثة يخبر بأن الجنة ثواب من عفَّ عن سؤال الناس. يقول ثوبان ـ رضي الله عنه ـ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاًً فأتكفل له بالجنة؟ فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحداً شيئاًً» (3) .

ـ وفي الرابعة يبلغ به الحرص لتأصيل هذا الركن فيجعله من بيعته لأصحابه؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: «كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون» ؟ ـ وكنا حديثي عهد ببيعة ـ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلامَ نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاًً، والصلوات الخمس وتطيعوا. وأسرَّ كلمة خفية: ولا تسألوا الناس شيئاًً؛ فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه» (4) .

ـ وخامسة لكون هذا الأمر من أصول الدين؛ فقد كان يبادر به الصبيان والصغار، فيأمرهم به، كما كان يأمرهم بالصلاة لسبع، فها هو يقول لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو غلام صغير:

ـ «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» . ويؤكد له هذا المعنى بقوله: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» (5) .

ـ وسادسة كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يستغل كل مناسبة وحادثة؛ ليبين للناس أن سؤال الله ـ تعالى ـ أجدى لهم من سؤال غيره، فيقول: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (6) .

ـ وعن أبي سعيد الخدري أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر» (7) .

وقد انتفع الصحابة من موعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، ورسخت فيهم هذه القاعدة؛ فكانوا لا يسألون أحداً شيئاًً، كما مر معنا في حديث عوف وثوبان. جاء حكيم بن حزام فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال:

«يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع.. اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا» ؛ فكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر ـ رضي الله عنه ـ دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاًً، فقال: «إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه» ، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي (8) .

ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يأمرهم بما يأمرهم به إلا ممتثلاً قولاً وعملاً لما يدعو إليه، وذلك كان له أبلغ الأثر في قلوبهم وسلوكهم؛ ففي رحلة الهجرة قدم له أبو بكر راحلة ليركبها فأبى إلا بالثمن (9) .

ومن هنا فلقد تربى الصحابة على سؤال الخالق وحده وترك سؤال المخلوق، ولو كان هذا المخلوق هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يكونوا يسألونه شيئاًً من أمر الدنيا، بل كانوا يسألون الله ـ تعالى ـ ويطلبونه منه قبل كل شيء.

ـ «لما نزلت براءة عائشة قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله! قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» (1) .

ـ «ولما نزلت توبة كعب بن مالك جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: «أمن عندك أم من عند الله» ؟ قال: «لا؛ بل من عند الله» (2) .

لم يغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا السؤال، ولم يعدَّ موقفه وموقف عائشة ـ رضي الله عنهما ـ من سوء الأدب؛ لأنه هو الذي رباهم على هذه القاعدة التي هي من أصول الدين، وليس في ذلك سوء أدب، بل هو الأدب كله مع الله تعالى؛ حيث لا ينبغي لأحد أن يقدم على حق الله ـ تعالى ـ حق أي من البشر، ولو كان نبياً.

ولقد كان الأصل في كبار الصحابة أنهم لا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لأنفسهم، هذا في أمور دنياهم، أما في أمور دينهم فقد كانوا ينتظرون ما يأتي به، ولم يكونوا يتقدمون بين يديه، وكان من أدبهم أنهم لم يسألوه إلا أربع عشرة مسألة كلها في القرآن كقوله ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ... } [البقرة: 215] .

نعم! قد كان بعض الصحابة الذين لم يلازموا رسول الله الملازمة الكاملة يسألونه شيئاً من أمور الدنيا؛ فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يترفق بهم، ويربيهم، ويدلهم على الأحسن والأفضل.

ـ عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ادع الله أن يعافيني! قال: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك» ؛ فخيّره بين أمرين ورغّبه في الصبر، ووصف ذلك بأنه خير له من دعائه له، لكنه قال: ادعه! فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ» (3) . رغبه في دعاء الله والالتجاء إليه وحده، لكن لما أصر على دعائه له علمه شيئاً فيه خير له، فأمره بالدعاء مع دعاء النبي له، وهذا فيه غاية النصح؛ حيث علمه أن يرغب إلى الله، ولا يكتفي بدعاء أحد له، ولو كان هذا الداعي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ـ ومثل هذا أن امرأة كانت تصرع فسألت النبي أن يدعو لها، فقال لها: «إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك» (4) ، وهذا أيضاً في نفس المعنى، إذ خيَّرها بين الدعاء وبين الصبر، وجعل صبرها ورغبتها إلى الله ـ تعالى ـ خيراً من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها. ومثل هذا كثير.

في كل ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على تعليق قلوب الصحابة بالله ـ تعالى ـ بالسؤال والرغبة، ويصرفهم عن سؤال غيره مهما كان شأنه، ولولا أنه من أصول الإيمان والدين لما اعتنى به هذه العناية.

وبعد: فقد رأينا كيف حرص الشارع على ترسيخ هذه القاعدة في نفوس الناس، والدارس المتعمق لهذه القضية في النصوص الشرعية وأحوال الرسل والأنبياء لا يتردد لحظة أن يخرج بقاعدة مفادها أن:

«أصل التوحيد سؤال الله تعالى، وأصل الشرك سؤال غير الله تعالى» .

تشرَّب الصحابة تلك القاعدة العظيمة، فتلاشى من بينهم التنازع والتناحر على الدنيا، وأخلصوا عملهم لله تعالى، وكان ذلك من أهم أسباب ثباتهم على دينهم من بعده. لما مات -صلى الله عليه وسلم- قام تلميذه الأول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في الناس خطيباً فقال:

«أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] » (5) .

فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- علمهم أن يعبدوا الله وحده، ويسألوه وحده كل شيء: «ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى شسع نعله إذا انقطع» (6) .

فلما مات كانت قلوبهم قد اتصلت بربها الحي الذي لا يموت، فتسلت وصبرت وثبتت فلم تنتكس، وقامت بما عليها من واجب تجاه دينها، ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رباهم على التعلق به لا بالله ـ تعالى ـ لما كان منهم ذلك، بل لما انتشر الدين، ولما عزّ الإسلام من بعد.

إن الصحابة عاشوا وهم يحملون في قلوبهم تعظيم الله وحده والثقة به، وسؤاله على الدوام كل صغيرة وكبيرة؛ ولذا كانوا نموذجاً فريداً في التاريخ من حيث التحمل والصبر والبذل والثقة بالله ـ تعالى ـ والإيمان.

ـ لما كتب أبو عبيدة عام اليرموك إلى عمر يستنصره على الكفار، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى الناس، وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف، وأشار على عمر أن يخرج بالناس، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، فكتب إلى أبي عبيدة يقول: «مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة، فيُنزلها بالله، يجعل الله له فرجاً ومخرجاً؛ فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم» (1) .

إن موقف عمر ـ رضي الله عنه ـ يعد في ميزان كثير من الناس إلقاءً بالنفس إلى التهلكة، وتعرضاً للهزيمة المؤكدة، لكن عمر كان يعلم أن النصر من الله تعالى، ولأن قلبه معلق بالله ـ تعالى ـ لم يتعود إلا سؤاله، ولم يغفل في تلك اللحظة الحرجة حين جاءه الكتاب عن الحقيقة التي تربى عليها، وتذكر أن الله ـ تعالى ـ فوق كل شيء، وقال ما قال بثقة كاملة وإيمان راسخ.

بعد أن عرضنا النصوص والآثار في المسألة بقي أن نعرِّج إلى فوائد سؤال الله ـ تعالى ـ ومفاسد سؤال الخلق التي بها نؤكد صدق تلك القاعدة السابقة، وموافقتها لما جاء عن الشرع.

إن الذي يعتاد سؤال الله ـ تعالى ـ وحده ينعم بنعمتين كبيرتين:

ـ الأولى: لذة المناجاة.

ـ والثانية: محبة الله.

أما عن لذة المناجاة: فالإنسان له حوائج لا تنتهي، ومسائل لا تنقضي، فإذا كان لا يسأل إلا الله تعالى، فإنه يكون دائم الصلة به، وذلك يفتح له باب معرفة الله تعالى. هذه المعرفة وتلك الصلة من خلال التضرع والسؤال الملحّ تفتح على الإنسان من أبواب الرحمة والإيمان ما لم يكن يعلم؛ فيجد لذة الإيمان ولذة المناجاة؛ فالقرب من الرحيم الكريم العظيم يورث النفس طمأنينة وسعادة؛ بخلاف الذي لا يسأل الله ـ تعالى ـ فإنه يفقد الصلة به، وإذا لم يتصل بالله اتصل بغيره من المخلوقين، والاتصال بالمخلوقين وذكرهم بلية وداء، كما يذكر عن عبد الله بن عون قوله: «ذكر الناس داء، وذكر الله دواء» (2) .

فهذا التوجه إلى الله ـ تعالى ـ يعود بالأثر الطيب على النفس. كما يذكر عن بعضهم قوله: «إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته، وحلاوة مناجاته، ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضت انصرفت» (3) ، وصدق الله ـ تعالى ـ حين قال: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .

وأما عن محبة الله تعالى: فإن الإنسان إذا كان لا يسأل إلا الله، عرف الله ـ تعالى ـ حق المعرفة من إجابته له؛ فما يسأل الإنسان ربه شيئاً من الخير إلا أعطاه، فإذا جرب سؤاله على الدوام، رأى كيف يكون إكرام الله له، من حيث الإجابة، أو صرف السوء، أو ادخار الحسنات له، كما جاء في الحديث أن الداعي له إحدى ثلاث:

ـ إما أن يعجل له بالإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له (4) .

وهذا مما يولد في قلبه المحبة لله تعالى؛ حيث يراه محسناً رحيماً به، رؤوفاً كريماً جواداً، عفواً غفوراً تواباً براً رزاقاً؛ فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، والذي يعتاد سؤال الله يعرف مدى إحسان الله ـ تعالى ـ إليه في قضاء حوائجه كلها.

كل هذه المزايا والبركات غير حاصلة في سؤال المخلوق، بل سؤال المخلوق فيه مفاسد كثيرة، منها:

ـ أولاً: سؤاله يورث القلب الظلمة والألم؛ لأنه اتصال بمن خُلق ظلوماً جهولاً، والاتصال بالظالم الجاهل يؤثر في النفس بالظلمة والجهل.

ـ ثانياً: التعلق بهم إن هم أجابوه حباً وخضوعاً وطاعة، وهذا فيه طعن في توحيده وإخلاصه لله تعالى.

ـ ثالثاً: أنه يبقى في منّتهم وعلوهم عليه وذله لهم، ومثل هذه عبودية لا تنبغي إلا لله تعالى.

ـ رابعاً: أنه يجب عليه أن يكافئهم؛ فقد لا يقدر فيبقى أسيراً لهم، كما قال بعضهم: (ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له) (1) .

ـ وقال بعضهم: «احتجْ إلى من شئت تكنْ أسيره، واستغنِ عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره» (2) .

وقد يقدر على المكافأة، لكن لا يمكنه ذلك إلا بخرق دينه والتنازل عن مبادئه.

وإذا قدر على المكافأة دون أن يخرب دينه فلا أقل من أن يكون قد استهلك زمناً من عمره في همّ قضاء الدين ما لو قضاه في سؤال الله والسعي في الرزق لكان خيراً له.

ـ خامساً: ذلك حال إجابتهم سؤاله، أما إذا لم يجيبوه فالنتيجة التنازع والتناحر والقطيعة والتباغض والحقد والحسد؛ فكم من عداوات وقعت، وأرحام تقطعت، وأحوال طيبة تبدلت بسؤال سائل لم يجد إجابة أو عوناً!

ـ سادساً: وأخطرها أنها تفضي بكثير من الناس إلى التعبد لغير الله تعالى؛ والإسلام حرص غاية الحرص على سد كل منافذ الشرك والعبودية لغير الله تعالى؛ فمن ذلك: أنه منع الواسطة بينه وبين خلقه، وأمر بالسؤال منه مباشرة، ونهى عن اتخاذ الشفعاء لأمرين:

ـ الأول: حتى تكون العبادة خالصة له.

ـ الثاني: حتى لا يُحرم الإنسان فرصة القرب من الله والقبول. وبيان هذا:

أن الإنسان أذل ما يكون في حالين:

ـ الأول: بعد الذنب.

ـ الثاني: حين الحاجة.

أما بعد الذنب: فشعوره بعِظَم ما أتى وانكسار نفسه، وخوفه من الله ـ تعالى ـ والحياء منه؛ هي فرصته للإقبال على الله تعالى، والفوز بالتوبة والقرب؛ حيث إن الله ـ تعالى ـ يحب من عبده الانكسار له والذل والخضوع، وهو يكره العُجب والكِبْر ولو بالطاعة؛ فمن انكسر له وذل وخضع رفعه وقرَّبه. فعلى العبد أن يستغل فرصة الندم والذل والانكسار بعد الذنب بسؤال الله وحده أن يغفر له.

والشيطان في هذه اللحظة أحرص ما يكون على استغلال هذا الظرف العصيب بالغواية والوسوسة: بأن الله لن يقبل الإنسان وهو على هذه الحال؛ فهذا ما فعله مع المشركين قديماً؛ حيث أغراهم وزين لهم أن الله ـ تعالى ـ لن يقبلهم وهم متلطخون بالمعاصي، إلا بأن يتوسلوا بالصالحين الطاهرين؛ فاستجابوا لوسوسة الشيطان، وفوَّتوا على أنفسهم فرصة المغفرة والقبول والقربى، وانجرّوا إلى الشرك؛ بما صنعوا من التوجه إلى غير الله ـ تعالى ـ وسؤالهم باسم الشفاعة والوسيلة.

وقد وقع مثل هذا في المسلمين، حيث صار منهم من يعبد الأولياء والأضرحة باسم الولاية، وجعلوهم الواسطة بينهم وبين الله، وهذا هو بعينه ما فعله المشركون، والله ـ تعالى ـ كره ذلك منهم، وكفرهم به؛ حيث قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] .

إن الله ـ تعالى ـ يقبل سؤال العبد أن يغفر له مهما أتى من الذنب.

ـ ألم يغفر الله ـ تعالى ـ لمن قتل مائة نفس (3) ؟

ـ ألم يغفر لبغِيٍّ سقت كلباً من عطش، فشكر الله لها فغفر لها (4) ؟

ـ وهو الذي يقول: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة) (5) .

كل هذا تأكيد وتحريض من الله ـ تعالى ـ لعباده أن يسألوه وحده كل شيء من أمور الدنيا والآخرة؛ حتى لا يفتحوا على أنفسهم باب الشرك.

ـ وحين الحاجة: يكون الإنسان أذل ما يكون لمن يقضي حاجته، والله ـ تعالى ـ يحب من عبده الذلة له، فإذا ترك سؤال الله ـ تعالى ـ وتوجه إلى سؤال المخلوق ذل لمن لا يستحق أن يذل له، وترك من يستحق أن يذل له.

إن خزائن الله ملأى لا تنفد، والله يرزق بغير حساب؛ فينبغي لنا:

1 ـ أن نثق بالله تعالى، وندعوه ونحن موقنون بالإجابة، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» (1) .

2 ـ أن ندعوه تضرعاً وخفية، كما قال ـ تعالى ـ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] .

3 ـ أن ندعوه بعزم وإلحاح. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكرِه له» (2) .

4 ـ أن لا نستعجل الإجابة. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت فلم أرَ يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» (3) .

فإذا فعلنا ذلك رأينا كيف يكون إكرام الله ـ تعالى ـ لمن دعاه؛ فالله ـ تعالى ـ يفرح بدعوة العبد له؛ وهذا بعكس المخلوق فإنه يغضب من السؤال، لشعوره بالنقص والفقر. قال ابن تيمية:

«فالرب ـ سبحانه ـ أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما تكون عليهم أحوج ما تكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم؛ فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم؛ فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟» (4) .

ـ كلما اعتاد الإنسان سؤال الله ـ تعالى ـ فتح لنفسه أبواب الإيمان والتوحيد، وأغلق عنها أبواب الشرك.

ـ وكلما اعتاد سؤال المخلوق فتح على نفسه باب الشرك، وأغلق عنها باب التوحيد؛ ولأن هذه القاعدة من قواعد الإسلام العظيمة فقد لفتت نظر العلماء، فبنوا عليها أحكاماً فقهية:

ـ فالحج لا يجب بالهبة؛ فمن لم يملك الزاد والراحلة لم يجب عليه قبول الهبة من أجل أن يحج، ولو كان الفريضة، حتى لا تكون للمخلوق عليه منّة. قال ابن تيمية في شرح العمدة: «فإن كان قادراً على تحصيله بصنعة أو هبة أو وصية أو مسألة أو أخذٍ من صدقة أو بيت المال لم يجب عليه ذلك» (5) : أي الحج.

ـ وكذا لا يلزم قبول الهبة لمن عدم السترة في الصلاة، مع كون ستر العورة من شروط الصلاة، جاء في الروض المربع: «وإن أعير سترة لزمه قبولها» ؛ لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه، بخلاف الهبة للمنة، ولا يلزمه استعارتها» (6) .

ولأجل ما سبق قال الإمام ابن تيمية: «سؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله ـ تعالى ـ أفضل» وأسند ذلك لي الإمام أحمد رحمه الله (7) .

فهذه قاعدة مهمة: أن الأصل في سؤال الخلق أنه محرم، لكن لما كانت بعض حاجات الناس لا تقضى إلا بالسؤال فيما بينهم، حتى يتم التعاون والمودة والتكافل أباح الله هذا السؤال، على أن لا يتجاوز الحد؛ بحيث لا يكون هو الديدن والأصل، فيسأل كل شيء من غير تفريق بين ما يحسن وما لا يحسن، ولا بين الضروري وغير الضروري، وإذا تعرض لسؤال اضطراراً فيجب عليه أن يرُد بالمثل، ويجتهد في الرد بأحسن من ذلك، فإن لم يقدر لضيق في رزقه فليجتهد في الدعاء لمن أسدى إليه معروفاً.

يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه» (8) .

وبعد هذا العرض حول هذه القضية الخطيرة المهملة ليس أمامنا طريق نسلكه نعلم عاقبته إلا هذا الطريق:

ـ فأوْلى ما نربي نفوسنا عليه هو تربيتها على سؤال الله وحده.

ـ وأوْلى ما نربي أولادنا وأهلينا عليه هو ذلك.

ـ وأوْلى ما نربي الناس عليه هو هذا الأمر العظيم.

ويقيني أننا لو أخذنا بهذا المبدأ تعلماً وتعليماً ودعوة وترسيخاً بالتكرار، في كل مناسبة وحادثة، كما كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يفعل؛ فإن ذلك سيحل كثيراً من المشكلات التي تعترض طريقنا في هذه الدنيا، من أصغر شيء إلى أكبره، من الذنب الصغير إلى الذنب الكبير، من الصغيرة إلى الكبيرة إلى الشرك، كلها ستحل، وكل أخطائنا ستتلاشى، وكل شيء في حياتنا سيحسن وسيطيب، كما طابت حياة الصحابة والصالحين، فلتكن هذه القاعدة المهمة منا على بالنا في كل وقت وآن!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015